فكرة الضوء

الثلاثاء 2020/09/01
لوحة لمحمد شبيني

جهة الأصوات البعيدة جاء أهلُ النّقل، وجاء أهل العقل.. لا نعرف من جاؤوا قبل الآخرين؟

سمعنا من قالوا نثبّت الحجر قبل كلّ شيء.

وسمعنا من قالوا نثبّت البشر قبل كلّ شيء.

لا نعرف من أيّ جهة جاء الصوت الأول، ولا نعرف من أيّ جهة جاء الصوت الثاني؟ وقبل أن نتثبّت من الأمر، وصلنا صوت غامض هو مزيج من ضرب خناجر وعزف حناجر. صوت يشبه أغاني المغول المازوشية.

سمعنا من قال: إنّ الطرق تأخذ إلى الليل.

وسمعنا من قال: إنّ الطرق تأخذ إلى الشمس.

لم نهتمّ بمن قال ليل.

لم نهتمّ بمن قال شمس.

كنّا نحدّق في ذلك الولد النّحيل، الذي وضع هلالا على نخلةٍ، ثم قاد قطيع ذئاب، إلى جهة الغروب.

كان كلما اختفى ظلّه،

تكاثرت رغباتُنا في اقتفاء ضوئه.

حتى صارت نظاراتنا هي الشيء الوحيد الذي بقي منه، بعد أن محت الريح آثار خطواته على الرمل.

بعده، لم نهتمّ بمن جاء قبل، ولم نهتمّ من جاء بعد.

صرنا نضع هلالا على نخلة، وننام. حتى إذا وصلنا عواء بعيد،

كنّا نهبّ من نعاسنا

كجمرات أيقظتها الريحُ.

ونقتفي نظراتنا

إلى جهة العواء البعيد.

سمعنا من قال عنّا:

إنهم محض نظرات تبحث عن صور.

وسمعنا من قال عنّا:

إنهم محض صور تبحث عنها نظرات.

لا نعرف من أيّ جهة جاء الصوت الأول،

ولا نعرف من أيّ جهة جاء الصوت الثاني.

فحولنا ارتفعت أبراج مبنية من البشر،

وحولنا ارتفعت أفكار مبنية من الحجر.

الإسطبل

العالمُ لا يراجع دروسَه،

صفرٌ في التّاريخ، وصفرٌ في الجغرافيا..

هو يُخطئ دائمًا في رسْمِ الخرائط،

فيرْسمُ بين القيروان وبغداد صحراء وبحرا.

ويرسمُ النّيلَ بعيدا عن شفة حبيبتي،

ويرسم الأمطارَ الغزيرةَ في الجهةِ التي لا يبْذر فيها أبي قمْحَهُ.

لوحة لمحمد شبيني
لوحة لمحمد شبيني

ويرْسم الحدودَ بنظرات الذين لا يملكون جوازات سفر، وبإشاراتهم إلى الطائرات التي تمرّ فوق قراهم،

وبدم المشرّدين عن أوطانهم.

العالمُ لا يراجع دروسَه،

صفر في الرياضيات،

صفر في الفلسفة..

كنت أحاول أن أفسّر له أنّ جمع ضبعين يساوي إثنين، لكنّ جمع غزالين يساوي مليون نظرة دامعة.

لكنه كان منشغلا بإحصاء أسنان الجمل الذي سيبتلع بقضمة واحدة، ما عمل على جمعه سرب النمل موسما كاملا.

كنت أراقبه، وهو يهدر نهرا من الحبر على قارّة من الورق، في إجابته عن أسئلة الوعي واللاوعي، وكان يكفيه أن يخلط لفافة حشيش واحدة، بحفنة من المنطق، ليتوصّل إلى إجابة واضحة وحاسمة.

كان يجهد نفسه بين القرع على الكتب والخشب، في تحليله لمفهوم العاطفة البشرية. وكان يكفيه أن يأخذ قطرات من دموع الأمهات، ويمزجها بقطرات من دموع التماسيح، ويقول لنا: هذه خلاصة العاطفة البشرية.

هذا العالم،

قدّمنا له أسفارنا ملفوفة بأوراق الأشجار.

فوضع على ظهره الأسفار،

وتصفّح أوراق الأشجار.

هذا العالم حمار مثقف،

يعلف المعرفة في اسطبله الذهبيّ.

نجح في كلّ امتحاناته

وتحصّل على كلّ شهادات الدكتوراه، في الآداب والعلوم الإنسانية والفلسفة والكيمياء والرياضيات.

لكنه لم يجبنا عن سؤالنا الوحيد:

– ما الفرقُ بين القشّ والذهب؟

الرّفض

يبدأ كتابي،

بلفظة: لا تقرأ.

نكاية في ما يسطرون،

وما يقرؤون.

حين أشير إلى حكمتهم،

فأنا أعني جهلي.

أنا ضدّهم،

في كلّ شيء:

حين يتدبّرون أمرهم،

أسكر.

وحين يتدبرون خمرهم،

أصحو.

يشيرون إلى الطريق،

فأضيع.

ويشيرون إلى النهر،

فأعطش.

أفسّر فكرة الضوء،

بإطفاء مصابيحهم.

وأصف أشجارهم،

بمعنى الفأس.

يتحدّثون عن سيرة النملة،

فأعطي للصرّار دور البطولة في روايتي.

يُمْلون عليّ نصوصَ الشّمس،

فأكتب قصائد الليل.

أنا الجسد المُحْترق،

الذي يحمل مطريّةً،

ويعبر أمطارهم.

يمكنك أن تشعل سجائرك التي أطفؤوها،

بنيران أصابعي.

ثمّ تفكّر في الأشياء

التي تسقط في مخيّلاتهم،

لتحلّق في مخيّلتي.

ما سرّ الرّموز التي تحوّل قابيلهم هابيلي؟

وما سرّ الأصوات التي تحوّل نعيقهم هديلي؟

كلّ صباح، أكتب بيانا

في رفض بيانهم.

أتعلّم الكوميديا في جنائزهم،

وأطلق الرّصاص في معاهدات السلام معهم.

حين يسألونني، عن معنى كلمة “نعم”،

أقول لهم، هي تعني “لا”.

أنا ضدّهم،

إلى حدّ، أنهم لو أحبّونني،

أكره نفسي.

أناقضهم حتى في موافقتهم لي.

وحين يتصوّرون أنّ هذه القصيدة ستنتهي، أعود إلى بدايتها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.