فلسطين أولا

الجمعة 2016/04/01

توقفت عن الكتابة السّياسية عام 2004. وخرجت، بصورة شبه نهائية، من دائرة التعليق على ما يجري كتابة أو تحليلًا، وانتميت إلى عالم الرّواية. ينطوي هذا الاستهلال لإجابتي، على تحييد مقصود لـ”خطابية” السؤال المطروح عليّ وعلى الآخرين “ماذا يكتب الرّوائيّ في لحظة الدّم في زمن الاستبدادين السّياسي والدّيني؟”. فأنا أعمل كصحافي، وأتأثر كإنسان، وأكتب كروائي. بمعنى آخر: السياسة ومجرياتها والخراب الذي يشهده العالم العربي، وبضمنه سوريا الأكثر مأساوية، يشكل بمجمله، همًا يوميًا لي كإنسان، كعربي، كفلسطين، كمتابع، يعاني انعكاسات هذا الخراب ويحاول الرد عليها بطريقته.

الرّواية، وهي “فضائي” الأخير للتعبير عن ذاتي ومكنوناتها، تغرف من مخزون تفاعل فيه الماضي والحاضر، والخاص والعام، والأحداث القريبة والبعيدة، وتشابكت فيه الأزمنة، وتداخلت أحداثها ووقائعها. وحين أتّجه كروائي إلى هذا العالم وأصبح في داخله، أضع الشؤون السّياسية والأيديولوجية وتطورات الكون كله جانبًا، خارج النص وبعيدًا من فعل الكتابة. وأذهب إلى عالم آخر تأثر بكل تلك القضايا، إلى فضاء تتحرك فيه شخصيات أخرى متخيلة وإن كانت قادمة من المعاش. لا سيطرة لي عليها، وتفرض هي حضورها عليّ. وعبر هذا الحضور ومن خلاله، تتسلل تأثيرات الصراع إلى نصّي. من الطبيعي أن تتنوع مواضيع الكتابة وثيماتها في زمن السلم (حيث تتواصل العدالة إلى جانب الظلم والاستغلال في كل أشكال النظم السّياسية)، وفي حالات الحرب، (حيث يبلغ الظلم والاضطهاد حدوداً قصوى، قد تنتهي إلى القتل المباشر والمجازر الجماعية أحيانًا). لكن الكتابة في الزّمنين لن تأتي انعكاسًا للآني واليومي ولا استجابة مباشرة له كما في المقال السّياسي، وإن التقطت الكثير من تفاصيله. لقد تمكّن عدد محدود من الرّوائيّين من التعامل، فنيًا، مع ما عرف بـ”الربيع العربي”، وخاضوا تجربة الرّواية التي تدور في فضاءات، أو مناخات الوضع السّوري، والمصري، والتونسي، والعراقي. وذهب البعض مباشرة إلى عوالم الربيع العربي نفسه والتقطوا من طرقاته الموحلة بالدّم، شخصيات وأحداثاً وثيمات عدة، وحققوا نجاحات متفاوتة. وهذه خيارات ترتبط أهميّتها في تحقيق الشروط الفنية أولًا، وفي مقدّمها، القدر الأكبر من متعة القراءة، وهذا ما ينطبق على جميع الأعمال الرّوائية بغض النظر عن مواضيعها. بهذا الفهم، أعمل كصحافي، وأكتب كروائي. أختار مواضيع لصيقة بالهم الوطني الفلسطيني العام، باعتباره همًا إنسانيًا في الأصل والجوهر. وهو الفضاء الفعلي الذي يتمشى فيه مشروعي الرّوائيّ. وغالبًا ما أكون مهمومًا بما أنشغل به وأشتغل عليه. في كل رحلة كتابة، أبدأ في تأسيس بيت جديد لعمل جديد وتأثيثه فنيًا لاستقبال أحداث جديدة ووافدين جدد. لكنّي حين أخرج من النص إلى الواقع، وأتجوّل حولي وأرى ما يدور من ظلم وحروب ودماء، أتذكر موقعي الأساسي وواجبي الأهم: الدفاع عن الإنسان الذي يأخذ أشكالا متعددة. لا أذهب إلى مقال تنشره صحيفة. لا أقف في صفوف اللاهثين وراء الحدث. لكنّي أتأمل، أراكم، وأستفيد ممّا يجري حولنا، فهو شئنا أم أبينا يدخل في تكوين مخزوننا كله الذي نلتقط منه، في نهاية الأمر، ما نكتبه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.