في ذمة الضياع

الجمعة 2016/04/01

يومًا ما حلمنا بأشياء جميلة ومثيرة، حلمنا أن تكون لنا دول حديثة وأنظمة سياسية ديمقراطية نزيهة. حلمنا أيضًا أن يكون هناك عمل للجميع ومستوى معيشي معقول إن لم يكن جيدًا. حلمنا بثورة من التشريعات الضامنة لحقوق الإنسان واحترام الإنسان ذاته.

اليوم ونحن على شفا حفرة من النار، أشعر أني أسير أشبه بمهرّج كبير. مهرّج بقبعة ذات فتحات واسعة بالإمكان أن تمر من خلالها كل أحلامي دفعة واحدة وإلى الضياع. اليوم اذ أسير في منفاي الذي حلمت أيضًا أن أنهيه بعودة إلى الوطن، أجدني تائهًا وسط الضياع الكبير الذي لفّ كل شيء. ما من شيء عاد موجودًا – حقيقية – وما من شيء يستمر إلا بالقدرة على الاندحار.

عندما زرت العراق في العام 2009 كانت بغداد قد أصبحت في ذمة الضياع، لم تعد هناك مدن ولم تعد بغداد تشبه أيّ شيء. قلت وتراب يغلّف وجهي ضمن عاصفة ترابية أكلت كل شيء، إنها النهاية. نهاية بغداد والعراق. كنت أتنفس بقية أحلامي وأسير كمن به شك على استمرار هذا العالم في الحياة. ثم التهمت الحرب ليبيا ثم تآكلت المدن بعد سقوط النظام وفوجئنا بمقدار الخراب الذي انتظرنا إذ تناثر كل شيء وصار ما كان ليس موجودًا. كنت أنظر برعب إلى اللحظة التي تلتهمنا وإذا باليمن تلتهب وإذا بسوريا على حين غفلة تنفجر. كنت أصلّي في سرّي أوّل الأمر أن لا تشهر الأسلحة، ليكون كل شيء ضمن المسيرات السلمية. لينبني كل شيء وفقًا للسلام والمطالبات بما لا يزيد عن مظاهرات. لكن النار كانت سريعة عارمة. إنهم يخطفون الأمل منا، يخطفون مصير سوريا ليوضع أمام الذئاب. ثم احترق كل شيء في لحظة متراخية من الزمن. لم أكن أصدّق أن تلتهم النار مدن سوريا، فأغمضت عينيّ للكائن من الخراب القادم، أدركت ساعتئذ حزن المدن وهي تندثر واحدة إثر أخرى.

منذ زيارتي بغداد نهاية عام 2009، عرفت على نحو بائس كيف تتآكل الشعوب وتتحوّل إلى أقوام لاجئة تذكّر بالهجرات الكبرى للشعوب عبر التاريخ. ما الذي حدث حقيقة؟ هل أخطأنا عندما حلمنا بمجد وحرية وسعادة لهذه الشعوب؟ هل كنا نسير إلى الهاوية فعلًا ليخرج كل هذا الخراب وعودة وحوش التاريخ والتعاليم الدّينية؟ هل نحن أمام لحظة مصيرية يعاد فيها تشكيلنا؟ هل نحن أمام نبوءات تتحقق دون إرادة منا؟ كل شيء جائز وأنت تنظر وتشرب من فنجان قهوة في مقهى مستمرًا في هزال العزلة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.