فراشة‭ ‬في‭ ‬بيتي

الجمعة 2016/07/01

فراشة‭ ‬عند‭ ‬عتبة‭ ‬بيتي؟‭ ‬حدث‭ ‬لا‭ ‬يُصدّق‮ ‬‭! ‬فكل‭ ‬النوافذ‭ ‬مُقفلة؛‭ ‬حتى‭ ‬شبّاك‭ ‬الفسحة‭ ‬التي‭ ‬تُفضي‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬المنزل‭ ‬حرصتُ‭ ‬على‭ ‬إحاطة‭ ‬إطاره‭ ‬بحاجز‭ ‬دقيق‭ ‬الحبكة،‭ ‬مانع‭ ‬لشتّى‭ ‬صنوف‭ ‬الحشرات‭. ‬بَدَت‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬كخَتْم‭ ‬باهت‭ ‬شَقّ‭ ‬على‭ ‬شُعاع‭ ‬خجول‭ ‬طَبعُه،‭ ‬فهممتُ‭ ‬بالانحناء‭ ‬تمحيصا‭ ‬للأمر‭ ‬وما‭ ‬كدتُ‭ ‬أفعل‭ ‬حتى‭ ‬فردتْ‭ ‬جناحين‭ ‬بديعي‭ ‬الألوان‭ ‬كأنها‭ ‬تستعد‭ ‬للطيران‭. ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬ضمتهما‭ ‬لتسقط‭ ‬من‭ ‬ثقلهما‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬جانبيها‭ ‬ويسحبها‭ ‬تيّار‭ ‬هوائي‭ ‬خفيف‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عتبة‭ ‬المدخل‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الشقة‭!‬

الفراشة‭ ‬إذن‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬وهذا‭ ‬سيضطرني‭ ‬إلى‭ ‬مُهادنة‭ ‬عدوّ‭ ‬كِدتُ‭ ‬أقضي‭ ‬عليه‭ ‬قضاء‭ ‬مُبرما‭ ‬لو‭ ‬كرّرت‭ ‬عملية‭ ‬الرّشّ‭ ‬في‭ ‬بالوعة‭ ‬الحمّام‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬متتالية‭. ‬والحقيقة‭ ‬أنّي‭ ‬سُررت‭ ‬جدا‭ ‬لفعّالية‭ ‬المبيد‭ ‬الذي‭ ‬عيّنه‭ ‬لي‭ ‬جاري‭ ‬وبدأت‭ ‬أستعيد‭ ‬هدوئي‭ ‬بعد‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬نوبات‭ ‬غضب‭ ‬كانت‭ ‬تستولي‭ ‬عليّ‭ ‬لمّا‭ ‬تنجح‭ ‬الخنافس‭ ‬في‭ ‬مداهمة‭ ‬بيتي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قنوات‭ ‬الصرف‭ ‬الصّحي‭. ‬‮ ‬باكورة‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭ ‬لهذه‭ ‬السنة‭ ‬فاجأت‭ ‬ساكني‭ ‬الحي‭ ‬ولا‭ ‬نجد‭ ‬لتكاثر‭ ‬الخنافس‭ ‬السوداء‭ ‬السّافِر‭ ‬سببا‭ ‬أو‭ ‬تفسيرا‭. ‬ومن‭ ‬يهتم‭ ‬أصلا‭ ‬بدراسة‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بالحشرات‭ ‬أو‭ ‬ينظر‭ ‬بعين‭ ‬الاهتمام‭ ‬إلى‭ ‬دبيبها‭ ‬وزحفها‭ ‬اللاّفت؟‭ ‬مؤسسات‭ ‬أو‭ ‬هيئات‭ ‬أو‭ ‬منظمات‭ ‬حماية‭ ‬البيئة؟‭ ‬طبعا‭ ‬لا‭! ‬وحدهم‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬حيّنا‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭.. ‬عندما‭ ‬تُنار‭ ‬المصابيح‭ ‬العمومية،‭ ‬تستجيب‭ ‬عشرات‭ ‬الخنافس‭ ‬لنداء‭ ‬الضوء‭. ‬بعضها‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬مزابل‭ ‬صغيرة‭ ‬مُهملة،‭ ‬وأخرى‭ ‬تترك‭ ‬الأعشاب‭ ‬المتفرقة‭ ‬ومخلّفات‭ ‬القطط‭ ‬والكلاب‭ ‬وأحيانا‭ ‬البشر‭ ‬تحت‭ ‬البنايات‭ ‬بحثا‭ ‬ربما‭ ‬عن‭ ‬الدفء‭.. ‬دعوني‭ ‬أخبركم‭ ‬أيها‭ ‬الأصدقاء‭ ‬أن‭ ‬المصباح‭ ‬العمومي‭ ‬السّاطع‭ ‬كان‭ ‬مُثبتا‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الثاني‭ ‬والأخير‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬حيث‭ ‬أقيم‭ ‬أنا‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬دائما‭.. ‬ولكم‭ ‬أن‭ ‬تتخيلوا‭ ‬مشهد‭ ‬صعود‭ ‬الحجيج‭ ‬إصرارها‭ ‬الغريزي‭ ‬في‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الشقة‭! ‬أعترف‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أستمتع‭ ‬برؤيتها‭ ‬عاجزة‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬اختراق‭ ‬الحاجز‭ ‬الدقيق‭ ‬الحبكة،‭ ‬وكم‭ ‬هنّأت‭ ‬في‭ ‬سِرّي‭ ‬نفسي‭ ‬على‭ ‬خُطّتي‭ ‬الاستباقية‭ ‬وكنتُ‭ ‬أستمتع‭ ‬أكثر‭ ‬بمشاهدة‭ ‬ثُلّة‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬الجيران‭ ‬وقد‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬ارتقاء‭ ‬الخنافس‭ ‬لجدار‭ ‬البيت‭ ‬فرصة‭ ‬لتنظيم‭ ‬مسابقة‭ ‬في‭ ‬إسقاط‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬منها‭ ‬قبل‭ ‬بلوغها‭ ‬ارتفاعا‭ ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬أرجلهم‭ ‬تخطّيه‭.. ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬اللعبة‭ ‬تسلية‭ ‬وكانت‭ ‬لي‭ ‬تصفية‭ ‬لعدد‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحشرات‭ ‬المقرفة‭.. ‬نعم‭ ‬مقرفة،‭ ‬لأن‭ ‬فرحتي‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلا‭ ‬وإصرار‭ ‬الخنافس‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬مكّنها‭ ‬من‭ ‬إيجاد‭ ‬منفذ‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬وزوايا‭ ‬وجميع‭ ‬أبعاد‭ ‬بيتي‭ ‬الهندسية‭! ‬جاري‭ ‬بدوره‭ ‬لم‭ ‬يتراخ‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الغزاة‭ ‬وتجريب‭ ‬مشورة‭ ‬هذا‭ ‬ونصيحة‭ ‬ذاك‭.. ‬يسكب‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬الكلور‭ ‬على‭ ‬مصطبة‭ ‬المدخل‭ ‬الرئيس‭ ‬للمنزل‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬إبقاء‭ ‬منشفة‭ ‬بعرض‭ ‬عتبة‭ ‬الشقة‭ ‬في‭ ‬غدوّه‭ ‬ورواحه‭.. ‬أخبرني‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬أن‭ ‬الخنافس‭ ‬لا‭ ‬تزعجه‭ ‬البتة،‭ ‬بل‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يخشاه‭ ‬أن‭ ‬يتأذّى‭ ‬طفله‭ ‬الذي‭ ‬يلتقط‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬يصادفه‭ ‬في‭ ‬حبوه‭ ‬ويضعه‭ ‬في‭ ‬فمه‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭.‬

جُملة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬الخنافس‭ ‬أن‭ ‬أساليب‭ ‬مواجهتنا‭ ‬جعلت‭ ‬أعدادها‭ ‬في‭ ‬تناقص‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬اهتدائنا‭ ‬إلى‭ ‬قواعدها‭ ‬السريّة‭ ‬وما‭ ‬تخفيه‭ ‬تلك‭ ‬القنوات‭ ‬القديمة‭ ‬المتصدّعة‭ ‬من‭ ‬عجيب‭ ‬الكائنات‭ ‬وهوامها‭. ‬أما‭ ‬بخصوص‭ ‬الفراشة،‭ ‬فقد‭ ‬استحوذت‭ ‬على‭ ‬اهتمامي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أيامها‭ ‬المعدودة‭.. ‬ولم‭ ‬أستطع‭ ‬تجاهل‭ ‬حضورها‭ ‬الجميل‭ ‬الآسر‭.. ‬صنعتُ‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قطعة‭ ‬ورق‭ ‬محفّة‭ ‬أميرة‭ ‬ثم‭ ‬رفعتها‭ ‬برفق‭ ‬من‭ ‬أرضية‭ ‬الرّواق‭ ‬لأرقدها‭ ‬بأنفاس‭ ‬محبوسة‭ ‬على‭ ‬تربة‭ ‬أصيص‭ ‬شجرة‭ ‬ظل‭ ‬صغيرة،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬لحظات‭ ‬حتى‭ ‬انتعشت‭ ‬ودبّت‭ ‬الحياة‭ ‬والحركة‭ ‬في‭ ‬جسمها‭ ‬الواهن‭.. ‬فإذا‭ ‬بسطت‭ ‬جناحيها‭ ‬وكشفت‭ ‬عن‭ ‬خطوطها‭ ‬وحلقاتها‭ ‬الزاهية‭ ‬تُشرق‭ ‬نفسي‭ ‬وتتعاظمني‭ ‬الدهشة‭ ‬وإذا‭ ‬ضمتهما‭ ‬حييّة‭ ‬من‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬حذر‭ ‬أو‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬أترك‭ ‬مضجع‭ ‬الأميرة‭ ‬وأنا‭ ‬كظيم‭. ‬لم‭ ‬تغادر‭ ‬الفراشة‭ ‬الأصيص‭ ‬مدّة‭ ‬إقامتها‭ ‬فيه‭ ‬ولربما‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬حافته‭ ‬المقابلة‭ ‬مرّة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬لتستقر‭ ‬تحت‭ ‬وريقات‭ ‬الشجرة‭ ‬لا‭ ‬تريم‭.. ‬تفرد‭ ‬جناحيها‭ ‬تارة‭ ‬وتطويهما‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ ‬وبذلك‭ ‬كنت‭ ‬أتحقّق‭ ‬حياتها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬صباح‭ ‬ثم‭ ‬أعقبه‭ ‬مساء‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬المسكينة‭ ‬أدنى‭ ‬حركة‭.. ‬انبجست‭ ‬من‭ ‬حافة‭ ‬الأصيص‭ ‬عيون‭ ‬ألوان‭ ‬وظلت‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬الانبثاق‭ ‬القوس‭ ‬قزحي‭ ‬لأيام‭ ‬لم‭ ‬أجسر‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬رشّ‭ ‬المبيد‭ ‬لمقاومة‭ ‬بقية‭ ‬الخنافس‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬أعيدها‭ ‬إلى‭ ‬بالوعة‭ ‬الحمّام‭ ‬وأدلق‭ ‬عليها‭ ‬سطل‭ ‬ماء‭ ‬موقنا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تحتاجه‭ ‬من‭ ‬أكسجين‭ ‬للحياة‭ ‬وارتقاء‭ ‬القناة‭ ‬صوب‭ ‬بيتي‭ ‬تختزنه‭ ‬تحت‭ ‬درعها‭ ‬الصلب‭.. ‬أأنتِ‭ ‬الجمال‭ ‬يُهذب‭ ‬الطبائع‭.. ‬ينعش‭ ‬الحزانى‭.. ‬يشفع‭ ‬في‭ ‬المقبوحين؟‭ ‬أم‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬فراشة‭ ‬تناصر‭ ‬بني‭ ‬فصيلتها‭.. ‬تُندّد‭ ‬بجرائم‭ ‬إبادتها‭ ‬وتهتف‭ ‬بموت‭ ‬المُنتخبين؟

الفراشة‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬طيات‭ ‬مذكرتي‭ ‬لسنة‭ ‬2015‭.. ‬مازالت‭ ‬بهيّة‭ ‬وكأنها‭ ‬للتو‭ ‬طرقت‭ ‬باب‭ ‬شقتي‭ ‬حتى‭ ‬أني‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬رقادها‭ ‬الأبدي‭.. ‬تحيا‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرّة‭ ‬أتفقّد‭ ‬مرقدها‭ ‬الورقي‭ ‬وأحيا‭ ‬بدوري‭ ‬بتأثيرها‭ ‬الغامض‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬روحي‭..‬

لعمري‭ ‬هي‭ ‬الجمال‭ ‬والحياة‭ ‬والنظام‭..‬

الفراشة‭.. ‬تلك‭ ‬الفراشة‭.. ‬في‭ ‬قلبي‭..‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.