في أكل السّحب
وقد تبيّن لي، بعد تأمّل وتفكير، أنّ للسّحب هيئة الحلوى الهلاميّة. بيد أنّني رسمت لها في عقلي صورا أخرى أكثر غرابة، كإوزّة حلوة المذاق أو وسادات بيضاء تطير وتنثر السكّر على البسيطة.
كنت أقتفي أثر السّحب كلّما وجدتني بين سماء وأرض، لا سقف يحجب عنّي رؤيتها ولا استكناه أسرارها. أسارع للخروج من مكتبي عند انتهاء مناوبتي كمحرّر مقالات بصحيفة رياضيّة وأختار أماكن هادئة لتأمّل السّحب، هذا كل ما في وسعي أن أفعله لكي أجزم بأنّ هذا العالم لا يزال رائعا ومنشرحا. وقد تمّ تكليفي بتغطية صحافيّة لمباراة كرة قدم في صحراء أفريقيا، عدا أنّ المعلومات الرّسميّة المتعلّقة بالمباراة ضئيلة. كل ما وجدته في بيانات المهمّة أنّها مباراة تاريخيّة في صحراء أفريقيا الكبرى، جنوب مملكة نوميديا. فكّرت أنّها فرصة سانحة لتأمّل سحبي المفضّلة في مكان لم تسبق لي زيارته.
بعد سفر، وجدتني أتّبع إحداثيّات مكان المباراة في أرض رمليّة دافئة، لا بشر فيها سواي ولا ظلّ فيها إلّا ظلّي. بيد أنّني مصمّم على التّقدّم ووجدتني أرتحل من هضبة إلى أخرى ومن سهل إلى آخر. أخيّم عند المساء وأشدّ الرّحال صباحا.
كانت الصّحراء المتلألئة برمالها الذّهبية قد ترامت أرجاؤها، لبثت برهة مفكّرا “هذه الصّحراء تحتويني وأعبرها، لا أملك إلا مواصلة السّير فيها”، هذا على الأقل ما أفكّر فيه الآن، ليس إلّا. طويت الخيمة القماشيّة، وضّبت أدباشي في الحقيبة، شربت جرعتين خفيفتين من الماء ثم يمّمت باتّجاه الشّمال.
أثناء اجتيازي لهضبة من الكثبان الرمليّة، تيقّنت أن السّحب التي ما انفكت تؤنسني طوال المسير قد تلاشت واختفى لونها الأبيض. كان لذلك وقع سيّئ عليّ، ربما لأنني اندمجت مع وحدتي ككيمياء معدلة. كانت حقيبتي ثقيلة نسبيّا، وضعت فيها حاسوبي المحمول، بضع مجلات ثقافية وبعض الطّعام والشّراب. الخيمة المطويّة بين يديّ كجثمان بارد، آنذاك ازداد قلقي وعظمت حيرتي. لعلّ من أتعس لحظات الإنسان تلك اللّحظة التي يكون فيها وحيدا في عمق صحراء، حيث لم يكن هناك من أمر آخر يلهيه عن سيرورة حياته سوى الحيرة. ومنذ بداية رحلتي الصّحراوية، لم أكن متأكّدا من النّجاة ولو بنسبة ضئيلة فقد كان هدفي من هذه الرّحلة بالأساس البحث عن مكان المباراة التّاريخيّة متفاديا الغرق بين أمواج عاتية من الرّمل الحارق.
من البديهيّ بالنّسبة إلى عابر الصّحراء، أن ينتظر بروز سراب وانبثاقه من جوف الأرض القاحلة والحال أنّني لم أقْصِ تلك النظريّة من ذهني حتّى لمحت ضالّتي. مستطيل أخضر متماوج بسياج حديديّ لامع. ولازلت أقترب في تردّد حتّى تبيّنت أنّه مكان المباراة المنشودة. خيّمت يومين حذو الملعب أنتظر بدايتها. بدا لي أنّ اللّاعبين كبار السنّ، بعضهم كانوا شيوخا بأزياء من حقب زمنيّة مختلفة، أمازيغ وعرب وقرطاجيّون ورومان وبيزنطيّون ووندال. يوم المباراة، وبعد محاورة وجيزة مع فتاة قرطاجيّة ألفيتها واجمة تنتظر صافرة البداية، أمكن لي معرفة هويّة بعض اللّاعبين. في الفريق الأوّل حمل حنّبعل برقة شارة القيادة شاغلا خطّة رأس حربة وكان معه ماسينيسا وبربروس وأقتاوينوس وكذلك جنسريق وفلافيوس هرقل. اتّخذ ابن خلدون مكانه في الفريق الثاني، وعرفت ممّن كانوا معه ابن رشد وابن سينا وابن أبي الضّياف وابن بطّوطة والإدريسيّ.
لم تطل فترة الإحماءات كثيرا حيث عاد اللّاعبون إلى حجرات الملابس مسرعين تحدوهم عزائم ثابتة تحت هياج الجماهير على اختلاف هويّاتها. حينئذ، تسلّيت بمشاهدة الجماهير المختلفة بملابسهم المتباينة ولكناتهم الغريبة. وكنت في تأمّلاتي تلك، أبحث عن مكان مناسب لضمان المشاهدة والفرجة في تلك الواحة غريبة الأطوار.
بدأت المباراة وكنت حينئذ قد جانبت الملعب وصعدت تلّة صغيرة فأتيحت لي مشاهدة الملعب من علٍ، نسيت أن أشير إلى أن حكم المباراة كان الايطالي “بيار لويجي كولينا” وفي حقيقة الأمر، أدركت إدراكا عميقا بأن ذلك الحكم هو الأنسب لإدارة مثل هذه المباريات لأنه، وبكل بساطة، “بيار لويجي كولينا”.
مكثت أتابع المباراة باهتمام شديد، أبارك المراوغات وأحيّي المناورات وأتحمّس للهجمات المرتدّة من الجانبين، على أنّني لم أكن منحازا لفريق دون آخر. كان الطّقس حارّا، تكتسحه نسائم باردة متقطّعة، أوحى إليّ ذلك بوهم يلوح ويختفي.
ومن السّابق لأوانه أن أتكهّن بالنّتيجة فقد كان اللاعبون مصمّمين على الفوز، حتى كأنهم مثل الحديد المذاب ينصهر ويستوي فلا تعرف لهم تعبا ولا فتورا. وبين الشّوطين، انتظارا مني للفترة الثانية، بحثا عن السّحب البيضاء التي تنثر السكّر على الأرض، شربت كوب شاي وانهمكت في ملء ألبوم “بانيني” لكأس العالم بصور اللّاعبين وشعارات رابطاتهم الكرويّة. حتّى أنّني لم أنتبه لعودة المباراة إلّا عندما صاحت الجماهير بعد هجمة ضائعة فعدت إلى المشاهدة بانتباه شديد.
تلبّدت السّماء بغيوم داكنة رغم أنها كانت تنبئ بمطر منشود. كانت المباراة مستعرة، لا أهداف تذكر، غلبت عليها الثنائيات والرّسوم التكتيكية.
لمعت أرضية الميدان من جديد وأدركت أن السّماء قد منحتني مشهدا سخيّا لمشاهدة السّحب البيضاء، فكانت سماء بهيجة مبهجة. ومع هبوب ريح قويّة، أخذت السّحب في الابتعاد شيئا فشيئا. بيد أنّني لم أكن لأفوّت عليّ مشاهدتها عن كثب. فتحت الخيمة القماشيّة وركضت في المنحدر الرّمليّ رافعا إيّاها إلى فوق حتى وجدتُني أرتفع في الهواء، طائرا مثل طيطوى مهاجر، ألاحق سحبي البيضاء الجميلة فاخترقتها واندمجت معها ولبثت أقضمها بشغف وآكل منها ما أشاء حتى ألفيتني في عالم جديد ومدهش.
نظرت إلى الأرض، هناك حيث ملعب كرة القدم. كان الفريقان قد مرّا إلى ركلات الترجيح. تقدّم حنّبعل برقة لتسديد الرّكلة الأولى وساد صمت رهيب. آنذاك، لم أكن لأفوّت عليّ حفلة الأكل، لأنّني كنت في الفضاء الرّحب بين سحبي المفضّلة، المتنقّلة، المتغيّرة ونسيت أمر المقال الصّحافيّ، ربمّا سأراسل إدارة التّحرير وأعلمهم باستقالتي. حتما سيسألونني عن السّبب. سأخبرهم بأنّ أكل السّحب في الفضاء أمر مدهش حقّا.