فرصتنا الأخيرة للبقاء في الحاضر
وحدها الرواية البوليسية، من بين كافة القوالب المختلفة للرواية، تشترط أن يكتبها اثنان: الكاتب والقارئ معاً. إنها رواية التوحّد في ذروته، ذلك أن التوحّد هنا ليس مع البطل الفني بل مع المؤلف نفسه (الصانع الواقعي لقصته). أنت في الرواية البوليسية تضع نفسك من اللحظة الأولى مكان المؤلف، تحاول أن تفكر من موقعه، أملاً في أن تصل للكشف قبله. أنت في الرواية البوليسية تكتب. بدوره، يضع المؤلف نفسه من اللحظة الأولى مكان القارئ المفترض. مؤلف الرواية البوليسية يخشى قارئه ويحتاط له ويبالغ في تقدير ذكائه مدركاً أنه، هو نفسه، بات هدفاً. يفعل ذلك ليستبعد توقعاته القريبة محاولاً أن يحتفظ بمفاجأته لأطول وقتٍ ممكن.
هذا التوحد لن يلبث، للمفارقة، أن يلد علاقةً نقيضة، من داخل شرطه نفسه، لتصبح الرواية البوليسية ساحة “تنافس″ بين فعلي الإنتاج والتلقي. في لاوعيه يتمنى القارئ أن يُحبط الكاتب مفسداً عليه خطته، (مستعداً في سبيل نجاحه لإفساد الرواية نفسها). أستطيع أن أقول، استناداً لخبرتي الخاصة في كتابة روايات ذات بنيةٍ بوليسية، إن الكاتب يكتبها بوجدان القارئ، هنا لا مجال للمواربة أو التنكر لذلك المتلقي، ما أصعب أن يكشفك قارئك في نصٍ أنت صانعه. أنت في رواية خطرة وخطرها نابع من أن قارئاً ما قد يسبقك، قد يكون أكثر ذكاء منك، قد يفسد خطتك، أو قد يفتش في ثغراتك أنت وليس فقط ثغرات الحبكة. الكاتب البوليسي في الحقيقة هو مرمى روايته، هو من يبغي الوصول بفعلته لبرّ أمان دون أن يترك خلفه أثراً.
الرواية البوليسية، من ثمّ، هي الشكل السردي الأكثر نموذجية في ظني لتحقيق نص “إرجاء”، إذا ما استعرنا الاقتراح “الدريدي” للغة، حيث كل “دال” يحيل لمدلول يصبح بدوره دالاً لمدلول جديد دون أن يكون مدلول ما هو محطة الوصول. سلسلة من الإحباطات المتتالية والمداليل الناقصة تترى قبل أن تحضر الإجابة في النهاية، الإجابة التي لن تدهشك إن طرأت من العدم، إذ يجب أن تكون موجودة من اللحظة الأولى دون أن تنتبه أنت لها. هذه هي الصفقة، هذا هو الاتفاق.
في الحقيقة، رأيتُ دائماً (أنا قارئ الروايات البوليسية) أن بنية الرواية البوليسية تنسحب على “بنية” علاقة كاتبها بقارئها نفسها، فالعلاقة بين فعلي الإنتاج والتلقي تصبح في ذاتها مطاردة، بحث، تساؤل.. علاقة “ندية” فعلية سبقت الأطروحات النقدية الحديثة حول شراكة القارئ، وهي الأطروحات التي لم تعن دائماً بهذا النوع باعتباره ينتمي للفن الرخيص.
إنها أسبابٌ أخرى لرواج ذلك النوع غير الأسباب البديهية التي تسم نوعاً “جماهيرياً”، يدعمها عنصرٌ جوهري قارٌ في لاوعينا جميعاً كبشر، فالرواية البوليسية توفّر لكاتبها وقارئها معاً مزيةً هائلة لا يوفرها الواقع: البقاء في الحاضر. إنها فلسفتها العميقة في النظر للزمن، الرواية البوليسية “مضارع دائم” حيث يتحقق كل شيء “الآن”، كأن الرواية نفسها تُكتب بالتزامن مع قراءتها.
(2)
لماذا يلجأ “الأدب الرفيع″ مرةً بعد مرة، ودون كلل، لمغازلة شكل أدبي ينتمي للأدب “الرخيص”، مع تحفظي على نقاء المصطلحين وتعسفية الفصل بينهما؟ عديدة هي النصوص الأدبية الكبرى التي اتخذت من الرواية البوليسية عموداً فقرياً لها، مستلهمةً بنيتها ومتصلةً مع أفقها.
لا وجود لرواية بوليسية تُقرأ مرتين. يعرف قارئ الرواية البوليسية جيداً هذه “الضريبة” وطالما دفعها عن طيب خاطر. إن أردت إعادة قراءة رواية بوليسية أسرَتك فاقرأ واحدة جديدة لنفس مؤلفها. ربما بسبب ذلك فإن أسماء الكتاب البوليسيين أشهر من عناوينهم. أجاثا كريستي أو آرثر كونان دويل أو إيان فلمنج أشهر من رواياتهم، وربما، للسبب نفسه لا وجود لكاتب روايات بوليسية “مقلّ”.
ربّما تكمن أحد الفروق الرئيسية بين الرواية البوليسية “الشعبية” ونظيرتها في “الأدب الرفيع″، أن الأخيرة تقلب قيمةً أخلاقية رئيسية في نصٍ ليس غرضه خلخلة من هذا النوع لدى الجمهور ذلك أنه يداعب ذائقة الاتفاق. هكذا تضع الأخيرة نصب عينيها جعل المتلقي في حالة توحد مع الجاني وليس الضحية، وسلبه سلاحه الأخير: جاهزية الانحياز. فعلها ألبير كامو عبر “ميرسو” في “الغريب”، ونجيب محفوظ عبر “سعيد مهران” في “اللص والكلاب” و”سيد سيد الرحيمي” في “الطريق”، فعلها “راسكولينكوف” دستويفسكي في “الجريمة والعقاب”، و”جرينوي” باتريك زوسكند في “العطر”. جميع هؤلاء قتلة في روايات بوليسية البُنى وليس فقط روايات جريمة، والأمثلة كثيرة ويتعذر حصرها. جميع هؤلاء هم جلادو الواقع الذين يصبحون ضحايا الفن، حتى أننا لا نتذكر ضحاياهم.
باستعارتها القالب البوليسي تطمح الرواية المعاصرة في ظنّي لإعادة تفكيك النسق القيمي الجاهز بالبحث في فنياته لأغراضٍ فلسفية أو شعرية.
النقطة الثانية تخص بالتأكيد “الغاية”، ماذا لو وضعنا علامة استفهام في نهاية السطر بدلاً من النقطة؟ يبحث قارئ الرواية البوليسية بداهةً عن الإجابة، فليس بيننا من هو على استعداد لأن ينهي رواية دون أن يصافح الحقيقة. فعل الإرجاء، من ثم، يذهب للنهاية ليصبح غائياً. ربما يحرم القارئ من متعة ما، لكنه بالمقابل يعوّضه بمتعةٍ أبقى: القدرة على قراءة الرواية لعدد لا نهائي من المرات.
(3)
بشكلٍ شخصي، أرى في بنية الرواية البوليسية إمكانيةً هائلة لتشييد نصٍ شعري تكوينياً. ظاهرياً، يحتفي الشعر بغموضه للنهاية، يحتفظ بسره، فيما تكتسب الرواية البوليسية “كرواية شعبية” شرطها الرئيسي من كشف هذا الغموض في لحظة ما. من هنا تحديداً، من هذه المسافة بين طريقتين: التعمية والكشف، تكتشف الرواية البوليسية قدرتها على اكتشافٍ جديد لجوهرها والذي أراه يكمن في “الطريقة” نفسها وليس في اعتبار هذه الطريقة محض بناء معقّد ينتهي لجبلٍ من رمل مع السطر الأخير. يحدث ذلك بحذف الإجابة أو بتكثير الإجابات، ففي الحالتين يطرأ الأثر الشعري العميق على نص التشويق الأوّلي.
بشكلٍ شخصي كتبتُ “هدوء القتلة” (2007) في قالبٍ بوليسي، مستعيراً فكرة القاتل المتسلسل أو “السفاح” الذي يقتل بيدٍ ليكتب بالأخرى قصيدة بغية إعادة تأويل المدينة (القاهرة) شعرياً في سياق يمزج بين الواقع والخيال. مفهوم الرواية البوليسية أشمل من رواية الجريمة لكنها تظل عنصراً مهيمناً فيه، ذلك أن ما يمنح نصاً ما ملمحه البوليسي هو فكرة “البحث”. كتبتُ رواياتٍ أخرى ببنيةٍ بوليسية، ليست الجريمة عمودها الفقري. في “الأرملة تكتب الخطابات سراً” (2009) حاولتُ كتابة رواية تحرّ، تفاجأ فيها سيدة مسنة بخطاب غرامي يحطم زجاج نوافذها، محا المطر سطوره في رحلته نحو غرفة نومها، وتظل طوال الرواية تبحث عن صاحب الخطاب لتقرأ عبر هذه الرحلة من البحث تحوّلات السياق الاجتماعي والسياسي في علاقته بتحوّلات الفرد المغترب. في “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس″ (2012)، ينهض النص على افتراض أن عشيق كفافيس الأخير يكتب عنه رواية سرية من خلف ظهره، يحاول كفافيس التلصص عليها وقراءتها بدوره في فترات غياب عشيقته ثم التخلص منها، ويدور صراعٌ بين شخصين يحاول كل منهما النجاة بنصه دون أن نعرف من سينتصر في النهاية، سيرة التخييل أم سيرة الواقع. كذلك تنهض روايتي “ضريح أبي” (2013)، وهي رواية رحلة، على محاولة البطل اكتشاف ماهية أمّه والتي ماتت (أو اختفت) في ظروف غامضة فور ولادته لاتهامها بالزنا، فيما أنجبته من وليّ لا يموت، ومن أجل ذلك يتحول بدوره إلى مُتحرٍّ يجمع مزق الحقيقة من شهود اللحظة التاريخية التي لم يعشها ليعرف من هو. أُراجع الآن ذلك الشغف المتكرر باستلهام بُنى الرواية البوليسية، فيما أضع اللمسات النهائية على روايتي الجديدة “طعم النوم” والتي ستصدر قريباً، حيث تتشكل بالكامل أيضاً من بنية بوليسية، حيث يتسبّب رجل ما في نومٍ عميق لفتاة لا تستيقظ منه، وتبدأ أمها البحث عن ذلك الرجل ومن أجل ذلك ترتكب سلسلة من جرائم قتل تقرّبها كلّ منها من الفاعل.
لماذا تُطل الرواية البوليسية برأسها كلما بدأتُ نصاً روائياً، ولماذا تنجح، كل مرة، في ترك شيء من نفسها في كتابتي؟ إنه سؤال شخصي، ربما أيقظته هذه الدعوة لتقديم شهادة، دعوة هي الأولى من نوعها فيما يخص علاقة كتابتي بالأدب البوليسي. لا أملك رداً دقيقاً، وأعترف أن ذلك الحضور ليس مرده خطة مقصودة أو قراراً مسبقاً. ربما هي طفولة القارئ تقاوم شيخوخة الكتابة، وربما هي الرغبة المستحيلة في أن يبقينا النصُ في الحاضر، الآن وهُنا.