فيلا البالونات
توصلت بدعوة من عند أعز صديقاتي لحضور حفل عائلي. وألحت عليّ في الحضور لأنها تعلم أنني لست من هواة الحفلات والسهرات الطويلة التي تستوطنها الضحكات المجلجلة والكلمات الصغيرة. قبلت الدعوة وكل حواسي الداخلية تعلن رفضها لكن صداقتنا الجميلة أرغمتني على القبول رغم مناعة نفسي. حاولت أن أكون أنيقة وبسيطة في لباسي، اتجهت إلى مكان الحفل. فيلا تنطق بالرفاهية والعيش الرغيد. استقبال مع ابتسامة عريضة. قالت لي سيدة “هل أنت من طرف وفاء؟”، أجبت بنفس الجفاف الذي سألتني به “نعم”. دفعت خطواتي إلى الداخل، أنوار كثيرة لها بريق يخطف الأبصار وموسيقى تستوطن المكان، تهت وتاه مني إحساسي بين كل هذه الفوضى وصديقتي لا أثر لها. فشعرت بالارتباك. لا أعرف أحدا من المدعوّين. ولاحظت أن أغلبهم من الطبقة البورجوازية التي لا رؤوس لها. كلام كثير يتطاير في الفضاء. صوت خشن نوعا ما يقول “لن أعود إلى ذلك المقهى.
لقد تحول قبلة لأغلب الموظفين”. وصوت آخر من الجانب الآخر يقول بنوع من السخرية “حتى صغار الشعب يريدون العمل بالسياسة”. وتلتها قهقهات عالية تصم الآذان.. حاولت الهرب مما كنت أخافه وأمقته، إذ بصوت نسائي يكبل خطواتي، ويقول بحدة “سألغي اشتراكي بالمسبح الذي أذهب إليه. لقد امتلأ عن آخره”. تهت كأنني وسط غابة لا أعرف أولها من آخرها. قررت الخروج دون أن أسلم على أحد حتى صديقتي التي دعتني لم أجدها مما زاد من توتري. كأن اللحظة تعاندني وترفض تمرّدي الطبقي، إذ بصوت أعرفه ينده عليّ. كانت وفاء. وأخيرا ارتاحت نفسي نسبيا. كدت أصرخ وأعلن عن غضبي الكامن بداخلي لولا هدوء صديقتي واعتذارها عن عدم استقبالي لكونها كانت في مهمة.
قبلت الاعتذار على مضض وهمست لها في أذنها قائلة “وفاء، أريد الخروج من هنا، أرجوك”. أجابتني بابتسامة كالتي استقبلت بها وأرغمتني على الجلوس بين مجموعة من الضيوف. وزعت الحلويات والمشروبات بكل أنواعها. ظن “الخدم”، أنني أكره هذه الكلمة التي تحمل استغلالا بشعا، وأفضل كلمة “المساعد أو المساعدة” يروحون ويجيئون. كل مكلف بمهمة. لم أر هذا النظام وهذا الكم من “الخدم” إلا في أفلام “الباشاوات” وأصحاب المعالي، يأخذون أدرع الصالون الفسيح ذهابا وإيابا. والذي زاد من ذهولي هو كون أغلبهم من أصحاب البشرة السوداء. سألت نفسي “هل هي مجرد صدفة.؟”.
حاولت إسكات صوتي الداخلي وقمع تمرده وإقناعه بأنها صدفة غريبة نوعا ما حتى أتحمل جلوسي معهم. فاجأتني صديقتي بقولها “ما رأيك بالفيلا. أليست جميلة…؟”. صديقتي وفاء، رغم اختلافنا في بعض المواقف والأفكار إلا أنها تبقى صديقة مخلصة وأمينة على كل أسراري وأفتح لها مغاليق قلبي. أجبتها من نوع من اللامبالاة “جميلة ولكن أصحابها..”، رمقتني بنظرة معاتبة وقالت “كيف هم أصحابها؟ لا تنسي أن صاحبة البيت هي خالتي” كادت الضحكة أن تفر من بين شفتي، قلت لها “إنني لا أنتمي إلى هذا العالم، ولا أحب الانتماء إليه”.
كل شيء مصنّع. أخذت بعض الحلوى وشرفت من كأس الشاي الذي كانت تحضنه بين يديها وهمست لي كأنها تفشي سرا “أنت تعلمين أنني أنا أيضا لا أحب هذا العالم لكن لم أرغب أن أظل وحدي بينهم”.
استأذنت صديقتي مني وتركتني لوحدي وجها لوجه مع الوجوه الملونة والكلمات المجملة. قالت إحداهن “لقد اشتريت بالأمس آلة كهربائية تصنع قهوة رفيعة”. سألتها الأخرى “وكم ثمنها؟”. أجابت وهي تعدل من شعرها الذي تظهر عليه علامات التعذيب “أظن أنها تساوي خمسة آلاف درهم”. لما سمعت الثمن، توقف عندي الزمن وتذكرت ساعتها “عمي أحمد” وأبناءه السبعة وكيف ينامون في غرفة واحدة ويأكلون مما تتركه أزبال الميسورين. أما خالتي “صفية” فهي وحيدة مع زوج معاق لا تغادر البيت الا لماما، عندما يمزق الجوع بطنها ويؤلمها رأسها من شدة الصراخ، تدفع جسدها الواهن إلى الخارج، وتدفن كبرياءها تحت قدميها وتتوسل بيد ترتجف من شدة الخجل والجوع، لعل أحدهم يحن عليهما ببعض الدريهمات أو بقايا أكل، حتى تسكت صراخ الألم الذي بداخلها.
وأنا أحاول أن أستفيق من صدمتي، إذ بأخرى تقول لها “ولكن يا أختي لقد اشتريت الشهر الفائت، نوعا آخر أحسن بكثير وأغلى”. قالت والضحكة تستوطن كلماتها “لم أعد أرغب فيها. إنها مركونة في المطبخ”. وتعالت الضحكات. أردت الضحك حتى أجاريهم لم أستطع. برد الشاي الذي كان أمامي، وفارت أعصابي. تعبت رجلاي من الجلوس والحركة. ألتفت يمنة ويسرة أبحث عن صديقتي التي تاهت عني وسط الزحام.
أردت تغيير المكان لكن المشكل أن الكل يتشابه لا فرق بين الرجال والنساء، بين صغيرهم وكبيرهم. فضلت المكوث مكاني والصبر على ما أصابني بقبول هذه الدعوة. كانت سيدة أخرى تجلس إلى جانبي، تفتح حقيبة صغيرة وتنظر في المرآة وتعيدها إلى حقيبتها. فبادرتها إحدى المدعوات قائلة “لون شعرك جميل وبرّاق. ماذا فعلت حتى صار بهذا الجمال؟ ازدادت ثقة وأجابتها بصوت واثق “لا أستعمل سوى الأعشاب الطبيعية التي أحصل عليها من عند العشاب الخاص بي”. قالت متلهفة “أين يوجد؟ أريد أن أستعمل نفس الأعشاب مثلك؟”. أصبت بتخمة غير عادية، جاءت صديقتي وما كادت تجلس إلى جانبي حتى أبلغتها برغبتي في الخروج من هنا وفي أسرع وقت ممكن. لاحظت إصراري ولم تناقشني.
وأنا أتلمس طريقي إلى باب الفيلا، كدت أصاب بالدوار، حيث استحالت كل الرؤوس التي أمامي إلى بالونات منتفخة وفارغة من الداخل. كل جسم يحمل بالونا ملونا ويتمايل به داخل الصالون. تلمست رأسي هل مازال في مكانه أم تحوّل بدوره إلى بالون. التفت إلى صديقتي حتى أبلغها بما رأيت وتؤكد لي صحة الرؤيا، لم أجدها. كانت في حوار مع أحدهم. دهشت وقلت “كيف تحاور بالونا؟ هل صارت مثلهم؟”. جمّعت كل قواي الجسدية والنفسية وانطلقت كالسهم إلى الخارج قبل أن يتحول رأسي إلى بالون فارغ.