فكرة الإلهام
يعتقد الكثير ممن يتأملون في أسرار مجال العمل الأدبي أو الفني أن ما يدفع الإنسان الأديب أو الفنان إلى الإبداع في عمله هي طاقة خفية دافعة له تميزه عن غيره قد خصه بها الله سبحانه وتعالى وينعم بها على من يشاء، ولكن هذا الرأي بقي محل جدال بشأن مصداقيته، فما هو الإلها، وكيف يوجه المبدع في لحظة إبداعه؟
***
النمو هو التغيير المستمر، والنمو الجمالي هو النمو المركب الذي تحدثه الطبيعة بغير إرادة من صاحبه، وهذا النمو المستمر هو المسؤول عن التغيرات التي تبدأ من العدم لتصل إلى أقصى ما يبلغه كمال التنظيم الجمالي المنسجم سواء في نمو الإنسان أم في مظاهر الطبيعة المختلفة، والسعي من أجل الوصول إلى مراتب الأشكال ذات القيم الجمالية العالية في تنظيمها وانسجام أجزائها لا تختص به الطبيعة وحدها، كما لا يختص به أيضا العمل الفني في ذاته، بل تظهر سماته ومعالمه بصورة أكبر وضوحا وتكاملا في التفكير والإحساس والإدراك، أي في كل ما يتّصل بنا من أسباب الحياة، وما يربطنا بالحياة من صلات.
يعتمد الإنسان في الحكم على أيّ عمل فنّي على حواسه، وبالتالي يصبح من الضروري بالنسبة إلى الفنان المبدع تربية حواسه وتدريبها على تنسيق علاقتها بالظواهر الكونية لتدعيم شخصيته الفنية، كما أنها تزيد من شعوره بالنمو الجمالي المطّرد الذي يظهر في عمله ليدل على جوهر نفسه، سواء في صراحة التفكير، أم في دقة الحس وسموّ الإدراك، أم في الأسلوب الذي يسلكه في التعبير عنها بفنه، وتتفاوت عناصر التعبير بتنوع الوساطات التي يستعملها الفنان مثل الكلمات أو الأنغام أو الخطوط والألوان، أو الحركات أو الإيماءات، والتنسيق الجمالي لا تحدد بدايته علامة معينة وليس لها تكوين خاص مصطلح عليه، بل يمكن أن يبدأ على أيّ مستوى سواء عن دراسة سابقة، أم في سياق العمل عندما يكون الفنان مستغرقا في تأملاته ومتأثرا بمعني النمو الجمالي في عمله، وفي الوقت الذي يفقد فيه الفنان القدرة على تنظيم هذه العلاقة التي تربط تأملاته بالعمل الفني يهبط مستوى المعاني الجمالية وينعكس تأثيره في المجتمع طالما أن الفن ظاهرة اجتماعية لها تأثيرها الفعال في المجتمع الذي يعيش فيه الفنان، وتتنوع مظاهر التعبير وتتفاوت درجات تأثيرها بقدر تفاوت إحساس الفنان بالمعاني التي تتضمنها تلك التعبيرات.
لذلك فمن العبث أن نقبل الزعم بإنشاء قواعد وقوانين محددة يمكننا أن نخضع بها العمل الفني لكي يلتزم بها الفنان التزاما تاما، حتى يصبح عمله مقبولا وينال رضا الناس، فكل عمل فني قابل في ذاته للنقد المتصل بنوع العمل وبقدرة الفنان على التعبير بأسلوبه الخاص للكشف عن قيم جمالية ينفرد بها، وكل محاولة من شأنها ترتيب علاقات النظام والانسجام ستوصلنا حتما إلى افتراض قواعد جائرة وقوانين تستبد بعواطف الفنانين المبدعين أو بالمشاهدين القادرين على تذوق معاني الجمال في أشكاله متعددة المظاهر، كما ستقف سدا في طريق الخبرات الفنية والمحاولات التي يتميز بها فنان عن آخر، بل وستفسد كل محاولة فنية مبتكرة.
يقوم الفن حتما على أحد شيئين أساسيين أو عليهما معا وهما الرؤية البصرية الواعية، والرؤيا الخيالية الحالمة، وبين رفاهة الشعور وقوة الخيال يكون الفن هو اللغة التي تجسدهما لقدرته على تجسيم المعاني، ويتصل الخيال بالوجدان اتصالا يؤثر على الجهاز العصبي، والفنان لا يقنع بما يراه في الطبيعة من جمال بل يحاول بسبحات خياله ومن أعماق وجدانه أن يبتكر جمالا من نوع آخر يصور به خياله ومشاعره بأسلوب أو بشكل يثير الشعور باللذة وبالارتياح فتتذوق من خلاله النفوس بلاغة التعبير عن معان جمالية وشاعرية مدركة.
ويتبين لنا أن الفنان لا تقتصر مهمته على محاكاة الطبيعة لأنه يتعدى شكلها الظاهر إلى المعنى الذي تنطوي عليه وسيبقى الأمر كذلك ما دام الحصول على الشبه في الصورة ليس هو الحد الفاصل بين الحي والجماد، فقد تدل الصورة على أشياء لا يسهل إدراكها عند رؤية الشخص بذاته، وحسن التعبير عن المعاني التي يبتغي الفنان الوصول إليها يكفل للمشاهد متعة التحليل النفسي لشخصية صاحب الصورة، لذا تراه في سبيل تحقيق هذا الهدف قد انفصل بفكره عمّا حوله، وبقي مشدوها أمام عرائس خياله، مستسلما لها، يتلقى صدق وحيه وإلهامه وفق المعاني التي ترتسم في مخيلته.
لا يمكن للفن مهما بلغت محاولات الابتكار فيه، أو أيّ شيء آخر يصدر عن نشاط ذهني أن يكون بمعزل عن غيره من الفنون لأن الفنون كلها حلقات متصلة في سلسلة نشاط الإنسان، والفن يبحث عن الجمال في الحقيقة، غير أن الحقيقة ليست دائما جميلة، ولإدراك المعني الخالدة في الطبيعة لا بد من نفس ملهمة غزيرة الشعور قوية الإدراك والملاحظة وعقل يجيد الاندماج فيما وراء ظاهر الأشياء محدودة الشكل الثابتة الوضع الضيقة المعنى، لأن الجمال لا تراه العيون المبصرة فقط بل لا بد لإدراك معانيه من معرفة وشعور، والعقل وسيلة المعرفة، فلا المعرفة وحدها تكفي وكذلك الشعور وحده لا يكفي.
فحين يشعر المرء لا بد له أن يعقل، ومن الناس من يتميز بالشعور المرهف والإحساس الرقيق فيدرك بهما الجمال في الطبيعة لكن تنقصه المعرفة، والمقصود معرفة كيفية صقل هذا الشعور وكيفية صوغه في قالب فنّي، والطبيعة ملهمة للفنانين توحي إليهم صورا ذات معان متعددة الجمال واختلاف شعور المعرفة عند الفنانين يولد الابتكار، والفنان يبتكر صورا مقروءة ذات معان جديدة فيها الكثير من عقله وروحه بقدر رؤيته وتفهمه لمظاهر الطبيعة.