فكاهيون نيويوركيون وخطوط حمراء
مطر مطر مطر. سماء فيرمونت ممطرة هذا الصباح. خلال الأيام الماضية كان الجو ربيعيا ساحرا. لكن المطر هنا عادي تماما. الأصدقاء يقولون إنّ الجو سيصفو غدا. وسنخرج في جولة خاصة بالشعراء. شيء ساحر أن يجد المرء نفسه هنا في فيرمونت. وسط ستين أديبا وفنانا من مختلف الأجيال، ومختلف الجنسيات: أميركا، كندا، الصين، التبت، بلغاريا، روسيا، سويسرا، مقدونيا، النرويج، نيجيريا، الشيلي، البرازيل، هونغ كونغ، وأخوكم من المغرب.
شيء صعب أن تكون العربي الوحيد في تجمع خرافي كهذا. عليك أن تجيب عن أسئلة الجميع حول ما يحصل في مصر وسوريا وتونس والعراق. آخر ما يسألون عنه هنا هو المغرب. وحتى حينما يسألون فليس بسبب الربيع العربي، وإنما لكي يتحدثوا عن طنجة ومراكش. يا لسحر الأدب. كل الأدباء الأميركيين الذين تحدثت معهم مغرمون بطنجة بسبب بول بوولز وكتابات البتنكس: كيرواك وبوروز والآخرين. وتبقى فيرمونت أكبر تجمع للأدباء والفنانين في العالم.
ليس هناك مكان في الدنيا يجمع ستين مبدعا لمدة شهر كامل باستثناء هذه الأستوديوهات. الغابة رائعة والنهر يمر من أمامي مختالا غير عابئ بالمطر وأنا أكتب الآن.
لكل كاتب هنا مسكن نظيف وأستوديو للكتابة يفصل بينهما النهر. أما المكتبة والقاعات الأخرى فمشتركة بين الجميع وتبقى مفتوحة للصباح. يلتقي الجميع في المطعم في الوجبات الثلاث ويسهرون ليلا إما على ضفة الوادي أو في المكتبة أو في قاعة التلفزيون. ذهبت بالأمس إلى درس اليوغا. أول حصة يوغا آخذها في حياتي. التقيت الأستاذة فيما بعد على طاولة الغداء فدردشنا قليلا. عرفت منها أنها شاعرة، وأنها تعطي دروس اليوغا التي يؤدي عنها النزلاء مبلغ 13 دولارا للحصة الواحدة كمقابل لكي تستفيد من الإقامة. فوجئت أكثر حينما عرفت أن النيجيري الذي يشتغل في المطبخ روائي معروف في بلده، وأن الفراشة الأميركية التي تغسل الأطباق شاعرة بدورها. فهمت فيما بعد أن أغلب الأدباء والفنانين المشاركين يشتغلون في المطبخ والبستنة والأعمال الإدارية ويعطون دروسا في الرياضة واليوغا وغيرها كمقابل للإقامة هنا. قال لي صديق من هونغ كونغ: “أنا وأنت وقلة هنا فقط ينظرون إلينا كما كانوا ينظرون إلى النبلاء في أوروبا القديمة، لأن استضافتنا كاملة ولا نحتاج للعمل لكي نبرر وجودنا”. ومع ذلك قررت أن أتطوع للبستنة. التقيت بالمسؤول عن الحدائق هنا واتفقنا على أن أشتغل تحت إمرته ساعتين في الأسبوع. على الأقل لكيلا تحقد عليّ الفراشة الجميلة التي تغسل الأطباق.
المكان هنا هادئ منعزل. لا مجال للحياة الصاخبة. هناك بعض الحركة في المركز. لكنها حركة بسيطة محتشمة. والمركز صغير جدا. يضم مكتبة، قاعة عروض، كنيسة، مكتب بريد، محلا لتصبين الملابس، وحانتين. أما السوبرماركت فبعيد. وطبعا أحتاج الكثير من الأغراض. لذا لم أتردد حينما اقترح عليّ الروائي الأميركي تومي زوريلين مرافقته. تومي جاء بسيارته من نيويورك إلى هنا. النجاح الباهر لروايتيه البديعتين “نازاريت نورت داكوتا” و åأبوستل آيلندز» وحماس الناشر الشديد لمغامرته الروائية المذهلة شجع تومي على أن يكمل الثلاثية. وهو الآن عاكف على الجزء الثالث من ثلاثية المسيح.
تومي فاجأ الجميع حينما قرر أن يكتب سيرة جديدة للمسيح. عيسى أميركي معاصر يركب الميترو ويأكل الهامبرغر في المكدونالد ويبشر بتعاليم المسيحية. عمل مليء بالمفارقات والمواقف المدهشة. قال لي تومي إنه يكتب الآن أحداث الحرب الحاسمة التي ستجري بين معسكر الخير ومعسكر الشر شمال تكساس سنة 2014. آخر حرب سيعرفها العالم قبل القيامة والحشر. طبعا الذين يحبون التأويل السياسي سيجدون بعض التعريض بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن. لكن تومي لا يبدو مهتما لتأويلات الآخرين. إنه فقط يستمتع بالكتابة ويحب الباروديا الساخرة.
يوميا هناك أنشطة هنا. للأميركيين طريقهم الأنيقة في مراقبة أداء الجميع، إنما بطريقة متحضرة. هناك الأبواب المفتوحة التي نلج فيها أستوديوهات زملائنا من النحاتين والفنانين التشكيليين لنعرف أين وصلوا. وهناك عروض مسائية لفناني الفيديو في القاعة الكبرى. ثم هناك القراءات الشعرية والسردية. يجب أن تشرك الآخرين فيما تفعل وتطلعهم على جديدك أولا بأول. وهكذا تجد الجميع متفانيا في عمله ليقدم شيئا جديرا بقيمة هذا الجمهور النوعي. حضور الفعاليات مفتوح في وجه السكان أيضا. وهم يبدون سعداء لأن قريتهم الجميلة تستقبل هذا الكمّ من المبدعين من مختلف الولايات الأميركية وبلدان المعمورة. لكن في الليل، وبعد يوم من العمل، يتصل أصدقاؤنا الأميركيون برجال المطافئ ويستأذنون في إضرام النار. يحضرون مشروباتهم ويتحلقون حول النار المستعرة في الهواء الطلق لتستمر السهرة إلى ما بعد منتصف الليل.
إيقاع مختلف في العمل والحياة. رؤية أخرى للآخر. تداخل جميل بين الفنون والأجناس. جارتي في الأستوديو الكاتبة الأميركية كاترين رابوزي جاءت إلى هنا لتكتب قصصا قصيرة فإذا بها تكتب مسرحية. كانت هناك شخصية قوية في خيالها لكن حينما اقتربت منها بدأت الشخصية تتكلم دونما توقف فغيرت كاترين اتجاه العمل من القصة إلى المسرح. ما أجمل الحرية في الذهاب إلى النص. ما أجمل التنقل بين الأجناس. ما أجمل التسكع بين النهر والجبل. هنا في فيرمونت.
طاب يومكم..
نيويورك /30أوت 2013
سلاما من نيويورك. أكتب واقفا من حفل موسيقي جميل في استقبالات الفندق. أول مرة أكتب واقفا على الكومبيوتر. هناك حفل ضيافة عجيب لا أعرف مناسبته. مشروبات من كل الأصناف وفواكه وأجبان، وموسيقى تعزف بأناقة. أحس كأنني في فيلم أميركي من أفلام ثمانينات القرن العشرين. أنا هنا في فندق إيديسون حيث سأقيم لثلاث ليال. هنا في قلب المدينة، قرب التايمز سكوير. إنه أول يوم لي في نيويورك. أنا الذي طفت الولايات المتحدة طولا وعرضا. من واشنطن إلى بوسطن فسياتل ثم كولومبيا وكارولاينا الجنوبية فلوزفيل كنتاكي وبعدها… أوكلاهوما ثم سان فرانسيسكو وسان خوزيه وساراتوغا وغيرها من حواضر وادي السيليكون. لكن نيويورك؟ كنت دوما أبقى محبوسا في مطارها لساعات وأنا في الطريق إلى وجهتي الأميركية أو في طريق عودتي إلى البيضاء. والآن هأنذا أتسلل إلى المدينة. لكن هذه ليست مدينة. أو ليست مدينة فقط. هذا مستقبل العالم. الحياة شخصيا. الحرية تقف على قدمين. الحياة وقد استحالت أنهارا من لحم ودم وأحلام. كل الأجناس تزاحم بعضها. كأنك في يوم الحشر. حشر سابق على الحشر. حشر فرح وحشود حياة لا حشر قيامات. سلاما من نيويورك. سأنهي كأسي وآخذ دشا وأنزل إلى المدينة. مرة قالت لي صديقة وكنا نتجول في برلين: نيويورك هي مدينة العالم. هي المدينة. هي فعلا مدينة العالم. سأنزل توا يا مدينة العالم لأطوف بكعبة الأجناس.
تفصيل أخير، قد تجدونه بدون أهمية. لكنه خلّف في نفسي بهجة دافئة.
موظف الاستقبالات مغربي اسمه يوسف. وكعادة المغاربة في الكرم السرّي أعطاني كلمة السر الخاصة بالعاملين في الفندق. ولهذا أكتب لكم الآن بدون مشاكل. لن أدفع 15 دولارا حق الاشتراك اليومي. شكرا يوسف. شكرا للمغاربة، رائعون ومشاغبون وتواطؤهم حميمي جميل. يعرفون دائما كيف يصنعون الفرق حتى في فنادق التايمز سكوير.
نيويورك/ 3 سبتمبر 2013
سلاما من مطار نيويورك. أنتظر طائرة العودة إلى الدار البيضاء. لكن حكايات الليلة الأخيرة تستحق أن تروى.
جئت من الفندق إلى المطار في ليموزين. لست مُترَفا، لكن هذا ما حصل. وصلت إلى نيويورك قادما من فيرمونت. استقليتُ السابواي (المترو) بخمسة دولارات. لكن الرحلة كانت متعبة جدا بسبب الأمتعة التي كان عليّ أن أجرّها ورائي من محطة السابواي الأقرب إلى التايمز سكوير حتى باب الفندق. أما وأنا أغادر الفندق فجرا ومعي ثلاث حقائب فهذا يستدعي بالضرورة أن آخذ تاكسي. هذا أسلم لي. خلال يوم أمس عشت تجربتين متناقضتين هنا مع أصحاب التاكسيات. الأولى مع سائق من بنغلاديش. طلبنا منه، أخي فضل الله المقيم في بوسطن وأنا، أن ينقلنا إلى جسر بروكلين فأخبرنا أن المكان قريب جدا ويمكننا المشي. شرحنا له أننا تعبنا ونحتاج وساطته. نقلنا إلى هناك وحينما أردنا أن ندفع قال: السلام عليكم برادر. وهكذا أفادتنا أخُوّة الإسلام ولم ندفع. لكن التجربة الثانية كانت مع سائق مريع. كان يشبه روبير دي نيرو في تاكسي درايفر. وكان مصرّا على أن تكون رحلتنا عبر الهاي واي. كان أخي قد شغَّل الجي بي إس الهاتفي وشرح له أن المسافة غير بعيدة وممكنة جدا عبر الشارع النيويوركي الواسع المُنساب أمامنا، فما حاجتنا إلى الطريق السيار؟ وحينما تعنّت، فرَضْنا عليه احترام رغبتنا (أو عدم استغفالنا بالأحرى) فبدأ يسوق بطريقة جنونية معربا عن انزعاجه بعدما اكتشف أنه يسوق تحت رقابة الجي بي إس. وفعلا، لم تكن المسافة تتعدّى عشر دقائق. كانت حكاية الهاي واي محاولة شنيعة منه للنصب علينا. لذلك حينما اتفقتُ مع موظف الاستقبالات بالأمس في الفندق على أن يتولّى إحضار التاكسي في الخامسة صباحا حرصت على الاتفاق معه على الثمن. والثمن معروف على كل حال. ستون دولارا من فنادق وسط المدينة إلى مطار كينيدي. لكن حينما حمل بواب الفندق أمتعتي وبدأ يشحنها داخل سيارة ليموزين أميركية سوداء من النوع الذي يصيبُ بالدّوار بدأتُ أصرخ: “انتظر، انتظر، انتظر من فضلك. لقد طلبتُ تاكسي وليس ليموزين، فأنزل أمتعتي رجاءً”. أجابني بنبرة هادئة “أين المشكلة؟”، “المشكلة يا سيدي هي أنني أريد تاكسي عادي وليس ليموزين”. فنزل السائق، بعدما فهم الحكاية، ليبادرني بأدب “كم ستدفع للتاكسي يا سيدي؟” قلت “سأدفع ستين دولارا لا غير”. فأجابني “انتهى الموضوع. لا أطلب أكثر من ذلك”. هكذا صعدت إلى الليموزين حيث تمدّدتُ داخل صالون فسيح يسع عشرة ركاب حسب أحزمة الأمان المتاحة داخله. وأمامي ثلاجة مفتوحة ممتدة على طول السيارة تضم مشروبات وعصائر ومياها وأكوابا لكل أنواع المشروبات من الماء حتى الشامبانيا. كان بي عطش صباحي شديد وجفاف في الحلق لكنّني لم أتجرّأ على مدّ يدي إلى الماء مخافة أن يكون ثمن الجرعة داخل السيارة الفخمة عشرة دولارات إضافية. لكنني فهمت خلال الرحلة من السائق، الذي كنت أسمعه بصعوبة لبُعد المسافة بيننا، أنه ذاهب إلى المطار لاستقبال ضيف ولا بأس من أن يأخذ معه زبونا إلى هناك. طبعا ستون دولارا ثمن الذهاب أفضل من بلاش. عقلية أميركية عملية لا علاقة لها بعقلية بعض سائقي التاكسيات في بلادنا الذين يفضلون أن “يورِّكوا” في المطارات ومحطات القطار في انتظار “الهمزة” و”الصيد الثمين” بدل السعي من أجل الرزق ووضع سياراتهم في خدمة الركاب. أعطيت للسائق وجهتي: الدار البيضاء مع الخطوط الملكية المغربية. هكذا أخذني إلى التيرمينال المناسب خصوصا وأن مطار نيويورك متاهة حقيقية إذا لم تدقق في أمر المدخل مع السائق قبل الوصول إلى المطار. “لقد وصلت سيدي” خاطبني السائق وهو ينزل. لكن فيما كان يفتح لي الباب مددت له مع النقود كاميرا التصوير. فضحك. قلت له “ليس من أجل أحد، فقط لكي أصدّق الأمر وأنا أشاهد الصورة. فحينما أصل إلى مراكش بعد سفر شاق طويل قد أجد صعوبة في إقناع نفسي بأنّي لم أكن أحلم وأنني فعلا جئت من التايمز سكوير إلى مطار كينيدي على متن ليموزين”. انفجر الرجل ضحكا والتقط لي أكثر من صورة قبل أن يودّعني بأدب سائق ليموزين مُبَرمج على الكلام المهذب في حضرة زبائنه من ضيوف الدرجة الأولى.
لوحة: سعد يكن
أنا الآن في المطار. لم أنم بما يكفي بعد سهرة الأمس. كان يوما طويلا قادني إلى السانترال بارك وجسر بروكلين ووال ستريت والإمباير ستايت بيلدينغ وعددٍ من أهم مواقع المدينة. لكنني ختمته بسهرة جديرة بنيويورك. لم يكن بإمكاني العودة إلى المغرب دون أن أحضر حفلا من حفلات شوارع الفن في عاصمة الفن العالمية. كانت الطوابير أمام أبواب المسارح في برودواي بلا نهاية تقريبا. عروض مسرحية، غنائية، واستعراضية راقصة وسينما.. سينما.. سينما. العروض متنوّعة والجمهور مضمون والطوابير لا حدّ لها حتى أنها تعيق حركة السير على الأرصفة وكذا سلاسة الولوج إلى المطاعم والمقاهي المجاورة. ميزانيتي لن تتحمل عرضا في اللاين كينغ أو غيره من صالات الألف مقعد. كما أن أغلب تلك القاعات تستدعي حجزا مسبقا. ولا يمكنك المجيء في آخر لحظة واقتناء تذكرة هكذا. لذلك ذهبت إلى كافي تياتر صغير اسمه “ها كوميدي كلوب”. ولجت القاعة رفقة أخي. 40 دولارا للواحد ثمن الدخول وداخل القاعة على كل واحد من الجمهور أن يشرب مرتين مقابل عشر دولارات للمشروب الواحد. طبعا كل أنواع المشروبات متاحة. وبدأ العرض. ستة كوميديين تناوبوا على المنصة في عرض مذهل دام لأكثر من ساعة ونصف. ياه كم ضحكنا. رغم صعوبة بعض القفشات التي يجب أن تكون أميركيا قحا لتلتقطها، ضحكت كما لم أضحك خلال شهر رمضان الأخير وأنا أتابع سيتكومات قنواتنا الوطنية. لكن لنكن منصفين، الفكاهة تحتاج إلى حرية لتبلغ غاياتها. في المغرب نطالب الفكاهي بأن يلعب كرة القدم ويمارس القفز على الحواجز في نفس الوقت. وهذا صعب جدّا. لا يمكنك أن تراوغ وتسجل وتمتع الجمهور وأنت تتحرك في ملعب تحتاج فيه إلى امتطاء فرس لتتخطى حواجزه. أيضا تحتاج الكوميديا إلى نصوص تصدر عن ثقافة متينة وخيال واسع وذكاء حقيقي. وهذا بالضبط ما أذهلني في الكوميدي كلوب النيويوركي. فكاهيون عجيبون يضحكون أول شيء على مدينتهم نيويورك. هذه المدينة “التافهة” التي يعتبرها “المغفّلون” حاضرة العالم الأولى. لقد نكّلوا بها. لكن فيما هم ينكِّلُون بمدينتهم كانوا في العمق يرسِّخُون أسطورتها. وهذه عبقرية الفكاهة القوية. ولهذا أيضا الأذكياء وحدهم يرحبون بالفكاهيين حينما يقتربون من حياضهم مهما بدا نقدهم لاذعا. قالت فكاهية نيويوركية سوداء حينما سألت الجمهور هل بينهم سياح فأجبنا نحن السياح نعم، قالت إنها هي أيضا “سائحة” في نيويورك مثلنا تماما. فقط نحن محظوظون لأننا سنعود إلى بلداننا بعد يومين أو بضعة أيام وهي سائحة تعيسة لأنها مجبرة على البقاء في هذه المدينة القذرة بعد أن نرحل نحن فرحين بالصور التي التقطناها في نيويورك. طبعا لم يفت “السائحة” النيويوركية السوداء المقيمة في هارليم أن تقودنا في جولة ممتعة في حيِّها “السياحي” قبل أن تتوقف بنا للحظات داخل السوبرماركت الشنيع المجاور لمسكنها والذي تتخلله بعض الكولوارات المُعتِمة حيث يقبع بعض قُطَّاع الطرق حتى أن إصرار بنت الحي على البحث عن صلصة الكيتشوب المفضلة لديها قد يعرضها بسهولة للاغتصاب داخل السوبرماركت.
فكاهي آخر لم يتردد في تهنئتنا على ذكاء اختيارنا المجيء إلى ناديهم. وحتى الأذكياء بيننا الذين وجدوا السكيتشات التي يقدمها هو وزملاؤه تافهة يجب أن يشكروا الله لأن حضور هذا العرض “التافه” أحفظ لكرامتهم من التجول المُضحِك في التايمز سكوير مثل بُلهاء يطاردون بغباء بعدسات كاميراتهم أضواء الساحة الخادعة. كانت العروض متنوعة. فكاهة النيويوركي الأبيض مختلفة تماما عن زميله الأفرو-أميركي رغم أنهما من نفس المدينة. لكن مفاجأة العرض كان فكاهيا عجيبا من الجنوب الأميركي. قدرة فذة على الارتجال. شيء مذهل فعلا. وقاحة مفاجئة قبلها منه الجميع رغم أنه كان يذهب بعيدا أحيانا. كاد يقتل أميركية شابة من الضحك وهو يشرح لها، أمام أنظار صديقها الهندي، كيف يمارس الهنود الحب. سائح من البرازيل بدا سعيدا وهو يشهر انتماءه إلى بلد السامبا. سأله الفكاهي الشاب: هل سبق لك أن زرت البرتغال؟ أجابه لا ليس بعد. فأجابه ساخرا: لا تذهب يا صديقي إلى البرتغال. إنها نصيحة أخ لأخيه. لأنك ستُحبَط فعلا وأنت تكتشف أن البرتغاليين مع الأسف الشديد لا يتحدثون البرازيلية. كان يسأل الجمهور الأجنبي عن جنسياته وله تعليق على كل واحد. حينما أخبره أخي فضل الله أننا من المغرب. شكره بحرارة على نزاهته. قال له شكرا يا صديقي لأنك كنت نزيها فقدمت لي بلدا موجودا على الخارطة. هناك من تسأله عن بلده فيقول لك أنا من بلاد فارس. هكذا يصير عليّ أن أبحث عن بلده في مراجع التاريخ القديم وليس على الخارطة. بقي فقط أن يجيب الأتراك أيضا حينما تسألهم عن بلدهم أنهم من بيزنطة أو من الإمبراطورية العثمانية. وهنا تذكرت صديقتي سارة الفنانة الإيرانية التي كانت معنا في فيرمونت. فعلا كانت تقدم نفسها كفارسية وبلدها كبلاد فارس ولا تذكر اسم إيران أبدا. ثم ختمها الفكاهي الشاب بمونولوغ يقتل بالضحك عن معاناته كيهودي في الجنوب الأميركي. خصوصا حينما علم أن جماعة من الجمهور من أبناء ولايته. سخر من لكنتهم ومن أسلوب عيشهم. قال إن الطبيعة المحافظة لمسيحيي الجنوب الأميركي تجعلهم يحاسبونه يوميا كيهودي على قتله للمسيح. تخيلوا أيها الأصدقاء، هربت إلى نيويورك لاجئا بعدما فشلت تماما في إقناعهم بأنني لسوء حظي يهودي، لكن أقسم بالله أنني لست أنا من قتل المسيح.
لا يمكنني أن أنقل تفاصيل عرض الأمس. سأحتاج إلى صفحات وصفحات لأنقل لكم ذلك. لكنني حاولت فقط أن أستعيد بعض القفشات الذكية الجريئة والمجازِفة.
نحن نريد فكاهة جيدة ونحيط الفكاهيين، دولةً ومجتمعًا، بالخطوط الحمراء. حتى لا نتهم الدولة وحدها كما لو أننا شعب متسامح بمزاج رائق وقشّابة واسعة يقبل أن يسخر منه الفكاهيون. نريد الحياة ونهاب الحرية مع أن الحرية هي الوجه الأكثر بريقا لعملة الحياة الصعبة. نريد الديمقراطية لكن على المقاس وبخياطة “المعلّم” وكأنها جلابة تقليدية مشغولة بالسفيفة العريضة والعقاد. السفر يتيح لك أن ترى العالم فترى من خلاله وجهك في المرآة.
سأصعد بعد قليل إلى الطائرة المغربية وسأعود إلى بلدي مباشرة. مضيفو ومضيفات الخطوط الملكية المغربية بارعون في تذكيرك منذ الوهلة الأولى بأنك عدت إلى أجمل بلد في العالم. لذا عليك ألا تزعجهم من فضلك. خصوصا وأن الطائرة وصلت قبل قليل فقط من الدار البيضاء وستعود مباشرة إليها. لحسن الحظ هناك بعض الشاي وبعض الماء وساندويش عليك أن تبذل بعض الجهد لمضغه. خارج هذه الأشياء كل شيء استنفدته الرحلة الأولى. لذا عليك أيها الزبون الكريم أن تحترم نفسك ولا تزعج السادة المضيفين والسيدات المضيفات بالطلبات. “الدار كا تْبَان من بابها”. وباب دارنا هي لارام. ويبدو أن هذا الباب يحتاج إلى ترميمات عاجلة. أسفاري السابقة علمتني أن طائرات شركتنا الوطنية بارعة في تذكيرك بصعوبة الوطن. وسأكتب معتذرا إذا ثبت العكس مع طاقم هذه الرحلة. إلى ذلك الحين، وداعا فيرمونت. إلى اللقاء نيويورك. ويا ريح البلاد سلاما.