قدّاس جنائزي لأنسي الحاج
الليلُ شاسعٌ أمامكَ
لتسهر حتى الفجر
وتُسامر في وضح الظَّلام
كائناتٍ برقّة الهواء
ملائكةً وقدّيسين
الظلامُ ساكنٌ من حولكَ
لتُساهر أرواحاً على عتبات فردَوْس
شعراءً خرجوا للحين من مَطْهرهِم
رعاةً لم يضلّوا طريقهُم
أطيافاً تتهادى بأُلفَة
لديكَ متسعٌ من صباحَات
لتنام بهُدُوء
وتنسَى لحظات احتضارٍ
أقضّ جسمكَ النحيلَ
لتكتم صرخاتٍ مزّقَتْ علياءَ رُوحكَ
لتغفو مثل طفلٍ لم يُولد
وتُغمِضُ عينيكَ بابتسامةٍ ناقصَة
لديكَ فائضٌ من نهارات
لتستريح من سَفَرٍ طويل
لتُلقي عن كتفيكَ
أحمالاً تنوءُ بها منذ دهْر
وتطفئ نارَ أرقٍ
كان ظلاًّ لكَ
وتتخلّص من قلقٍ ساوَرَكَ
مذ فتحتَ عيناً على السَّماء
لديكَ المزيد من الأمَاسِي
لتكتُبَ على الهواء
كلماتٍ مضمّخة بعطرٍ أزليّ
قصائدَ لا يقرأها سوى الله
يَدْمَعُ لها أو يَفْرَح
لترسُمَ خواتمَ من ذهَبٍ
لتفتح صفحة المُسْتحيل
وتجْترحَ مُعْجزةً من دمٍ وخمر
أمامكَ الكثيرُ من الفراغ
لتنتظر عودة وجوهٍ غادرتْ
لتكتشف وجهاً آخر لعزْلتكَ
لتقرأ أحلامكَ التي أبْصرْتَها
وتفكُّ أسرار حياةٍ عَبَرَت كالبرق
وتكشفُ كنوز مجهولٍ يُسمَّى الموت
الموتُ الذي نسيَ الموتَ
الموْتُ الذي لم يبقَ هو الموتُ
أمامكَ حفنةٌ من النُّجُوم
لتُقَامِر مثل قدّيسٍ على شفير هاوِيَة
لتُخاطر بأيَّامٍ لا تُعدّ
وَتَفتَح باباً من عَاج
لتَرْمُق الشَّيْطان جَهاراً
منتصراً للملاك الذي كانَهُ
أمامكَ صفحاتٌ بيض
لترمي نرد قَدَرِكَ
لتنثر زهرة الخُسْرَان
وتغسل وجهكَ بماءٍ مقدَّسٍ
وتطأ أرضَ جنّةٍ لم تُبْصرهَا يوماً
لديكَ فائضٌ من الزَّمن
لتفرّ مثل سيّدٍ من الأَسْر
لتهرب من نفسكَ إلى نفسكَ
من ماضٍ إلى أيامٍ ستكونُ
من يقظةٍ إلى يقظةٍ أشدّ ابتهاجاً
من ظلال أرض إلى سماء لا تحصرها ظِلاَلٌ
يمكنُكَ الآن أن تصرُخَ بملْء جَوارحكَ
لنْ ولنْ ولنْ
أن تعاتب الله وتسألَهُ
أن تكسر زجاجَ صمتِهِ
أن تكشف له عن جرحٍ في راحتكَ
أن تنقذه من مقتلةٍ تقرع الأجْراسَ
وتدعُوه إلى الوليمةِ
يُمْكنُكَ أنْ تُسلّم الرَأس المَقْطُوع
على طبقٍ من غَيْمٍ
وتُطْلق زفرَةً من القَلْب
“كم هذا اللَّيْلُ”
كم هذا اللّيل البارقُ
الذي لا سقْفَ لهضابه
المضيء كرُخامة قبْرٍ
العابر أنتَ كالعاصِفة
العابر بصمتٍ كالفضِيحة
كاهن الأضاليل المقدَّسَة
المستبدّ برقّةِ ملاكٍ
الحالم المشعّ كجوْهَرَة
الصارخ في بريَّة
المألوم من شدَّة الدَّهْشة
المنقسم بين أمومةٍ وشهوة
الخارج إلى شمسِ الهاوِية
العائد من هزيمةِ الأَمْس
الآكل خبزَ الجنّة
الشارب خمرَ الجحيم
الأبواب التي فُتِحتْ أمامكَ
لن تغلقها ريحٌ
العتباتُ التي تجتازُها لن يعلُوها عُشْب
الزُّرقة ستَكُون رحبةً أمامَ ناظِرَيكَ
وإلى الوراء لن تلتفت
المملكَة تشرع غمامَها
وقمر القصيدة يتموَّجُ
كلُّ ما أبصرتَه بالسِرّ
تُبصره الآن ملْء عينيكَ الواسعتيْن
تبصر القَدَرَ متفتحاً كوردة
الماوراءَ مفتوحاً مثل كتَاب
الأبدَ شمساً في مرآة
تبصر ملائكةَ الصُّدفة
كأسَ المعجزَة
المسيحَ بوجه أمٍّ
شجرةَ سانت ريتا
هضبةً ترتفع عليها منارَةٌ
طيفاً لكَ هائماً في بستان
“سوف يكُون ما سوف يكون”
ما لم يكُن سوف يكُون أيضاً
الزائر الغريب أنتَ
أغدقتَ على العالم إكسيرَ غيابكَ
لئلا يبقى هو العَالم
والأرضُ التي ضاقت بقلْبكَ
لم تبقَ الأرضَ التي كانت
الماضي الذي أسدلتَ عليه وشاحاً
لم يبقَ هو الماضي
والحاضرُ مشغوفٌ بجروحِ
الأيامِ الآتية
“كما للآخرين سماءٌ وبيتٌ”
ستكون لكَ سماءٌ هناك
سيكون لكَ بيتٌ
ستكون امرأةٌ تفتح نوافذ السماء
امرأةٌ تغلق نوافذ الجحِيم
الأرق سيطير مثل قشَّة
السأم سيضحي بلا لون
أما القصيدة فلن تبرح تطرُق
ولا يُفتَح لها
لم تدرِ القصيدةُ أنكَ أصبحتَها
ذاتَ غلس
أنكَ أمسيتَها في ضوء قمرٍ
أنكَ أشرقتَ على سُفُوحها
وصقلتَ جوهرة ظلامِها
البيت لم يبق بيتاً مذْ غادرتَه
لكنّ طاولتكَ تحفظ ذكرى يديكَ
الأوراقُ طارت عنها
لكنّ القلم لا يزالُ
خاتم الفيروز لا يزالُ
النظّارتان الباردتان
وفنجانُ قهوة المسَاء
كأس أوج السَّهرة
العاشق المغلوب أنتَ
الذي أحبَّ حتى الانكفاء
الذي حتى رحيقِ الشهوة
وأثيرِ الرغبة المستحِيلة
العاشق الذي كتب قصة التَّكوِين
بلا شجرة تفّاح ولا أفْعَى
ومثل حواء حمل في جوفه
خطيئة الصعود إلى الأَعالِي
العاشق الذي خرج من السَّيْف
مجروحاً لا مارداً
تخطيط: فيصل لعيبي
دامعاً ومألوماً
فريسةَ حبٍّ سماويٍّ
يشعّ لوعةً وشبقاً
هل أبصرتَ
سواحل يمحوها غمام
هضاباَ تغرب فوقها شمسٌ من لؤلؤ
كاتدرائياتٍ تحتدم قبابُها في اللازورد؟
هل انفتحتْ أمامكَ أبوابُ اللامرئيّ
لتلمح خلفها جنائن معلّقة
وأشجاراً من ذهب؟
هل شاهدتَ كائناً
يُدعى آدم وحوّاء؟
هل سألتَ دانتي
أن يدلّك إلى فردوسٍ تقطنه داناي؟
هل شربتَ من ماء صخورِ الأزَلْ؟
هل عبرتَ نهراً بلا ضفّتين؟
هل قطفتَ تفّاحةَ ملء الزَّمَن
وعلى وردٍ ونعناع
استلقيتَ بعينين متوقّدتيْن؟
هل تحلم الآن أم بكَ يحلم حلمٌ؟
أيّ كتابٍ تكتب الآن؟
ألم تصبح أنتَ كتاباً
تترامى في ثناياه أيّامٌ عبرت غفلَة؟
العالم كلّه على مقربةٍ من يديكَ
كلّ ما أحببتَ وما لم تُحبّ
كلّ ما كان كلّ ما يكُون
كلّ ما ارتكبتَ من فضائل
من آثامٍ جزيلة البياضِ
من هفواتٍ تامّة الحِكْمَة
الكلّ من حولكَ كما من قَبْل
الوُجُوه والابتسامات
أيقوناتٌ مترنّقةُ النظرات
نشيدُ أناشيد الرَّغبة
توراةُ الشهوةِ
إنجيلُ الحبِّ
الماركيز دوساد قبل أن يقع في حفرة
صرخة أنطونان أرتو في ليْل
نسوة بول غيراغوسيان قربَ السُّور
ليلى في مقتبلِ ربيعِها
أغنيةُ فيروز بذهبها الملمَّع
بئْرُ يوسف الخال
مزامير داود
هاملت المطعونُ بكلماتهِ
بنفسجاتُ جورج شحادة
جنّاز موزار
مملكة الأخوين عاصي ومنصور
مسدّس أندره بروتون
إشراقاتُ رامبو
فراديسُ بودلير
سِفر أيّوب
غانياتُ أبي نواس
خواطرُ باسكال
بيداءُ المتنبي
مصطفى جبران
زرادشت نيتشه
أوفيليا التي أطلقت النَّارَ على نفسها
الزانيةُ التي انقلبتْ قدّيسة
القدّيسة التي تنتظر ليلةَ عِشْق
نقلوكَ إلى جميع اللُّغات
لتقرأكَ امرأةٌ بعينين مخضَّبتيْن
لتأسركَ امرأةٌ بنظرةٍ محتجبة
لتغسلكَ امرأةٌ بنار ثدْيها
لتسمعكَ امرأةٌ في منتهى رغْبتها
في حُقول الصَّمتِ المأهُول
نثروا ياسمين بياضكَ
لتقرأكَ امرأةٌ على ضفَّة
لتخبّئ أنفاسكَ في منديلِها
وتغسلَ وجْهك بالزوفى
وجهكَ يلمع مثل بلَّورَة حظٍّ
ملء مقلتيكَ يلمع زيح الشغف الأزْرَق
كلّما قلتَ كلمةً حَمَلَكَ شعاعٌ
كلّما حدّقتَ طارت يمامةُ
أيها الغريب الأوضَحُ من ابتسامة
الأغمض من شجرةٍ في البرد
العاشق الذي أمسى شعوباً من عشَّاق
الذي تبكيه امرأةٌ بعيدَة
التي بكاؤها كحياته جميلٌ
التي شمسُها تسطع في كآبة رُوح
مَن كان يظنُّ يوماً
أنكَ ستصرخ على سرير احتضاركَ
كما صرختَ مرةً بلهفةٍ مجروحة
“الأوجاع الأوجاع الشخصية
لا أحد يعرف كيف”
الأوجاع التي انتهبتْ بقية جسمكَ
الأوجاع التي جعلتْكَ تركع كأمٍّ
التي أراقتْ خمرة قلبكَ
وأحنتْ رأسكَ بلا رأفَة
الأوجاع التي أشعلتْ نظرتكَ الكسيرة
التي جرحتْ روحكَ بنارهَا
الأوجاع التي كلّلتْ حقويكَ بالشَّوْك
التي خطفتْ ملاكَ نومكَ
وكريشةِ عُصفورٍ رمتكَ
في هواء الرَّمق الأخيرِ
في هواء رمق نظْرتكَ
“مسكينةٌ أيتها الأرض، الوداعُ”
وكما أسلمتَ روحكَ أسلمتَ رُفاتكَ
ومنه “فاحت جنَّةٌ” وانساب “حنانُ جَحيم”
مَن كان يظنُّ
أنكَ في ظَلام النِّهاية
ستكتب بدايةً لا نهاية لهَا
أنّ الضوء سيكتبكَ على لوحِ العَالم
أنّ قلبك المستوحشَ ورُوحك الحمراءَ
سيُصْبحان أبيضَين
أنّ الذهب والوردة سيهبّان في غفوتكَ
أنّ الظِّلال سترتمِي على سريركَ
أنّ الأماكن ستتسع لطيفكَ الذي من ريح؟
مَن كان يظنُّ
أنكَ ستسمع كالنَّائم وترى كالأعْمَى
أنكَ ستنزلُ مع النَّدى وحيداً
ووحيداً ترتفع مع الهَواء
أنكَ ستنتهي حارساً لغابة الصّنوبَر
نسراً فوق قبّتها ومَلاكاً بين أفيائِها
صديق القصعين والوزّال والطيّون
سارق عشبة الخلود
التي ذوت في حُلْم جلجامش؟
مَن كان يظنُّ يوماً
أنكَ ستنتهي مثلما بدأتَ
حلماً في بال قَصيدة؟
أن ترقُد بين الأشْجار
تُطلُّ من أعلى الرَّبوة
على أحراج قيتولي
وإذا ضجرتَ
تعدّ الغُيوم العابرة
تلك التي ناديْتَها “يا غُيوم”
تنَام عندَ شُروق شَمس الأزل
تصحو قبل سدول ليل الخليقة بقليل؟
ماذا تقول أيُّها الرَّجلُ الغامضُ
الرَّجلُ التامّ الوُضوح
أيّها الهاربُ من خوفٍ إلى حريّة
الجالسُ في عتمة رُوحكَ
المستيقظُ في العتمة شديدة النَّقاء
الحاملُ العتمة بين ذراعيكَ؟
هل تصالحتَ الآن مع السَّماء
هل صالحتَ بين سماءٍ وجَحيم؟
الليلُ المنبسطُ أمامكَ
لم يكنْ سوى ليلكَ
البازغِ من أعمق نقطة ضَوْء
في قلبكَ
ليل جَوارحِكَ
ليل ملائِكتكَ
ليل شياطين اللذَّة
المطرودين إلى نَعيمكَ
هل حقاً آن الأوان لتسلّم ورقةً أخيرةً
وتنفض عن ثيابكَ غبار أيامٍ مَشيتَها
لتنتهي في كتابِ المُستحِيل؟
أتذكر كيف صرختَ: أخافُ
في أوْج ربيعٍ قاسٍ؟
كيف خاطبتَ الدَّم المُرتفع مثل حائط؟
كيف واجهتَ عدوى لعنَة الشُّعراء
شاهراً القصيدة الملعُونة
النازلة لحينها من سماء الجَحِيم؟
المتلبّد أنتَ كخمرةٍ عتيقة
المشرق في أوْجِ الاحتدام
المعتم كالسرِّ
الأعنف من طعنَة
الأرقّ من صفحة دُخَان
الأعذب من جلد فتاة
الأشفّ من جَناحِ فراشة
كان للجميع وقتٌ فصبرُوا
لكنّ زيارتكَ كانت عاجِلة
وسَفَركَ الطويل لم يدعْ لكَ
وقتاً لتصبر
لتنتظر رُجُوع يمامةٍ بغصن زَيْتون
لتبصر العالم يطفو على ماءٍ وضوْء
وأمام بوّابة الموتِ
كنتَ أوّل الواصلينَ
دخلتَ وعلى رأسكَ إكليلٌ
والعالمُ من ورائكَ
العالمُ من ورائكَ
يحترق في “شمسِ العَوْدة”.