فلسطين والمشرق العربي
هكذا يؤكد الباحث السويدي هانس فوروهاجن في كتابه “الكتاب المقدس وعلماء الآثار” والذي تمت ترجمته أخيرا إلى العربية عن دار الكتب خان للنشر في القاهرة تحت عنوان “فلسطين والشرق الأوسط بين علم الآثار والكتاب المقدس″، وترجمه سمير طاهر.
يعد هذا الكتاب دراسة تاريخية عميقة لتاريخ المنطقة من منظور مختلف. من هنا تأتي أهميته وتقديمه إلى المثقف العربي وضرورة قراءته، ليس فقط لأهمية وحداثة المعلومات التي يتضمنها، وإنما للمثال الذي يقدمه في البحث العلمي في التاريخ. فهو دراسة قيمة تعتمد، أولا، على نتائج البحث العلمي المباشر بالدرجة الأولى، وثانيا أنها جاءت نتيجة خلاصة استعانة بعلوم عديدة، منها الأركيولوجي والإنثربولوجي والجيولوجي، إضافة إلى علم التشريح والعلوم الطبية الأخرى.
المحور الرئيسي للكتاب هو التضاد بين الإيمان والمعرفة، بين حكايات الكتاب المقدس ومكتشفات علماء الآثار، وكما ذكر المؤلف في مقدمته، فالكتاب “بحث في القصص الدينية في ضوء نقد المصادر، لكن بما أن الشرق الأوسط هو المسرح الذي دارت فيه تلك القصص، فقد تطلب الأمر التنقيب في ماضي هذه المنطقة، وتتبّع دور الدين في السياسة والمجتمعات التي مرت بها؛ الأمر الذي جعل من هذا العمل، إضافة إلى تخصصه الأصلي، كتابا في تأريخ منطقة الشرق الأوسط”.
ومن الفصول التي يتضمنها الكتاب: الكتاب المقدس، العهد القديم، رواد علم الآثار، أرض الميعاد، الإسرائيليون، الفلسطينيون، داود وسليمان، هيكل أورشليم، حائط المبكى، لفائف البحر الميت، حركة يسوع، ومعركة أورشليم.
يقول فوروهاجن في مقدمته للكتاب، الذي استغرق العمل عليه خمس سنوات كاملة وصدر باللغة السويدية عام 2010 “لقد قرأنا وحللنا التاريخ اليوناني والروماني، ولكننا لم نحقق أبدا في التوراة كمصدر لعلم التاريخ، حيث تركنا ذلك للاهوتيين. وهذه هي الهوة في علم الآثار الكلاسيكي التي أحاول الآن أن أسدها.
غير أني أتمنى أن يوسع كتابي هذا من معرفة أولئك الذين كانوا يتوقعون ‘موت الدين’، والذين يكتشفون الآن، مندهشين، ‘عودة الدين’ لدى كل من اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء”.
أسانيد ملفقة
اللافت هنا كما يثبت المؤلف أن تلك الأقاويل التي يتم إلباسها لباسا علميا ما هي إلا تلفيقات تورط فيها بعض علماء الآثار الممولين من منظمات وكيانات مرتبطة بالصهيونية العالمية، وهي أبحاث بعيدة كل البعد عن تصنيفها بالعلمية، وعمل عليها في الغالب أثريون أو باحثون مؤمنون برواية الكتب المقدسة لما حدث في هذه الأماكن. يكشف الكتاب الغطاء عن تلك الأكاذيب والأبحاث الملفقة التي تم الاستناد إليها على مدار عقود طويلة، ويروج لها الكيان الصهيوني كحقائق غير قابلة للنقاش.
ويذكر المؤلف في هذا الكتاب أن أهم ممولي الحفريات الأثرية، على سبيل المثال، هما مركزا شالم وإلعاد، وهما منظمتان يمينيتان تعملان بشكل علني على تهجير الفلسطينيين، وتتركز جهودهما على حائط المبكى وقلعة داوود وهيكل سليمان، على الرغم من قلة المعطيات الأثرية المنتمية إلى تلك الفترة المزعومة، حتى أنه يفجر مفاجأة، بأن حائط المبكى الذي يزعم اليهود أنه الأثر الوحيد الباقي من هيكل النبي سليمان، ليس سوى جزء من معبد الملك هيرودس.
يقول الكاتب أن الجيل الأول من علماء الآثار الذين نشطوا في فلسطين كانوا على يقين بأن تنقيباتهم ستعطي دليلا على أن الكتاب المقدس على حق، “لقد كانوا يحفرون بالمجرفة في يد والكتاب المقدس في اليد الأخرى، وكانوا يفسرون القطع الأثرية التي يعثرون عليها بما يتفق ونصوص الكتاب المقدس. ولهذا مر وقت طويل قبل أن يتوصل علم الآثار في فلسطين إلى قياس علمي حديث.
كما أن علم الآثار في فلسطين كان، أكثر منه في أي مكان آخر، متأثرا، وأحيانا محكوما، بالسياسة الدولية والسياسة القومية” ومن بين أبرز الأمثلة التي يذكرها الباحث على هذا الخلط والتلفيق ما يعرف بحفريات صخرة ماسادا (قرية مسعدة).
هذه الحفريات التي جرت في ستينات القرن الماضي والتي تم خلالها الكشف، كما قيل وقتها، عن عظام بشرية لرجل وامرأة وطفل داخل إحدى القلاع الأثرية، وهو ما يتفق مع رواية المؤرخين الصهاينة عن واقعة حصار القلعة بما فيها من يهود من قبل الجنود الرومان، واختيار اليهود المتحصنين فيها الانتحار على الاستسلام. وتم حينها الاحتفاء بهذه البقايا واللقى الآدمية، كما شيعت العظام ملفوفة بالعلم الإسرائيلي وسط دعاية غير مسبوقة، واعتبرت دليلا على الوجود الفعلي للمملكة اليهودية، غير أن الكشف الذي أجري لاحقا بالوسائل الحديثة على تلك البقايا، كما يذكر الكاتب، أظهر مفاجأة مدوية، إذ اتضح أن هذه البقايا التي مثلت لسنوات مصدر فخر قومي للمستوطنين اليهود ليست سوى عظام لخنازير وحيوانات نافقة.
هانس فوروهاجن باحث تاريخي متخصص في التاريخ القديم. ولد في 1930 وحصل على ليسانس الثقافات والمجتمعات القديمة من جامعة أوبسالا. عمل مدرسا في معهد الثقافات القديمة، وتولى رئاسة القسم الثقافي في الإذاعة السويدية، وله 12 كتابا في التاريخ القديم.
أما المترجم سمير طاهر فهو كاتب ومترجم وشاعر عراقي يعيش في استكهولم منذ 1999. درس في قسم اللغة العربية بجامعة بغداد، وله مجموعة قصصية بعنوان “إن كانت للفأر هواجس″ وديوان شعر بعنوان “أعطني ذلك الطفل.. أعطني رائحة قديمة”.