في انتظار الناقد المستقبلي
“هل يمكن للشّعر أن يكون نسبيا؟”.
(نوري الجرّاح)
جاء العدد الأخير من مجلّة “الجديد” معنونا “بالقصيدة والمعيار”، وهو موضوع راهن وملحّ في الشعرية العربية المعاصرة، لما تمثله كثرة التجارب الشعرية ووقوف الناقد مذهولا إزاء هذه الكثرة وهذا التنوّع من معضلة ثقافية جعلت القصيدة العربية المعاصرة تائهة في صحراء لا قرار لها دون مرشد أو خطى تتبع أثرها إلى بيان صواب. أيّ قصيدة نحتاجها اليوم؟ أيّ معيار يجب أن تحتكم إليه القصيدة حتى تكون شعرا؟ هل مازال الشّعر يحتاج إلى القصيدة، جسدا يضع فيه روحه المقدّسة؟ هل يجب على الناقد أن يكون الرّاهب الذي يقود الشّاعر بقنديله إلى الخلاص؟
في سياق هذه الإشكالات تجيء هذه القراءة كالصدى في الزرقة المتلألئة اللامتناهية من بحر الشّعر، توغل في عمقه، صعبة، مثل أيّ كلام على كلام، من أجل ضوء جديد لشعر جديد، تخرج من الشيء بضدّه وتبصر في المستقبل والآتي، حيث الجواب يشرب كأسه الأخيرة قبل أن يفصح عن مكنون القول وسرّ الشّعر في الحداثة وما بعدها.
اللاقصيدة وتحرّر الروح
مثلما هناك قصيدة، هناك أيضا اللاقصيدة، كأننا نتحدّث، تماما، عن أبيض وأسود، نور وعتمه، بحر ويابسة، هذه الأشياء التي لا نعرف كنهها إلاّ بضدّها.. والطّريق من الضفة إلى الضّفة المقابلة هو الحداثة.
ونعني باللاقصيدة الكتابات الشّعريّة الحداثيّة التي لم تكتف بالخروج عن الوزن والقافية ولم تستقر في قصيدة النثر كنوع شعري حديث، بل ذهبت بالتجريب إلى مدى أبعد، لا تبصره عين ناقد ولا تألفه ذائقة قارئ. فأخذت تعيد النظر، إجرائيا، في مفهوم القصيدة في حدّ ذاته واعتبرت أنّ الشّعر مهما تجدّد وتغيّر وتلوّن حسب حركيّة الزمان والمكان، فهو، مادام سجين القصيدة ليس الشّعر المنتظر الذي يفتح نوافذه مباشرة على الضوء والمستقبل والمطلق.
هناك، إذن، قلب معرفيّ كبير ينتقل بالشّعر من حداثة القصيدة إلى ما وسم في بعض البيانات النقديّة بحداثة الكتابة.
فلم تعد القصيدة في عدّة نماذج شعريّة حداثية قالبا يحاك فيه الشّعر، فقد استنفدت ذاتها ولم تعد قادرة على تقديم المزيد من الحريّة التي لا يكفّ شاعر المستقبل على طلبها
فالقصيدة هي شكل واحد مغلق، هو المعيار، وهو الشجرة الكبرى التي تخفي الغابة ولذلك كانت اللاقصيدة أو الكتابة الحديثة، الخطى، التي ستقود الشاعر إلى الغابة، بعيدا عن الشجرة التي حجبت عنه حريّة الشعر لعقود طويلة من الزّمن.
إنّ اللاقصيدة هي المعادل الإبداعي للمطلق والمحتمل واللانهائي لتجارب لا تكفّ عن التحوّل والتطوّر لأنها خارجة عن أيّ معيار، تبتكر قوانينها في كلّ مرة بطريقة مغايرة يكون فضاء الورقة الصلصال الذي يخلق منه الشاعر كتابته الشعرية كما يشاء.
كل صفحة هي صلصال جديد ينفتح على كلّ الأشكال، أرض تنفتح على كل الفنون واللغات والرموز والخطوط فتلج بذلك أراض أخرى فيتوسّع الشعر ويزهر وينمو دون سياج أو قيد.
وعلى هذا الأساس، لم يعد الشّعر قائما في القصيدة، ولم تعد القصيدة الجسد الوحيد لروح الشعر، ولمّا كانت، لزمن طويل، ممارسة لها نظامها وقوانينها التي كرّسها التصوّر النقدي ورسّختها الممارسة الإبداعية والأصوليّة الثقافية واعتبرتها، جميعها، الخيار التام والنهائي لكتابة الشّعر فإن الكتابة الشعريّة الجديدة، تقيم، الآن، وغدا، مشروعا إبداعيا ينفي أيّ قالب نهائي أو معيار مسبق.
لكن، أنّى للشعر أن يحافظ على قيمته في ظلّ هذا النفي؟
في تطوّر الخطاب النقدي
إنّ هذا التحوّل الفنّي من القصيدة إلى الكتابة الجديدة، من الشكل التّام والنهائي إلى الفضاء المفتوح على المطلق، حيث لا نقطة وصول ولا سياج يحدّ المسار، يوجب على الناقد وعلى الخطاب النقدي أن يواكب هذا التحوّل ويساير هذا التيار الجارف نحو المستقبل بتجديد أدوات القراءة وتغيير مناهج التحليل، ولعلّ الأهم من ذلك، بتغيير زاوية النظر لمفهوم الشعر والشاعر، وللقصيدة ومعاييرها التي لم تستطع قصيدة النثر باعتبارها نموذجا حداثيا أن تنفض عنها غبار التصوّر النقدي التقليدي للشعر.
ليس التخلّي عن الوزن والقافية هو ما يجعل القصيدة حداثيّة، الأهم هو توسيع كوى الشّعر التي نرى منها العالم، وهذا يتطلّب من الناقد أن يوسّع ثقافته لا بالشعر فقط بل بالمعارف والفنون الأخرى التي أخذت الكتابة الشعرية الجديدة تستقطبها وتغذّي بها كونها الشّعري.
من هنا، يستطيع النّاقد أن يفهم كيمياء الشّعر الجديد، بعد أن يعي طبيعة تحوّله وتركيب صوره وانفتاح دلالاته وتنوّع إيقاعه الحر والمتنطّع في معمار الكتابة الشعرية، راسما على الورقة أشكالا مرئية لا تعترف بمعيار أو نموذج، ولا تنهل إلاّ من الذّات التي أبت أن تكون محتجبة أو نائية، في نسق الكتابة والخلق.
بعد ذلك يعزّز الناقد هذا التجريب الإبداعي الجريء بتصوّرات نقديّة تعزّز التجربة وتقدّم لها مشروعيّة الوجود في ثقافة عربية لا زالت تخشى من رامي حصى يحرّك بها سواكن الماء.
تقوم هذه التصوّرات أيضا بتمييز الكتابات الشعرية الجديدة، الجادة، والقادمة من وعي شعري عميق وسعي محموم نحو تغيير حقيقي للشّعر عن الكتابات النيّئة التي لا تقدّم إضافة ولا يشفع لها هذا الكم الهائل من الحريّة في أن يسمها واسم بالشّعر.
الإبداع والإضافة سمتان تحدّدان قيمة الشّعر، والنّاقد الخبير النافذ إلى قلب الشّعر الجديد، وحده، القادر على لملمة هذه الفوضى، وعلى ضبط المعايير اللانهائية والمتجدّدة دائما لكتابة الشّعر الجديد خارج سياج القصيدة.
في تطوّر التلقّي
نركّز، هنا، على المتلقّي القارئ غير المختصّ، الزائر لعوالم الشّعر تحمله دهشة المختلف وتغريه مسارات الحداثة، أي الجمهور.
ترتكز الكتابة الشّعرية الجديدة على مقوّم المكتوب في مقابل مقوّم المشافهة الذي ارتكزت عليه الشعرية العربية القديمة، ولذلك، يجب على قارئ الكتابة الشعرية الجديدة أن يكون واعيا بالمتاهات المقبل عليها في فضاء النّص، يجب، إذن، أن يتوفّر فيه شرط الكفاءة والدراية، فلا يحتكم في معرفته لما هو شفاهي فقط، بل يعمل على تسخير حواسه وانفعالاته لتداخل الفنون وتعدّد المعارف وتداخل الخطوط وانسيابها.
فالصفحة، كفضاء، أصبحت تفترض وجود قارئ يعي وضع الحرف والأشكال الخطية التي تقترحها الكتابة، ويعي دور الفراغات والبياضات التي أضحت مكوّنا شعريا أساسيا يبني بها النّص أفق تلقّيه ويحقّق عبره، ومن خلاله، جماليّته الجديدة.
إنّ القارئ أصبح ملزما بتشغيل العين باعتبارها آلية معرفية تعي قياس المسافات والأحجام والظلال والألوان، الأمر الذي يفرض ضرورة المعرفة ببعض مبادئ التشكيل، وكذلك المعمار، باعتبارهما معرفة بصريّة.
هل نحن إذن أمام قارئ نخبويّ؟ الجواب: ربّما.
فالنّص الشّعري الجديد باعتباره نصا مكتوبا، يقطع، نهائيا، مع ثقافة المشافهة، سيستثمر كل الطاقات الممكنة التي تتيحها له الكتابة، وسيوغل في صهر الدلالة بمعمار النّص، ويتّخذ من المكان آلية فنيّة لبناء المعنى.
ذلك أنّ الفراغات والبياضات والتوزيع الخطّي سيضع القارئ أمام حالة من الحيرة والتّيه، وعليه أن يجد الطريق نحو الدلالة، يجب أن يستجوب الفضاء الشعري ويستنطق الرّموز مثل الطفل الذي يلمح وميضا في السماء فيفجّر أسئلة لا تنتهي.
إنّ النّص الذّي كان في القصيدة قارب نجاة أصبح في اللاقصيدة متاهة. والقارئ الذي كان في القصيدة أعمى، ذاتا تستهلك المعنى جاهزا، أصبح في اللاقصيدة مبصرا، يقظا، متوثّبا، جزءا أساسيا في إنتاج الدلالة وبناء شعريّة النّص فهو شريك في العمليّة الإبداعية وعنصر إبدال في الكتابة الشّعرية.
نفي المعيار والتشريع للكتابة الشعرية الجديدة ليس تقويضا لمكتسب ثقافي جاهدت من أجله أجيال من المبدعين، بل هو صيرورة وسيرورة
إنّ التغيير في اللاقصيدة سيشمل جسد النّص وجسد الكاتب وجسد القارئ ناقدا ومتلقيا، وعلى جميع الأطراف أن تعي أحراش الطريق لبلوغ لبّ الجمال في المتاهة وفي الممكن. وعلى القارئ، خصوصا، أن يكون مثقفا، مستعدّا لتغيير ذائقته وللتلوّن مع كل نصّ جديد لأن في كل نصّ جماليّة أخرى.
ليس من اليسير أن نبحر إلى الضفّة المقابلة حيث المحتمل واللانهائي، تاركين، خلفنا، زمنا طويلا من الحتميّ والنهائي.
إنّ هذه المغامرة، ضروريّة لتحديث حقيقي للشّعر العربي الذي يكاد يتخلى عن دوره كديوان العرب للرواية ولغيرها من الفنون، فالشّعر، بداهة، ينتظر منه ترجمة ما يختلج في الذات الشاعرة ترجمة تقف على الجزئي والمخفي والمهمّش في كوامن اللاوعي حيث الحقيقة تخبئ وجهها عن الضوء، وهو ما ننتظره من الشّعر العربي اليوم.
إنّ نفي المعيار والتشريع للكتابة الشعرية الجديدة ليس تقويضا لمكتسب ثقافي جاهدت من أجله أجيال من المبدعين، بل هو صيرورة وسيرورة نحو ثقافة الكتابة وفلسفة النقد المتجدّد الذي يواكب هيجان التجربة الشعرية القادمة من المستقبل، فيستقبلها بلين ويتجدّد بتجدّدها.
فمتى يأتي ناقد المستقبل؟