في‭ ‬نقد‭ ‬“ثقافة‭ ‬النخبة‭ ‬وثقافة‭ ‬الناس“

الأربعاء 2015/04/01
رسمة لفيصل لعيبي

الثقافة تقرأ في حقل التاريخ، أي في إطار مجتمع محكوم بسلطة ما “استبدادية مثلاً”، وهي المقصودة بالدعوة‭.‬ الثقافة العامة والنخبوية تتأثر بهذه السلطة؛ وهنا أنطلق من فكرة أجدها صائبة وهي أنّ الثقافة السائدة، سواء لدى النخبة أو الناس، هي ثقافة الطبقة السائدة‭.‬

تتغير هيمنة الطبقة المسيطرة على الثقافة والوعي وسواهما، بصراعٍ فعلي في حقل الثقافة والسياسة وكافة مجالات المجتمع، ولكن غياب الصراع في هذا الحقل، وتسييس كل حقول الصراع يمنع تشكّل الثقافة الجديدة، وحينها تنتقل ثقافة السلطة إلى ذهنية النخبة والناس معاً فتهيمن عليهم‭.‬ وفي حالتنا السورية، فشلت النخبة في تشكيل ثقافة وطنية تغيّر من الثقافة التي كرستها الطبقة المسيطرة‭.‬

أيضاً، أغلبية النصوص في الملف ماثلت بين النخبة وبين الطبقة المسيطرة، ليبدو وكأنّ الحديث عن النخبة هو حديث عن الطبقة المسيطرة، وهذا سببه التباس نص الدعوة كما أوضحنا‭.‬ ونضيف أنّه لا تمكن قراءة وضعية الثقافة العربية خارج التاريخ العام لمجتمعاتنا العربية، وفي سياق تشكلها الحديث؛ وأيّ قراءة لا تنطلق من هذه الوضعية، كأن تنطلق من الماضي مثلاً، تفشل في تفسير مشكلات الثقافة أو تفسير طبيعة السلطات، ولماذا هي مستبدة مثلاً، رغم التمايز بين السلطة السورية والمغربية مثلاً أو السورية والتونسية، بينما مجتمعاتنا تعاني من مشكلات تتشابه في هذا وذاك‭.‬

النخبة والطبقة

حاول إبراهيم الجبين الربط الدقيق بين الامبريالية والكولونيالية كأصلٍ لتشكل مجتمعاتنا وكسببٍ للتمايز بين ثقافة النخبة عن ثقافة الناس، وأن زوال الاستعمار لم تزل معه الكولونيالية، فهي الامبريالية في مجتمعاتنا، وأن التبعية والأنظمة الشمولية تستدعي بالضرورة ذلك التمايز، فتشتغل النخبة بما هي فئات مجتمعية مختصة بإنتاج المعرفة بكل أشكالها، بما يخص عالمها الخاص بينما تتشكل ثقافة الناس من خلال حياتهم، ولكنه في بعض مقاطع نصه يقدم ثقافة الشعب وكأنّها متوارثة من الماضي، وليست بسبب التاريخ الحديث وبسبب الآليات التي تنتجها الطبقة المسيطرة‭.‬

ثم يقدم إبراهيم النخبة وكأنّها ليست من الشعب‭!‬ متسائلاً “هل شعوب الشرق قادرة على حكم نفسها بنفسها؟”، ثم يردف بأن الشعب لأول مرة يبدأ مرحلة الوصول إلى الحكم 2011‭.‬ ربما يريد القول إنها ثورة شعبية عارمة، ولكن أجد من الخطأ إخراج النخبة الثقافية أو الطبقة المسيطرة من مفهوم الشعب‭.‬

ما بدأ في كافة الدول العربية منذ أواخر 2010 هو فعلاً يحمل تدخلاً للشعب في تقرير مصيره بقوة وفاعلية، ولكن هذا لا يعني أنه يثور ضد فئات لا يسري عليها هذه الصفة‭.‬ ربما يمكن القول إن الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ثارت ضد السلطات المستبدة الممثلة للطبقة الثرية مثلاً، أو لأول مرة يستطيع الناس إزالة الأنظمة، ولكن من الدقة ضبط المفهوم وإعادة تعريف الطبقة الحاكمة أو النخبة في إطار مفهوم الشعب‭.‬

للثورة أسباب

ثم يوجه إبراهيم نقداً للناس، ولصمتهم عن الطبقة الحاكمة وعدم تغييرها قائلاً “الفبركة الوطنية، إذن كانت بإرادة العقل العام نفسه، ولم تكن مفروضة فرضاً، ولو شاء الناس، لانقلبوا على تلك النخبة وحاسبوها، غير أن عقلية الرعية التي تدرّب عليها العامّة، عبر القرون، رعية الخليفة والسلطان، استمرت بعد زوال الخليفة والسلطان، لتبقى الرعية تبحث عن راعٍ”‭.‬ هذا النقد لا يأخذ الظروف العامة التي تسبب الثورة أو لا تستدعيها، بل يقرر الكاتب أن على الناس أن تثور‭!‬، فهل تثور الناس في أيّ وقت أم تثور بسبب جملة شروط تتكثف وتنتج ثورتها؟ عدا أن عدم الثورة لا يفسر بعقلية الرعية بل بغياب شروط الثورة‭!‬ ثم يوجه نقده للنخبة ذاتها “وكان الأجدر بالنخبة الفكرية، التي ظهرت في ذلك الحين، التوقف بأمانة عند هذا التمرير الخطر، للعلاقة ما بين الشارع والنخبة، فهي الأكثر إدراكاً وتسلحاً بالمعارف والعلوم، وكان عليها أن تنير للناس خياراتهم بدلاً عن السكوت على ذلك التنصيب البائس الذي لم يستند سوى إلى شرعية جهالة العامة، لا شرعية تفوّق النخبة”‭.‬ وكأنّ النخبة بلا مصالح طبقية تعمل لأجلها، وكأنّ مهمتها أن تتقدم بكلية المجتمع نحو حقوقها العامة‭!‬ النخبة الوطنية، في زمن الاحتلال الفرنسي أو بعده، كانت نخبة تمثل طبقات اجتماعية محددة، وسواء سميت الطبقة الإقطاعية أو البرجوازية التقليدية أو أيّ تسمية أخرى، فهي طبقات تمثل مصالح مجتمعية محددة، وبالتالي تكمن مصلحتها ليس في تنوير الناس بل في زيادة جهلهم، وواقع ما حدث إبقاء الناس على حالهم، وبالتالي تغييبهم عن السياسة والمشاركة وهو ما يعزز مصالح تلك النخب، إضافة لغياب الأسباب الفعلية للثورة أو الانتفاضة‭.‬

وبعد أن يكتب ما قلناه يعود ليؤكد أن النخبة إمّا “إقطاع مستمر، أو طبقة مثقفة جاءت من الجامعات الغربية”، بينما كان يجب قراءة تلك النخبة أنّها بالأساس جزء من طبقة لها مصالحها وهي كانت جزءا من أثرياء بلاد الخلافة العثمانية أو لاحقاً كانت جزءا من مشروع الدولة العربية الفاشلة أو من الفئات الثرية في ظل الاحتلال الفرنسي، ودخول فئات جديدة إليها، لا يغير من طبيعتها كطبقة لها مصالح متميزة، وبالتالي بروز مصالح خاصة بها، مما يستدعي تغييب التنوير للعامة‭.‬ التنوير بالمعنى الاختصاصي والأكاديمي قضية مؤسسات الدولة الحديثة من تعليم وجامعات لحاجاتها، وهذه كلها لم تكن متوفرة إلا بحدودٍ شحيحة وخاصة للأثرياء أو بما هو خاص بالتعليم الديني “الكتاتيب”، وهو قضية الطبقات المضطهدة وممثليها لتغيير واقعها كذلك‭.‬ طبعاً يمكن لمثقفي الطبقات الثرية أو المثقفين الفاعلين من أجل سيادة الطبقة الرأسمالية أن ينشروا الثقافة والوعي ولكن فعلهم ذلك لن يتجاوز أفراد الطبقات الثرية أو الأفكار التي تدعم سيادة تلك الطبقات‭.‬

يميّز خزعل الماجدي، بين ثقافة النخبة وثقافة الناس وأن ثقافة النخبة أعمال تخص الفكر والأدب ومنها يعتاش المثقف وبالتالي هي تخصصية

النخبة لا تنتج ذاتها

يشير الجبين أحياناً إلى أن النخبة خلقت السلطة، وهنا يماثل بين الأثرياء والمشتغلين بالثقافة ليعود للتفريق بينهما، وهذا يربك البحث، وهذا بأثر من نص الدعوة التي أشاعت الالتباس، كأن يقول “بينما يمكّن الحكم الذي نشأ على يد النخبة ذاتها في عواصم المشرق، وتحوّل إلى استبداد وحشي بالتحالف مع الكولونيالية المنسحبة شكلاً والباقية منخلال وكلائها، تركت النخبة تنتج النخبة،بينما كان الشارع ينتج ذاته كل مرة، وحرم الاستبداد الطبقة الوسطى من تطوير ذاتها، لتصبح قيادة للناس، بفعل الضغط الكبير الذي مارسه عليها”‭.‬ والسؤال من هي النخبة التي أنشأت الحكم هنا؟ وبعد كيف تنتج النخبة ذاتها وقد استقلت عن السلطة؟ أو الشارع ذاته؟ أعتقد أن هذا غير ممكن؛ فثقافة الشارع والنخبة تُنتج ضمن شروط تاريخية محددة، تُشكلها الرأسمالية العالمية، والتي كانت سبباً في تفكك الدولة العثمانية وفي بداية الاستقلال القومي لكثير من الشعوب، والذي ترافق مع بداية الاستعمار الأوروبي، وضمن ذلك الإطار برزت فئات ثرية، ولها نخبها، وراحت تُنشئ دولتها، ولنقل سلطاتها، وكان ذلك يتم في إطار صراع المصالح وتشكيل السلطة، وهذه العملية بمجملها كانت تعيد تشكيل النخب والناس وثقافتهم كذلك‭.‬

يتكرر الالتباس مجدداً من خلال القول التالي “ما هو الإرث الذي تركته النخبة العربية للعامة حتى ما قبل العام 2011 ؟”، هنا يشير إلى تطابق النخبة مع الثقافة ولكنه قبل قليل كان الالتباس مشوّهاً للنص‭.‬ ولنتابع معه فيعطي تعريفاً جديد للنخبة وهي إما “المعارضات السياسية أو الطبقة الأكاديمية وبين المفكرين والعلماء” وهنا تصبح النخبة خليطا بين السياسيين والمثقفين، وهذا بدوره لا يساهم في قراءة المسألة المطروحة بشكل موضوعي، فالساسة لهم مجالهم والمثقفون لهم مجال آخر‭.‬ وهنا يصبح من الضرورة الفصل بين النخبة كمنتجة للثقافة والمعرفة وهي وظيفتها وبين الساسة، وعملها في حقل السياسة حصراً وبين الناس، أي المفقرين والطبقات الوسطى، والتي علينا قراءة ثقافتها ضمن ما تكرسه الطبقة المسيطرة، وإلا وقعنا في الفصل بين الثقافتين وكأنّ الناس يختارون بمحض إرادتهم شكل وعيهم ولا يصنع لهم، خاصة في زمن الاستقرار‭.‬ ويمكننا القول إنّه في زمن الثورات ما لم تطرح رؤى جديدة فعلاً فإن ثقافة السلطة ستسود مجدداً، وإن بأشكالٍ مختلفة‭.‬

بعد ذلك يقرّر الجبين “بمرور السنوات الأخيرة على انتفاضة الشارع على النخبة، سواء كانت حاكمة أو معارضة للحكم” حقيقة لم أفهم كيف يثور الشعب على النخبة؟ من الطبيعي القول على “الحاكمة” أما على المعارضة فهذا تقرير لواقعة لم تتحقق‭.‬ يريد الجبين القول إن النخبة السياسية لم تطرح قضايا الشعب، وبالتالي من الطبيعي أن تكون الثورة ضدها، ولكن هذا لم يحدث، بل وجدنا المعارضة تتسلط على الثورة ولاحقاً إزاحة الشعب وتصالحت مع السلطة القديمة لتشكلا سلطة واحدةً‭.‬ الشعب الثائر لم يثر مجدداً ضد تلك المعارضات السياسية التي كانت مبعدة عن الحكم من قبل؛ وهذا ما سيكون ربما لاحقاً باستمرار التأزم وعدم حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والعودة على الحكم الأقرب للتسلطي‭.‬

وينهي بحثه الهام مؤكداً التفارق بين الشارع وبين السلطات الحاكمة ومعها النخب، ليؤكد ضرورة أن يتقدم الشارع بمشروعه الخاص، ولكن ذلك غير ممكن دون “نخبة” ما وهذا مما لا يوضحه بحثه أبداً‭.‬

ربما الإشكالية الأكبر في النص أنه انطلاقة من الأخلاقي وأن على النخب أن تعي مسؤوليتها الوطنية العامة، وهذا خطأ فالنخبة دائماً لها مصالحها الطبقية، ويجب أن تقرأ مواقفها ضمن هذا الإطار‭.‬

الغرب والتمايز الكوني

يميّز خزعل الماجدي، بين ثقافة النخبة وثقافة الناس وأن ثقافة النخبة أعمال تخص الفكر والأدب ومنها يعتاش المثقف وبالتالي هي تخصصية وسوى ذلك، وأما ثقافة الناس فهي عاداتهم وتقاليدهم وفلوكلورهم وسوى ذلك، وهي تتمازح في سياق التطور مع الأولى وتتطور بدينامية مستمرة‭.‬ الإشكالية مع نصه أنه يجرده من سياقه التاريخي والأيديولوجي وكأن الأمر مسلّمة أصبحت ليست مثار شكٍ، لتظهر الثقافة وكأنها إنتاج معرفي يستهدف الحقيقة كل الحقيقة، بينما المعرفة خاضعة باستثناء العلوم الطبيعية لمجمل رؤية الباحث والمفكر والأديب وانتمائه الطبقي، والأمر عينه بما يخص ثقافة الناس؛ وهذا السبب الرئيسي في تبني أشكال محددة من الفكر والثقافة والآداب، وهي عملية واعية وغير واعية بأنها واحد، ولكنها تعكس الواقع المميز لطبقات المجتمع وللأفراد الذين يشكلونها‭.‬

ثم يعرّج على قضية، تبدو للوهلة الأولى محقة، متسائلاً هل يمكن ردم الهوة بين ثقافة النخبة وثقافة الناس، ثم لماذا نردمها، وهذا يتطلب قرونا في مسار المجتمعات المتخلفة‭.‬ أولاً لا توجد ثقافة يعمّها السكون، بل هي متغيرة بهذا المقدار أو ذلك، ووفق التغيرات التي تطال كلية البنية الاجتماعية، بالاقتصاد والسياسة والتعليم، وتخضع ثقافة الناس وثقافة النخبة ذاتها لهذه التغيرات، بل إن الثقافة ذاتها انعكاس للواقع وليس العكس؛ وبالتالي لن تتطور الثقافة بكل أشكالها ما لم يتطور الواقع ذاته؛ ووجود محاولات فكرية للخروج هي أيضاً من ضرورات الواقع في إطار نزوعه نحو التغيير‭.‬

يتضمن قول الأستاذ خزعل، أن الوضع في الغرب شيء وفي الشرق شيء، مدلولات إشكالية، وأولها تغييب دور البلدان المتقدمة في إدخال العالم (ومنه الشرق) بأكمله في تاريخ واحد، ولكن بشكل مميز في تطوره تقدماً أم تخلفاً‭.‬ لذلك يجانب الصواب نصه حينما يقول الشرق شرق والغرب غرب، وأن الشرق “المتخلف” لن يصل إلى مصاف الغرب إلا بعد قرون وقرون‭.‬

إذا أردنا فهم أسباب الانشطار السياسي الحاد وتفاقم العنف السياسي، لا بد من العودة للخلفية الثقافية للمجتمعات العربية

يصوّر الأستاذ خزعل العلاقة بين الثقافتين بأنها عملية إرادية محضة، ويؤكد ضرورة التواشج والاعتراف بينهما، وبمنهجية تفكيكية يؤكد ضرورة الاثنتين للمجتمع‭.‬ أولاً لا يمكن إلغاء أيّ ثقافة باعتبار الثقافة فعلا اجتماعيا مستمرا، والثقافة ذاتها عملية متبدلة ومتغيرة، وتخضع للتحول المستمر، وفقاً للتغيرات العامة، وتتحكم الطبقة المسيطرة في إعادة إنتاجها بما يتوافق مع مصالحها؛ أما ما يشكل ثقافة مغايرة فهو وجود مشروع تاريخي مغاير فقط‭.‬ باستثناء ذلك فإن كل أعمال الثقافة النخبوية وثقافة الناس، هي نتاج التحكم الطبقي للطبقة المسيطرة‭.‬ وفيما يخص مفهوم الصراع الطبقي والطبقات فيسود وهم كبير أن المجتمعات المتقدمة مرت بفترة كان الصراع الطبقي واضحا فيها، وأن هذا يعود للتفارق المطلق بين الطبقة العاملة والطبقة البورجوازية، ووجود الصراع بينهما على ساعات العمل وسوى ذلك، ولكن بتطور الرأسمالية ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية تغير الأمر، فلم نعد نرى طبقة عاملة كما كان قبلا ولا طبقة رأسمالية كذلك وهكذا، وكأن الصراع الطبقي يتجلى فقط في الوضع الطبقي المتفارق بشكل كبير‭.‬

المفاهيم والتغيرات

هذا الوهم لا يدرك أن مفهوم الطبقة والصراع الطبقي هو بالأصل مفهوم نظري وليس مفهوماً يرصد من خلال شكل محدد من النضالات اليومية، وبالتالي لا يوجد شكل محدد للصراع الطبقي كمعيار له، بل هو يأخذ أشكالاً كثيرة ولا متعددة، وكي لا نرهق البحث كثيراً، أوجز قائلاً ما دام النظام الرأسمالي قائم فهو ينتج طبقات مستغلَة ومستغِلة‭.‬

وينهي مقالته بتغييب الأساس الاقتصادي للثورات العربية، والتي هي السياسات الليبرالية الجديدة، والتي دمّرت الزراعة والصناعة البسيطة وأنتجت ملايين العاطلين عن العمل وأجراً لا يتساوى مع الأسعار، وهي السياسات المعممة عالمياً منذ بداية الثمانينات، والتي أوصلت نتائجها اليسار اليوناني إلى الحكم، وقبلها أوصلت اليسار اللاتيني إلى الحكم، وهي السبب الرئيسي للثورات العربية‭.‬ طبعاً الدولة الشمولية مُشكلة منذ عقود، ولكنها لم تكن سبباً للثورات، وفقط حين وصل الوضع الاقتصادي إلى حالة من التأزم الشديد انفجرت الشعوب وبهذه اللحظة كان لا بد من تدمير السلطة الشمولية‭.‬ سبّب غياب قيادة ثورية مانعاً لهذه الثورات من الوصول إلى أهدافها‭.‬

وينهي الماجدي نصه مؤكداً ضرورة الديمقراطية ويقرنها بالليبرالية، وأنها وحدها تصون الحريات العامة والخاصة‭.‬ هذه رؤية خاطئة؛ فالديمقراطية هدف من أهداف الثوراتالعربية دون شك، وهي من مهام الطبقات المفقرة وليس الفئات الليبرالية‭.‬ الأخيرة لا تخدمها الديمقراطية، لذلك كانت الأنظمة وتحديداً في مصر وتونس وفي كثير من دول العالم ليبرالية ومنها اليونان ولكنها عممت السياسات النيوليبرالية وسببت الكوارث للشعوب وحينها ولا سيما في اليونان كانت الديمقراطية الغطاء لذلك النهب‭!‬ وبالتالي الديمقراطية هدف رئيسي للشعوب في سعيها لتحقيق أهدافها العامة‭.‬ وإن وجود مثقفين ليبراليين يثمنون الديمقراطية لا يغير من طبيعة الليبرالية وأنها وظفتها من أجل مصالح تلك الفئات وعلى حساب بقية طبقات المجتمع‭.‬

الواقع المغيب

يؤكد خطار أبو دياب أن الثورات هي رد فعل على “الضعف العربي البنيوي، وعلى تغييب الموقع العربي ضمن المعادلات الإقليمية والدولية وتهميشه” ولكن هل حقاً هي كذلك؟ لا أظن الثورات كذلك، والضعف العربي كان واقعة تتطور بشكل مستمر‭.‬ السبب الذي يذكره أبو دياب سبب عام وقديم، أما سبب الثورات فيتحدد بوصول العاطلين عن العمل إلى مستويات قياسية، وفشل السياسات الليبرالية الجديدة فشلاً كاملاً، ولم يكن بين الأسباب “تغييب الموقع العربي” حيث أن هذا الموقع ازداد تراجعاً بعد الثورات‭!‬ أقصد أن قراءة الثورات العربية أسباباً ونتائج تتطلب الانطلاق من الواقعي وليس من العام؛ فدون شك هناك ضعف وتراجع، ولكن ليس هو سبب الثورات، ولذلك لم تذهب نحو تجاوز الضعف والتراجع، بل وكان من نتائجها حتى مرحلتها الراهنة تحكماً امبريالياً بالدول العربية، وعودة إلى اعتماد السياسات الليبرالية من جديد، وبعض الدول العربية دخل في حروب أهلية، وبعضها تتحكم به دول إقليمية‭.‬

يشير أبو دياب إلى أن “الطبقة السياسية لم تكن على مستوى طموحات المصريين” والوصول بالثورة إلى تحقيق أهداف الثورة‭.‬ المشكلة هنا في تصوّر أبو دياب أن تلك الطبقة مهتمة فعلاً في تحقيق طموحات المصريين‭.‬ كان الأدق الانطلاق من طرح السؤال التالي‭:‬ لماذا لم تكن على مستوى تلك الطموحات؟ وهذا ما سيفتح البحث نحو التفكير في مشروعٍ يحقق تلك الطموحات، وبالتالي الخوض في كل المشاريع السياسية المطروحة في مصر وغير مصر‭.‬

أقصد أن الثورات العربية كانت انفجارات مجتمعية كبيرة وسريعة، ولم تسمح ببروز قيادات ثورية لها، وذلك لأسباب متعددة‭.‬ بحث هذه القضية وإنهاء التحليل السياسي المشخصن للأنظمة، واعتبار مشكلات الشعوب سببها رؤوس الدول فقط أصبح أكثر من ضرورة‭.‬ ثانياً مماثلة الثورات العربية بالثورات الديمقراطية لشعوب الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية كان خطأ فدحاً وهذا ما عممته الأقلام الليبرالية وأن الطريق الديمقراطية والسلمية هو ما سيحقق النقلة في مجتمعاتنا، بينما هي لها طبيعتها المميزة، ومنها أن الثورة المصرية أخطأت حينما سلّمت للجيش ولاحقاً للإخوان ولاحقاً ومجدداً للجيش، بينما كان عليها إنهاء السلطة القديمة واستلام الحكم هي بذاتها في مصر وفي كل الدول العربية، ولكن هل هذا كان ممكناً أيضاً؟

الحاضر مفتاح التفسير

ثم يشير بأنّه “وإذا أردنا فهم أسباب الانشطار السياسي الحاد وتفاقم العنف السياسي، لا بد من العودة للخلفية الثقافية للمجتمعات العربية‭.‬ وفي هذا الإطار كان عبدالرحمن بن خلدون قد تبنى نظرة موسوعية للتاريخ العربي تفيدنا اليوم في فهم أسباب التخلف وعدم القدرة على اللحاق بالعصر”‭.‬

هذا يعني أن طبيعة مجتمعاتنا الراهنة وشكل أنظمتها الراهنة، لا تفسر بأنها جزء من عالم موحد، وأن هذا العالم هو سبب التمايز الكوني بين دولة متقدمة ودولة متخلفة، وأن التبعية البنيوية بين الدولة المتقدمة والمتخلفة هي سبب هذا التمايز‭.‬ أعتقد أن تفسير مجتمعاتنا لا يكون بالعودة للماضي بل يكون من خلال ما أشرنا إليه‭.‬ وأضيف أن تنمية التخلف، الذي قامت به الأنظمة العربية كان بسبب طبيعتها كممثلة للطبقات البرجوازية التابعة، ولتعزيز تبعيتها كان لا بد من شكل وحيد للنظام السياسي هو الشكل الشمولي تارة والطائفي تارة كما في لبنان، وهذه الأشكال كانت تؤبّد الطبقة المتخلفة وتؤمّن مصالح الامبرياليات العالمية، ومن هنا نتفهم لماذا حافظت الإمبرياليات العالمية على كافة أنظمة المنطقة الشمولية والطائفية وسواها‭.‬

وينهي أبو دياب، مقاله بالرغبة في تشكيل أحزاب جديدة تجدد “النهضة المؤجلة مراراً” ودون أيّ تحديد لطبيعة هذه الأحزاب مجدداً؛ المنطق القومي في النص يمنع الدكتور من خوض غمار لماذا فشلت النهضة؟ ولماذا أخفقت الطبقة المتوسطة في تحقيق أهداف الثورة؟ وأيّ رؤية وأيّ طبقات قادرة على النهوض بالمنطقة العربية؟ لا سيما وأن الليبرالية القديمة سقطت بعيد الاستقلال والطبقة الوسطى سقط مشروعها وكذلك الطبقة التابعة من بعدها، والآن أوضحت الثورات الحدود القصوى لإمكانيات الطبقة الوسطى وتسليمها للحكم مجدداً للعسكر وسواهم، وبالتالي كيف يمكن إيقاف كل هذا التدهور، وكل هذا الضعف البنيوي؟ هذا الأمر متعلق باليسار تحديداً والأخير غارق في مشكلات، ووضعيته هذه بالتحديد هي ما يؤدي إلى فشل الانفجارات، فالليبراليون ليسوا هم الحل وبغياب اليسار تصبح حصيلة الثورات المندلعة منذ عام 2010 ضعيفة‭.

أغلب المداخلات تنتهج المنهج المثالي، وتعالج قضايا كثيرة، وتنتقل من عصر إلى عصر، أو تغطى ببعض الأفكار أكثر من قرن، وهكذا‭.‬ وبذلك تعد هذه المداخلات مواقف سياسية أكثر مما هي أبحاث معرفية

الطابع الأخلاقي

مقال يحي العريضي، يغلب عليه الطابع الأخلاقي، فهو يرفض كل ما يجري، ورغم أنه يعيد كل التطورات إلى سيطرة “الزمن الأميركي”، وثقافة المعلوماتية والتضحية بالثقافة والفكر، إلا أنه لا يحلل معنى الزمن الأميركي هذا‭!‬ وما فعلت أميركا بعد أن هيمنت على العالم وبعد تعميمها السياسات النيوليبرالية‭.‬ والأمر ذاته حينما يتناول النظام السوري، أيضاً يركز على رأس النظام بدلاً من بحث آثار السياسات الاقتصادية التي عممها النظام وكانت سبباً في الثورة السورية‭.‬ هنا لا يجتهد الفكر في محاولة تلمس المشكلات، وبالتالي يعزز النزعة التذمرية عند أغلبية المعارضين بدلاً من إنتاج الأفكار والتحليلات المعمقة للمشكلات وللبدائل أيضاً‭.‬

وبعد الكتابة عن كارثية الاستبداد يتحدث عن غياب أيّ إمكانية لبروز أيّ نخبة، بل يستغرب كيف ظهرت شخصيات كالماغوط وزكريا تامر‭.‬ أعتقد أن الشمولية كشكل مطلق للنظام ورغم كل كوارثها فإن السوريين ظلوا ينتجون معرفيا وسياسيا وإن بدرجات أضعف، وهذا بصفة خاصة قبل الثمانينات وحتى لاحقاً عليها ظل الأمر عينه؛ حيث ظهرت قوى سياسية معارضة وكما ظهر إنتاج معرفي، ورغم ضعفه وتعثره، فإن عدم تشكيله للوعي العام متعلق بطبيعية النظام الشمولي ذاته؛ ولكن أيضا هذا لم يمنع تحويل سوريا إلى صحراء قاحلة، ويمكن رصد سوريا بين 2000 و2003 وكذلك في بداية الثورة ليتوضح لنا الكثير مما كان يتراكم وكان بالضد من النظام وكل سياساته‭.‬

يتجاهل العريضي عام 2011 والذي ظهرت فيها المعارضة وألوف الشباب اليساري والليبرالي والإسلامي المتنور والقومي كأول من أطلق الثورة، وإن كانت تستند إلى الطبقات الفقيرة والمهمشة، ولكن شدة القمع والتغييب والتهجير لاحقاً وقوة التدخل الإقليمي هي ما هزم تلك القوى، عدا عن ضعف برامجها، وليبرالية أغلبيتها‭.‬ وبالتالي من الخطأ تصوير النخب السياسية والثقافية وكأنّها لم تكن فاعلة بالثورة، طبعاً نخب السلطة هي نخب الطبقة المسيطرة ولن تترك مواقعها أبداً، ومن فعل لفترات صغيرة سرعان ما عاد إلى موقعه‭.‬وينهي مقالته “أهو ضياع النخبة؟ أم نخبة الضياع؟”‭.‬

يقلل الدكتور العريضي من دور النخبة، وهو بذلك يتجاهل دورها بالكامل‭.‬ وهذا غير صحيح، ونؤكد أن النخبة والمعارضة بالثورة ولكنها فشلت في فهم أهداف الثورة ودفعت هي ذاتها أثماناً باهظة وإن كانت لا تقارن أبدا بما قدمته الطبقات الفقيرة‭.‬

إشكالية الليبرالية والديمقراطية

خالد قطب، في مقالته “النخبة الثقافية والديمقراطية الغائبة” يقدم قصة فرنسيس بيكون وكأنها السبب في نشوء مجتمع النخبة ومجتمع الناس‭!‬ وكأنّ هذا بجديد؛ ألم يكن هناك فارق بين السلطة والناس من قبل مثلاً‭!‬ ورغم قراءتي للنص عدّة مرات، فلم أجده يكتب عن خصائص تلك النخبة وتحديداً السياسية منها وليس العلمية، أي النظام الرأسمالي الذي شهد فرنسيس بيكون بداية نشوئه، وبدلاً من نقاش قضية الثقافة ضمن النظام الرأسمالي وكيف تتخذ تموضعاتها، يميل لتكرار فكرة واحدة أن النخبة تزيف الواقع وتقدم ما تريد والناس عليهم رفض ذلك‭!‬ وأخيراً يقدم نقداً للديمقراطية وفق الشكل الرأسمالي السائد، وأنها لا تؤمّن حقوق أغلبية الناس وحاجاتهم، وهذا صحيح، ويدعو إلى ديمقراطية عميقة، يكون الناس هم صانعوها، ولكن أيضاً لا يوضح كيفية تحقق ذلك، فكيف ستكون تلك الديمقراطية؟ هل يمكن تحقيقها في إطار النظام الرأسمالي؟ وهل هو يسمح بذلك، أم عبر مجتمع يتجاوز الرأسمالية مثلاً؟ أيضاً لا نجد تحديداً دقيقاً للموضوع، ففي الرأسمالية لا يمكن للديمقراطية أن تتجاوز الحقوق والواجبات المنصوص عليها في الدستور والقوانين والتي تنظم شؤون الدولة بكافة مستوياتها، وبما يؤبد كتشكيلة اقتصادية واجتماعية‭.‬

أغلب المداخلات تنتهج المنهج المثالي، وتعالج قضايا كثيرة، وتنتقل من عصر إلى عصر، أو تغطى ببعض الأفكار أكثر من قرن، وهكذا‭.‬ وبذلك تعد هذه المداخلات مواقف سياسية أكثر مما هي أبحاث معرفية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.