في وصف ما يجري هنا
أن تحب وطنك اذهب إلى الشارع وتحرك، وإن لم تكن تحب وطنك فاستقل من الشارع ولا تتحرك ولهم أن يحركوك كيف ما شاؤوا. لا تتركهم خلفك.. تقدم وسابقهم بصوتك وخيلك، وتنزه وسِحْ كأن الساحة ملكك، التحم بكل شيء فكل شيء سيأخذك إلى حيث تدرك ولا تدرك.
حشود تروح وتأتي، وأخرى تنظر وتستغرب، وأخرى تتجمهر وتتفرق، وأخرى تسير ببطء وتهرول، وأخرى تصرخ وتهمس، وأخرى تصلّي وتخشع، وأخرى تهتف وتغنّي، وأخرى تستكن وتهدأ، وأخرى ثقيلة الظل وخفيفة الملمح.
عروض واستعراض، قوة وضعف، غليان وهيجان، شكاوى وصفح، حوار وجدل وهراء، كلام مفهوم وسهل، رصين وتافه ومعقد ورشيق، ممزوج بالرفض و”العيّاط”، لغات ولهجات لجوجة ومبلبلة تتشابك وتسطع في يد الأرصفة وبين الأزقة وبين الحيطان، وتتطاير من الأفواه والحناجر، تصدح بما فاض على الكأس وبما ترسب في قاعه.
علم واحد متوحد لوطن واحد أوحد يكبر ويعلو ويلتهب بالدم والدموع، ورايات حيرانة، تتزاحم وتتكاثر، تباع وتشترى، مكشوفة ومستترة، ظاهرة وباطنة، لم تظفر لوقت ما بمكانها تحت شمس الجزائر ولم تكن لتنشر ألوانها هكذا خافقة ونابضة بالتعدد، وها هي قد حيـِن لتنفلت من عقالها وتغطي هواء “الجمعات” وتنتقل باحتشام وجرأة وتحدّ بين السواعد والأجنحة.
لافتات وشعارات مختومة ومكتوبة ومنمقة ومزوقة وذكية وغبية، صحيحة لغويا ومليئة بالأخطاء، مختلف حول كلمة “حراك” هل تكتب الحاء بالكسرة أم بالفتحة، تراكيب وبلاغة في المعاني والأساليب والصور والكاريكاتير تتلاوح بين المدهش والعادي والغريب والرديء والمكرر والمستهلك والنمطي.
أكل في كل مكان وفي كل زاوية وفي كل زقاق.. مياه ساخنة وباردة وعصائر تروي عطش النمل والبشر.. زلابية مسكرة سيدة طعام أهل الشارع تـُسكر مرارة كل فم وحلق ولسان.. “مسفوف” وكسكسي مفتول في سرية تامة بأيدي أمهات مرحات يوزع على المارة لمن هم في الحراك ولمن هم خارجه، يتلذذون بأكله على مهل وبسرعة وكي يكفي الجموع يكتفي كل واحد بلقمة واحدة ويمرر الأخرى لمن معه أو حوله أو للذي يلي الذي يلي.. “محاجب” حارة تُلتهم كأنها عصف مأكول، حلويات من كل صوب وحدب تحلي وتتحلل في الجو، مياه ومشروبات تتزاحم ببرودتها كي تلطف الحر وتطفئ ظمأ القوم.
شوارع عنيدة
كل شيء يسري ويطفو في الحراك.. كل صغير وكبير مستطر، كل تواق لحرية تعتقه أو لبنت تتزوجه، كل باحث عن وقت للاستجمام والراحة أو عن هول وصخب عن شيء ما لا يدري ما هو؟.. وعندما تسأله يقول لك: إنه هنا.. يعرفه ويشير بيديه وبعلم صغير يحمله كأنه وليده، أخلاط بشر تشهد لأول مرة هذا التدفق الهادر الموشوم بالوهج، المزركش بالحرمان، والملتحف بالتمرد والتذمر، والملتفع بالسخط والنبذ.
شوارع عنيدة تكتظ وتختنق وتتهاوى تحت ضربات الأقدام والجمر والنار، وتحت نظر العسس والحراس والبوليس تشق الصمت السرمدي الأثيم القلق البغيض للوقت الكسير الذي تكسرت تباشيره المكتومة على أجنحة الجزائر المخطوفة والمنهوبة.
يغمر السيل العرم الشوارع يهمد قليلا.. ينتظر بشغفِ المريدين خروج المصلين.. هكذا دأبه كل جمعة حيث يمتزج الرمزي والمقدس بالعيني والواقعي، يتوثق بينهما الرباط والصبر والثبات والتقوى، ويضفى عليهما لمسة الإيمان والقدر والقوة والتأثير، ويزيد في صلبهما وترائبهما، لا يستغرق الأمر أكثر من دقائق معدودات حتى لن تقدر على تقصّي الفرق بين مصلّ وممتنع، رجل وامرأة، شيخ وشاب، مراهق وناضج، صاح وسكير، مهرج وسياسي، غني وفقير، مخبر وواش، مزيف وحقيقي، الكل يقف ويترنح على أصعدة واحدة كأنها مزدلفة وإيقاعات مترنمة كأنها مؤتلفة، في الوقت وخارجه، في كتل متراصة وفي تكتلات مبعثرة بأحلام مرتبكة صادمة شائقة لاهبة، لا متناهية المطالب والتمني، يتعشقونها ويستلونها أحرارا من الكبوات والحرمان والأوجاع والأحزان، لا خوف عليهم اليوم ولا تردد، لا رعب ولا رهبة ولا صمت بعد الآن، لا عائق ولا صد أو سد أو منع أو صدع، لا حوار ولا أمان ولا سلام ولا تحية ولا رحمة ولا شفقة مع الأشرار والفجرة الكفرة، مع الخسيسين، مع السفلة، مع السارقين المارقين، مع الخونة و”البياعين”، مع الناهبين وإخوانهم ومن أكثروا في البلاد الفساد.
هتافات معروفة ومعـرّفـة بالألف واللام لم تخرج عن سياقاتها التاريخية: “جزائر ديمقراطية حرة”، “ولاش السماح ولاش”، “Pouvoir Assassin”، وكي تدخل في زمن الحراك أضيفت إليها نكهات أعدت في مطابخ سرية وعلنية، عائلية ومافياوية، حزبية وعرقية ومخابراتية، سياسية ونخبوية، رياضية و”تاع الزنق”، متفق عليها ومختلف حولها، ببهارات جديدة: “يتنحوا قاع”، “جيبو البي يا ري جيبو الصاعقة ما كانش الخامسة يا بوتفليقة”، “الجيش شعب خوا خوا”، “دولة مدنية ماشي عسكرية”، “سلمية سليمة حتى نجيبو الحرية”، هتافات هائجة متذمرة طبخت على مراجل هادئة، واختبرت في مرات كثيرة داخل الملاعب وفي القليل ضمن مسيرات محتشمة كانت تخرج من الدروب الوعرة للحياة الصعبة والقاسية، وتنفـلت من عيون متلصصة مراقبة، صوتها كان مخنوقا ومكبلا وعليلا ومتحشرجا، مشرئبا إلى ضوء فجر ما سينسلخ من الجلد المطوي تحت سنوات الغفوة والرخاء والفقر والفساد والانتفاع والركون والخذلان.. لا أحد كان يسأل عما كان يفعل بالوطن وما تتجمع حول عتماته من مصائب ونكسات وخيبات، ولا همّه الدود الذي كان يأكل ببطء الأرواح بدل الأجساد.. تلك الهتافات كانت فتوح غيب تنذر بالويل والعصف والثورة.. كانت رسائل مشفرة مكتوبة ومجلجلة بحبر المرارة المترحلة بين المدرجات والأقبية والمسافات والطرقات والأنفس والجمرات والأرواح المستكينة.. ستمسح ما كان يظن أنه صروح للخلود وجنات الأبدية.. ستجرف معها العصابة والزواحف والمارقين وتنسف جبال الفساد الذي شرد إلى مستويات لا تقاس لا بالمليمتر ولا بالسنتيمتر ولا بالكيلومتر، لا بالمئات ولا بالملايين ولا بالمليارات، بل بوقع دبيب النمل على الأرض، وهفيف الرياح، وبما نما من طحالب وزبد وملح على الصخور والحجر وعلى جسد الإنسان.
شيء منقطع النظير
جاء الحراك منقطع النظير في هبته عجيبا في حلمه.. جاء من حيث لا يعلم أحد.. لم يأت من مساجد الله، ولا من قصور الملك والسماوات، ولا من الأمكنة الباذخة للسلط والحكم،.. خرج من تحت الأرض، طازجا ومختمرا باليقظة بعد نوم عميق وكسل، يجوب البلاد غربا وشرقا جنوبا وشمالا، مفتوحا، وصامدا، خشنا ولين الطباع، يبتلع كل القصص الأسطورية عن جبروت العصابة وما فعلوه.. لا تحتاج إلى أذن صاغية كي تستوعب الذي يحدث، بل أرهف السمع وسيمر إلى أذنيك كل خطاب يشرح أو يحلل أو يناقش أو يتوهم أو يفهم أو يعطي الدرس والتعاليم ويُعلّم لك الطريق.
نسيج لقاءات تتحلق حول شخص ما أو شخوص لا تعرفهم بالصورة.. تقترب.. تسأل: من هم؟.. كيف طلعوا من نفثات هذا الحراك؟.. ماذا يقولون؟.. وما الذي به يفتون؟.. لا أحد يعرف… تغوص أكثر.. تجمهرات محشورة في كل فسحة ومكان وزاوية.. شوشرات ونقاشات ولغط حاد وحديدي و”زقا” ينفلق من أفواه رجال قوامون وشابات وشباب غض مشتت لا لغة واحدة تشحذهم في مشرب واحد بل مبثوثين في مشارب عدة متناغمة متناقضة ومتنافرة.. أصغي كي ألتقط ما يضيء هذا الغموض المجموع ليوم الناس هذا.. لا مكان لحوار ممكن وسط هذا النفير إلا إذا كانت لك أياد طويلة وحناجر جوالة.. أطفال ونساء يسترقن ويرققن الطقس.. عائلات بأكملها تفترش الأرصفة كأنه بساط الريح.. وأخرى مرحة وملفوفة بالعلم الوطني كأنه وثيقة الاستقلال ينكتب عهده من جديد.. أبيض ناصع لا لوثة فيه ولا بقعة دم أو دمع.. عيون لحاظ تلحظ كل شيء.. بعضها حائر وبعضها تائه وبعضها زائغ وبعضها مشرد وبعضها كالشبح.. وأخرى تبحث عن المرشد والمخلص والمنقذ والمرشد والدليل.. فيما أخرى تحرس وتتنبه وتعس وتراقب وتستبهم.. فيما أخرى تقتنص وتسجل وتصطف تسأل وتطارد الأجوبة الهاربة.. فالشارع للكل.. لكل طيف وضيف.. الشارع لمن أراد أن يظهر ويستظهر ويحضر ويبيع ويشتري وينظر ويُـنظر و”يدير دورة”.. الشارع للمواعيد المفتوحة والعشاق الملاح واللهو المباح، للعب ومضيعة للوقت.. الشارع لون متلون حسب “الحطة” الطراز والمعنى والمصلحة وحسب الطلب.. الشارع للسياسة والخطابة والدين والوجوه وللأشياء الغريبة التي تظهر لأول مرة، الشارع ركن للتعارف.. للشارع بهرجته وقواعده وطقوسه.. من يدخله يخرج إليه ومن يخرج إليه يدخل منه.. فيه الصدق والكذب والنفاق والشقاق والدسائس.. ما هو قبيح وجميل وبشع ومستتر وظاهر.. صاف ومكدر ومشوش.. الشارع جذب وخصب وانتماء وعرس بلا عريس.. الشارع لعبة مرموقة بين الجميع.. الشارع لقى للقيل والقال وحسن الحال.. الشارع لقطة “سيلفي” تجمع الأفراد المبتسمين بصيغة الجمع.. الشارع ذئب متحول ومتجول.. شارع شائع ومشاع ومتحدث باسمه الكل، الشارع أبيض وأسود.. الشارع سلطان مخلوع.. الشارع خطير وصورة للضمير.. بذخ وفخ.. هرج ومرج.
الشارع المخطوف
هكذا غدا الشارع مستولى عليه.. على مفاصله وأسمائه ورموزه وأزمنته وهواه وأهوائه.. على أحيائه وأرصفته وزواياه وأزقته ودروبه وحاراته وممشاه ومقاهيه وأنفاقه وحدائقه الغناء.. على هندسات عماراته الباذخة و”بلكوناته” المزخرفة وطرقاته المحفورة وممراته المتصدعة.. على مد البصر مسيل السيول البشرية تسير وتنقض عليه وتعجن هواءه في قبضة تتحرر، تنشد التغيير والتغير وتغالي في القول والفعل والوضع والمجال، لا شيء يوقف الزحف المحموم والزمجرة المتصاعدة والهدير الناعم الساحق للامتثال والطغيان والظلم.
أرقبه بالطول والعرض، بالرواح والغُدُوّ، بالصمت والصراخ، بالتواطؤ والاستقامة، بكثير من التشاؤم والقليل من التفاؤل.
أرقب هذا الشارع، أحاذي أطرافه وأبتعد قليلا عن حوافيه عن ثرثراته وسطوته وغطرسته.. ثمة ذاكرة مطموسة في ثناياه وأعماقه.. ثمة أشباح ولحى تتكاثر كالفطر وتتصارع وتصرع الجمال والحياة، مجهولون مخيفون يتمسحون بالجدران.. ثمة ظلال تسربلت بالدماء المراقة على الجنبات.. ثمة قنابل تبرق ورصاص يلعلع وسكاكين تتمزق في الظلام.. ثمة كثبان تغطي أجساد القتلى والجرحى.. ثمة نسوة مبقورات.. ثمة أطفال تأكلهم نار ذات لهب، ثمة رجال يسقطون من عناقيد الفتوة والنظارة.. ثمة أنين جارح يتهاوى من أصواتهم.. ثمة عصافير تذبح.. ثمة الكمد والحزن والعويل.. ثمة بكاء مخنوق ينطق من صدور الأمهات الثكلى والآباء الحزانى.. ثمة تاريخ مرير مقذوف في أكفان الذاكرة يمر سريعا لاهثا بين الجموع والصفوف تحمله الملائكة تـُرى على طول الطرقات.. من يأبه؟.. وشوش الشارع الظليل.. ومن يعرف كي لا ينسى؟.. جاء صوت آخر ببحة تقاوم جليد النسيان والتناسي.
أرى ولا أرى
في منعطفات الشارع تتعرف عليهم جميعا.. دزينة أراهيط ستعتلي المسرح كفاعلين أو ككومبارس، كخلاطين أو كمنتفعين أو كآمرين أو مأمورين.. أرى من هنا رحابي و”سنطوحته” البرّاقة.. أرى طيف بوباكير ملفوف ببرنوس لامرئي يمشي.. أرى هناك بوشاشي كهل يقتنص اللحظات الشبابية بصوت ناعم.. أرى أحميدة عياشي بـ”كومبينزون” الأحلام والثورة.. أرى هناك طابو يجترح لنفسه طابوهات وهمية في مسلسل الطابوهات.. أرى بوعقبة يوزع بخفاء كلمات صماء وعمياء.. أرى سفيان جيلالي لا يتعرف على أحد ويجهله البعض.. أرى هناك بومالة يلسع نفسه بفذلكات لغوية تستعصي على الفهم.. أرى هنا بن عطية يعطي ويتعاطى لغة تنضح بضحك أفقي وعمودي وعلى الذقون.. أرى أميرة بورايو تقرأ زبور هذياناتها على حائط منسوخ.. أرى عسول تدور بنحل العسل وتوزعه على مارة ملّوا العسل المر.. أرى من هناك يعاسيب فايسبوكية مهلهلة تعاظم بريقها تبتغي البطولة والثأر وخواتيم المجد: علال، مزغيش، رزاق، حزر الله، حزام… وآخرين.. كثر.. وكثر.. كثر.. أرى آخرين صنعوا في المخابر والدوائر وألقوا على عجل في المعمان.. أرى مرابطين على الثغور يهرولون.. أرى هناك باعة وجوالين ومغنين وأفاقين والحفظة الكهنة المضطربين.. أرى “الشومارا” الملاعين وسكان الملاعب.. أرى مسطولين وسكيرين ومعربدين حواة على خطوط الكف يضربون.. أرى هناك فضلة مناضلين يقتحمون الجمع حاملين ألوية التغير المبهم ويكذبون… هناك الإسلاميون يمرقون كالسهم إلى مشهد مجدِ ولى ويتلذذون.. أرى هنا متربصين ينفذون يطوفون ويصطفون ويترقبون.
لا أرى بوجدرة ولا جاب الله ولا سعدي ولا خليدة.. لا أرى برنار هنري ليفي ولا زيطوط ولا الملتبس سليم صالحي.. لا أرى فرحات مهني ولا المشبوه أمير دي زاد.. لا أرى لطفي نزار ولا البهلوان لطفي دوبل كانون.. لا أرى مقري ولا الزعنوف عبود.. لا أرى فوزي رباعين ولا العانس حنون.. لا أرى بن فليس ولا جماعة الفيس.. لا أرى الأخطبوط بن سديرة ولا صالحي القمينة… لا أرى النار ولا أرى الجحيم.. لا أرى القنابل ولا أرى المسيلة للدموع.. لا أرى سوريا ولا العراق ولا مذابح دارفور.. لا أرى الويل والثبور ولا اليمن السعيد.. لا أرى ليبيا ولا القاتل المأجور.. لا أرى سوى ما أرى حراك كنص خصب طويل، لا فواصل فيه، ولا نقاط، لا أحرف، ولا عليه تشكيل.
شارع مسخر ويسخر ويحاجج ويجود بأحلام مغتبطة مستخفة وساربة تركض بلا هوادة وقد اتسعت كالجنون في سماء الوطن.. “وين راكم رايحين”..(أين أنتم ذاهبون؟).. يسأل شيخ مطمور في زاوية تتمطط بالبؤس والحبور؟.. جلجل بها كأنه يحدس الخوف والمجهول والريبة التي تغلف الحراك بالذهب والأمل الشفاف والأمنيات الفاتنة.. ما يشبه هذه الكلمات البسيطة ينطق بها كل مار وغاد وكل من هو على يقين أن ما سيأتي أشد من الذي مضى.. حدوس تترجمها الغمزات والإشارات البعيدة التي تتخفى تحت القشرة السطحية للحراك وتسكن بسرعة البرق العيون اليقظة في ليل سرمدي ضبابي مكسو بالغشوات، وحينما ستتبدد ستعرف الحشود وهي تتربع على عرش الشوارع كم كان الواقع مثيرا ومؤلما ومكسوا بطبقات من الوهم والزيف والصمت المتواطئ.. كم صغرنا ونحن نكبر في عرين التفاهة والسطحية والابتذال والرداءة والحكم الفاسد.. كم رضينا بهؤلاء الذين راكموا ثرواتهم بنا وحكموا علينا بالعمى والصمم وقالوا لنا هذا هو المصير والمستقبل والوعد والهناء والجنة وحور العين وأنهار العسل والخمر والسكر والحلاوة الشائقة والمتع الحمراء والسلاسب البيضاء.
البحث عن الخيط
الجميع متشابهون في الشارع ولا أحد يشبه أحدا لا في النعوت ولا في الأوصاف ولا في مفردات ما يقولونه أو ينادون به، لا في الملبس ولا في المظهر.. الفرق في من يرتدي بذلة أنيقة ومن يرتدي بذلة رياضية.. فيمن ترتدي حجابا عصريا وفيمن ترتدي فستانا زهريا.. في من تتشح بالبياض وفي من وشاحها الابتسامة.. في من تعتريه الدهشة وهو يرى لأول مرة هذا الخلق الكثيف وغيره متشاغل عن الخلق الكثيف بمن حوله من خلق كثيف.. شعب متموج وعنيد، موثوق غير واثق بأحد، وجد نفسه فجأة منجذبا ومنخطفا إلى الحلقات الرنانة للحراك.. استحلى التظاهر والخروج بعد عشرين عاما من التيه المروع داخل دهاليز الملهاة والتراجيديات المضحكة والمآسي والأفراح المبتورة والاضمحلال، كان جامدا، في حلقه طعم الرصاص.. شعب تفقد الحرية فجأة فوجدها قد ثملت وتخدرت وتخثرت وتعطشت وضاعت في صحراء الزمن والوقت وحتى يستعيد بلاغة سحرها، ها هو يتحرر من المصاعب والمطبات والمكائد والتعازيم السيكولوجية والأيديولوجية والفكرية والعقائدية والسياسية والثقافية والنخبوية الطاغية عليها.. يسكب على هذه اللحظة توابل حارة وعسلية تشير إلى الطريق البعيد والسبيل الجديد، شعب لا تكفيه القرابين التي تساق وتقاد مكبلة بالأغلال والسلاسل إلى غياهب السجون وسواد المصير، وها هو يطوّق الرقاب والعباد والبلاد كل جمعة وهم يعرجون إلى آفاق من اللف والدوران والالتفافات التي لا تنتهي، ويتشتت في كل الاتجاهات عله يتلمس مخارج بارعة تتخطى الفوضى والفراغ وفي يقينه أنه سيدفن ما مضى تحت الشمس ليعاود كتابة تاريخه الآخر دون هذه الوجوه التي محنت حياته وعتمتها.
أعود القهقرى إلى البيت وقد لمّ الشارع بقايا أحلامه الخائفة وقلقه الغضوب.. أصعد سلالم العمارة وفي رأسي يحتشد ما حدث من وقائع كأنها مفاجآت تلسع وتتراءى وتتوارد وتنزلق في قلبي منقوصة المعنى وغارقة في مجاهيل تتأرجح بين مد وجزر، بين يأس يبرع في التغلغل داخل شقوق الروح، ورجاء شغوف يبدّد ضباب طال واستطال.