قصص من غرناطة
درس البستان
أمسكت يداه بكرة من عدم مشيرًا إلى خصيتي أبي العوف ومؤكدًا فحولته.
قلت له بهدوء:
- القضية ليست بحجم الخصيتين.
وأكملت:
• أرني حجم دماغه.
دُهش، ولم يفطن للفكرة، فغيّرت الموضوع ونوّهت بطيب العنب مع الجبن، لأننا كنا في الخريف ومجتمعين في بستان الوالد الكائن في ركن حجري، نسبة للعصر، من وادي يبرود.
أبو العوف لا يقطع صلاة ويلقي التحية على كل من يلقاه وكل امرأة لديه مشروع عاهرة وهو لا يتوانى عن الكذب في التجارة لأنها شطارة، لكنه، للصدق، دائم الاستغفار. لذا، ولأن المرء ما هو سوى جملة ما يرتئيه، قتل أم العوف، أم أولاده، في وسط السوق قبل صلاة الظهر بقليل. دلق عليها قدرًا من البنزين فحاولت الفرار مولولة لكنه أدركها ورماها أرضًا وأشعل ولاّعته. انشغل المتواجدون بمساعدته على إطفاء ملابسه التي هبّت فيها النيران لالتصاقه بها لحظة إلقائه بها أرضًا. وبينما كانوا يرأفون به مكبّرين لله تعالى ومتعوّذين بالشيطان الرجيم تفحّمت هي بهدوء.
قلت للذي أشار إلى فحولة أبي العوف:
• أمثاله من عوامل هزيمتنا الدائمة.
• ماذا تعني؟
سأل مترقّبًا، فأجبت:
• أعطيتك المكيال.. فاشتغل.
ثم عنيت بجمال السماء في ليلة الخريف تلك، ولاحظت أنها كانت أقلّ جمالاً من المعتاد.
غرناطة 28/1/ 2003
تساؤل
ما كانا يسمعان سوى وقع أقدامهما المتسارع على الأرض الصخرية ولهاثهما المتواتر وهما ينحدران في “زقاق الصخر”. كانا يهبطان الزقاق على جانبي الأخدود الذي حُفر لسيلان المياه، ويتفاديان بخطوهما العصبي النتوءات والحفر التي لم تمحها بعد أقدام البشر.
الحذر من الوعث لم يمنع الأب من الالتفات نحو ابنه وهما يسرعان نزولاً في الزقاق. كان توتّر الابن باديًا في مجمل كيانه، وقد انبرى كالحًا في المحيا.
• تأكّدت؟
سأل الأب.
• من الوريد للوريد.
أجاب الابن دون أن يلتفت.
وتابعا الانحدار بما يشبه الهرولة.
بدأ لهاث الأب بالتصاعد عندما سأل مرة أخرى:
• والسكين؟
التفت الوجه الكالح نحو أبيه ورافق جوابه بعينين جافتين كأنهما سُمّرتا في محجريهما:
• في جيبي. لا تخف.
لم بصادفا أحدًا في تلك الساعة من العصر.
عندما وصلا إلى التقاطع التالي قال الأب:
• نفترق.
وعرج يسارًا تاركًا لابنه الاختيار بين الاستمرار في الانحدار أو التحوّل يمينًا.
توقّف الأب عن الهرولة بعد برهة. مسح بيده العرق المتفصّد على جانبي منخريه ثم مرّرها على جبينه ليعاود المسير متظاهرًا بالهدوء.
إلاّ أن تساؤلاً ملحاحًا كان يقرع صدغيه: هل يقول لابنه أنه لا يصدّق تمامًا ما ادّعاه جارهم ابن البنّا من أن التيناوي اختلى بابنته فاطمة في غيطان النبع؟
كيف يقول له ذلك الآن؟ بعد أن أغرق أخته في حوض المزرعة وانتهى للتو من ذبح التيناوي؟
6/10/2002
الحجم والسعة
بدأت خالتي العزباء بالاضمحلال بعد السبعين من عمرها. كانت تضمر سنة بعد أخرى، وتفطن أمي إلى ذلك في يوم ما من كل سنة فتقول “صارت ملابسها كبيرة”.
من ناحية أخرى: أحببت رجاء يوم التقينا في سنتنا الدراسية الأخيرة، لكن الأهل زوّجوني من ابنة عمّي غيداء في السنة ذاتها التي بدأت فيها خالتي بالضمور.
أصبحت خالتي الآن في الثانية والتسعين، وقالت لي زوجتي اليوم عائدة من المطبخ “أمك تقول لك أنقل خالتك إلى سريرها”.
أتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم كلما سمعت زوجتي، ثم أتحامق وأتحامل. اعتدت هذا وصار كآلية التنفس. توجّهت إذن نحو خالتي وهمست في أذنها وأنا أحمل كيلوغراماتها الثلاثين من كرسيها المواجه للتلفزيون: “تعالي يا خالتي”. فتحت عينيها في الممرّ المؤدي إلى غرفة نومها وهمست: “رجاء كانت أحسن”.
فأدركت معنى السعة.
غرناطة، 3/1/2003
نَطَقَ الوالدُ
• حيثما التفتّ تلقى ما ينغّص عليك يومك.
قال لي والدي في يوم بعيد، قبل أن يصمت، بعد ضيق ألمّ بي فحاول التخفيف عنّي بتلك الكلمات.
شجيرة الرمّان التي في وسط أرض الدار كانت مزهرة عندما أطلقتني أمي بعد سلسلة من المسبّات القشتالية لتستهلّ بحلو الكلام ميلادي. إنها صامدة هناك منذ أكثر من نصف قرن (الشجرة، أمي ماتت)، وشهدت صروف أحوالنا. لكنها، في يوم ليلة القدر تلك، عصرًا، ما كانت تدري أن والدي كان يتخذ في فيئها قراره الأخير: سيطوي الصمت لسانه وكأن الأرض خلت من أهلها، فما من داع للكلام في عالم بات اللغو والخيانة وانعدام الشرف فيه سمة وقلة الحياء نبراسًا.
وبدأت المحنة.
ربما كان من النافل سرد الدواعي التي جعلته يتخذ قراره ذلك، وذكر تفاصيل معاناتنا، وكيف غيّب صمته البسمات من البيت. ما أكثر ما جرّبنا، حتى أننا حاولنا إيلامه وتحريضه بألف بابِ وقولٍ، عسانا نستدرج منه ردّ فعل، ولو جاء صامتًا، مجرّد إشارة إلى تجاوبه مع أهل البيت. إلاّ أن نظرته البلّورية ما أومأت بشيء ولا ارتسمت فيها ظلال تدلّ على أثر لقولنا وصراخنا.
توافد الأطباء إلى البيت. أحدهم أفتى بحالة من الشيزوفرينيا العميقة وأن لا مردّ لها. وأبدى آخران استعصاء الأمر عليهما. أولهما وضع شفته السفلى على العليا ورفع بصره محملقًا في السقف حتى غلب البياض على عينيه، ومكث صامتًا برهة طويلة ورهيبة حتى حسبنا أنه أصيب بالعدوى. ثم ارتأى أن نتركه وشأنه ورفض تقاضي أجر المعاينة مكتفيًا بتكاليف انتقاله. أمّا الثاني فاكتفى بترداد عبارة “والله عجيب!”، كرّرها وهو يعبر باب البيت خارجًا دون أن ينسى قبل ذلك، وعلى الرغم من شدّة اندهاشه، تقاضي الأجر وهو يبلّغنا تصوّره للحالة “والله عجيب!” وبالتالي وصفته “والله عجيب!”. وافقه أخي الأصغر.
• أمر الله. كان يكرّر بدوره.
إلاّ أنني كنت واثقًا من أن أبي أكثرنا التصاقًا بالواقع وأعمقنا فطنة ووعيًا، فالأيام وظروف بلد بات التنفّس فيه مراقبًا علّمنا التحليق على ارتفاع ما من الأرض خشية أن تحترق بواطن أقدامنا، أما هو فقد التصق بها واستغرق في ضجيج الحال إلى درجة أبكمته.
وكانت أمي، كالعادة، الضحية الفعلية في البيت. سرعان ما تعلّمت محادثته بصمت، ترقبه وتحسّ ما يحتاجه، وتبكي في عزلتها ثم تستغفر الله بلكنة الأجنبية التي تعلّمت اللغة على كبر. تمدّ سجادة الصلاة وتمكث راكعة عليها طويلاً. السجادة التي اشترى أبي زوجًا منها في سوق الحميدية في رحلة له إلى العاصمة قديمة. علّمها الصلاة وأصول الدين، وكان يؤمّ بها الفروض الخمسة اليومية.
إنها تتقصّد استعمال سجادته، لأنه كفّ عن الصلاة منذ صمت.
وكان يحدث أن تشغلها أمور البيت عن متابعته، كذلك اليوم الذي رطّب فيه يديه وخرج إلى الحديقة ومرّغهما بالتراب وفركهما ثم عاد إلى الصنبور ليكمل اغتساله فأدركت أن الصابون قد نفد فهرعت لتضع قطعة جديدة، أو عندما لاحظت تورّم خدّه نتيجة التهاب ضرس ما، فصارت تضع المضادات الحيوية مذابة في كأس مائه.
كان الالتهاب اللعين يعاوده مرارًا، وعبثًا حاولنا نقله إلى طبيب الأسنان، فبات الورم مزمنًا وبه مات.
استمرّ صمته سبعة عشر عامًا. اضطررت إلى الهجرة بعد اعتكافه الصمت بسنتين، ثم انتقل أخوتي للعمل في بلدان الخليج.. لكنهم كانوا يتردّدون على البيت مرتين في السنة، وبما أنني أحببت دومًا التنفّس بحرية لم تُكتب لي عودة إلى الأهل. كانوا يعلمونني هاتفيًا “ما زال على حاله”.
كانت أمي بجواره عندما لفظ أنفاسه الأخيرة. وحدهما في دار يحيط بها برد شتاء قارس آخر.
اتصلت بها ما إن وصلني الخبر. كنت أحسبها ستبكي، لكنها كانت تتحدّث بروية وصفاء بالغين وأعلمتني بشيء من الغبطة أنه نطق كلمتين قبل أن يموت:
• Se terminó.
الظرف لم يمنع ذهني من ترجمة الكلمتين “انتهى”. ثم أضافت:
• قالها بالإسبانيولي.. الله يرخمو.
غرناطة 4/2/2002
عويل
عندما وقع أبي عن ظهر الحمار تناهى إلى أمي أن رقبته دُقّت فأطلّت من نافذة الطابق العلوي المشرفة على بيت جدي تحديدًا وراحت تولول بقوة جعلت زجاج النوافذ ترتجّ في إطاراتها، فخرج سكان الحارة الأحياء جميعًا لاستقصاء دواعي العويل المبالغ به.
كنت مع والدي عندما وقع عن ظهر الحمار، فهرعت إلى البيت لأخبر أمّي، لكن ابن عمّي سبقني لأنه كان في التاسعة وأنا في الخامسة. لذا كانت قد شرعت بإطلاق عويلها عندما وصلت أسفل النافذة وحاولت مناداتها:
• يامّي.. يامّي..
لكنها ما كانت لتسمع، وقد ارتعدت فرائصي لشدة صراخها فصرت أبكي والتجأت إلى ساقي جدّي عندما لمحته يخرج من باب الدار الكبيرة ليصرخ من أعماق عظامه القديمة كلمتين:
- أخرسي أولي!
فحلّ صمت عميق وثقيل على امتداد زقاق الحارة وفي أعاليها وصولاً إلى الوادي وشارع السوق. لم تكن تسمع سوى شهقاتي المتقطّعة وأنا أشرق مخاط البكاء.
التفت جدّي نحوي وسألني ما الأمر. حاولت الإجابة بين الشهقات عندما لمحت والدي قادمًا وهو يعرج ويجرّ الحمار وراءه فأشرت نحوه.
ما إن رأته أمي حتى تراجعت عن النافذة مختفية وأوصدتها ثم أرخت الستائر.
لم تخرج لاستقبال والدي الذي ضحك كثيرًا وهو يروي كيف رماه الحمار.
28/9/2002
عَوْدٌ إلى المَآل
إلى أبي
امتقع قليلاً عندما قيل له لا، وتريث برهة قبل أن يأتي بحركة، وكانت الحركة أن استدار ومضى.
لم ينبس، تريث لحظة ثم مضى. أما ما اعتراه فيما بعد فليس بذي شأن، مجرّد إشارة إلى أنه ما زال على عهده، وهذا ما باح به لضابط التحقيق.
• أعلى هامان يا فرعون؟
انبرى هذا ما إن انتهى أحمد الوليّ من سرد الحادثة، ثم أضاف:
• لفّها يا شيخ.. هكذا؟ تذبح إنسان حتى تقنع الناس بأنك موجود؟ احكِ! يالله وإلاّ أعمل من عظامك مكاحل!
مكث ساكنًا، واثقًا أنه ما من جدوى، إنهم لا يفقهون. وانتابته رعدة خوف من التعذيب الموعود، خاطفة، لكنها كانت رعدة خوف، فهو موقن من أن أولاء، الجهلة السفلة، لا يجيدون من أساليب الحوار سواه. لبث بلا حراك، جسده استمرار لجماد الكرسيّ.
وكان أن شعر المحقّق بغتة بالجوع، شيء من الامتعاض وبطن خاو سبّبا قرصة في معدته. التفت نحو الحارس، كان هذا واقفًا عند الباب الموصد كباب ثان، ثم إلى أحمد الوليّ القابع على كرسيه، وبصق:
• أنا راجع. فكّر بالموضوع.
“آه يا كامل عطية المسنون، يا أيها المحقّق، العلّة ليست في أن تسنح لي الوقت للتفكير.. العلّة.. فيما أستهلكه! بما أفكر! هل أعاود التساؤل عمّا إذا كان والدي أصل الخطأ؟ علة العلل؟ لأنه أرشدنا نحو صراط لا يحيد لا مكان فيه سوى للحق، للصدق، للكرامة.. وأنه عجن في مداركنا حلمًا عن استقامة لم يتأت لنا منها سوى قهر وحيف بسعة الكون ومدى الزمن، ولأنه، كلما أمعن به البؤس، كان يزداد حلمًا بالعدل، بالأمانة، بالوطن! أتتصوّر؟! بالوطن!
بعد مماته أيقنت أن الكرامة موطني وهي مداسة في هذي البقاع.. كان في الخامسة والأربعين من عمره يا كامل عطية المسنون! يا أيها المحقّق، وأنت لا تدري ظروف موته، لا تهمّك تلك التفاصيل لأنها خارج موضوع التحقيق.. أتفهم الآن لماذا لا تفقهون؟
أنتم محدودو الفطنة ضيقو الأفق.. كل مبتغاكم هو دافع تسجلونه في التقرير – وكأنكم لا تجيدون التلفيق! – تبرّرون به امتيازاتكم في مجتمع منتن، ليس المرتّب الحقير، بل الصفاقة في اقتراف جملة الجرائم التي حذّرنا منها والدي.. والقضاء، بالطبع، على أمثالي.. لأنني أذكّر البائسين من أن هناك حقًّا آخر وعدالة أسمى. ستقول لي، على الأغلب وبابتسامة السخرية المتحجرة على محياك، بأن أصابع يديّ ما مثل بعضها وأن بعض الناس يهددون الأمن.. وفّر على نفسك سرد مبادئك العفنة وأجبني على سؤال واحد فحسب، فعلاً، كيف تحتملون رائحة القذارة التي تفوح مع زفيركم؟
هنا، سيشتدّ التعذيب دون ريب.. فصبرًا يا أحمد الوليّ. لو لم تودي تلك التفاهة بحياة الوالد لأشار عليّ بصفاء عينيه الدامعتين طيبًا: صبرًا يا بنيّ صبرًا، إنما هو أمر مكتوب.
هذا هو الفارق بيننا، أنا وأبي، يا كامل عطية المسنون.. أن إيمانه الهادئ أملى عليه مواجهة الدناءة التي رعيتموها بالهدوء ذاته.. كان يجد في آخرته مآلاً طيبًا فيلجأ إلى الحلم.. لذا سكت، تحمّل دون نأمة إلى أن اغتاله أمثالك في ظروف لا تعنيك لأنها لا تفيد مجرى التحقيق.. العمى يعميكم! أما ترون أن تراكم الدوافع ذاتها هي التي جعلتني أكفّ عن الاحتمال؟
بات الفساد دينًا، وكم هي قاصرة لفظة الفساد للتعبير عمّا تقترفونه. ما إن تعود سأقول لك كل هذا وسأبيّن لك لماذا هو مريح للنفس، صدقًا، القضاء على حشرة لا تختلف عنك سوى بالاسم ورقم الهوية..
هنا، يا أبتي، قد ألحق بك من شدة الضرب.. لكنها خريانة خريا.. ها! أسمع خطواتهم.. سيقول لي ما إن يفتح الباب:
• شو! فكّرت؟!
وسأجيبه:
• أجل. والدي كان محقًا”.
غرناطة 25/6/1993