قصيدة النثر بوصفها تجربة شخصية
تعد تجربة الشاعر أنسي الحاج في كتابة قصيدة النثر واحدة من أكثر التجارب العربية الحداثية فرادة وخصوصية. فهو منذ بداياته الأولى، ومثلما عبر عن ذلك في مقدمته لديوانه الأول “لن” والمؤرخة في خريف 1960، وكذلك في الاعترافات “المتأخرة” التي تفضلت مجلة “الجديد” بإماطة اللثام عنها، والتي سبق وأن كتبها عام 1988، يؤكد أن وصوله إلى تخوم تجربة قصيدة النثر، جاء عفوياً، ودونما قصدية، بل ودون أن يدرك أنه كان يجوس داخل حقل ألغام خطير وأنه لم يكن يعرف أن ما يكتبه هو قصيدة نثر أصلاً. إن تجربة قصيدة النثر، بالنسبة إلى الشاعر أنسي الحاج، كانت قضية شخصية تتعلق بنضج شاعرية داخلية وجدت ضالتها عفواً في فضاء قصيدة النثر دون أن يلمّ من بعيد أو قريب بالكثير من المقاربات النقدية والنظرية التي بدأت تشيع في النقد الفرنسي، ومنها مساهمة الناقدة الفرنسية سوزان برنار في كتابها “قصيدة النثر منذ بودلير إلى أيامنا” الذي لم يكن قد صدر بعد في طبعته الفرنسية.
لقد اعترف أنسي الحاج في شهادته هذه أنه بدأ بكتابة هذا الشكل الشعري قبل أن يطلق عليه تسمية “قصيدة النثر” وقبل أن تصدر مجلة “شعر” بسنتين أو ثلاث، لكنه أكد من جانب آخر على حبه للإيقاع وأنه لم يكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع، بل واعترف أيضا بأن بعض قصائده كان يتوافر على الوزن من خلال البحث عن أوزان غير تقليدية، وهو يقر بأن قصائده تنطوي على أوزان وليس على إيقاعات فحسب. وبذا يمكن القول إن قصيدة النثر عند أنسي الحاج هي تجربة شخصية وخاصة جداً، ولذا ليس من المجدي أو المنصف أن يعوّل الناقد عند دراسته لتجربة أنسي الحاج على مقارنات، نظرية أو تطبيقية، مع نصوص شعرية أو نظرية سابقة عن قصيدة النثر في الغرب، وخاصة في الشعر الفرنسي. وهذا الأمر يمثل امتيازاً مهمّا يتمثل في قدرة الشعر العربي على أن يخط لنفسه، وربما للآخرين أيضاً، خط سير جديد تماماً يترك فيه وشمه وطابعه وخصوصيته، وهذا هو ما أشار إليه أنسي الحاج عندما أكد أن جذوره الشعرية والأدبية هي جذور عربية ليست لها علاقة إطلاقا بالقصيدة الأجنبية.
وعندما يشير الشاعر إلى تأثره بأندريه بروتون يكاد ينفي ذلك إذ قال إن تأثره محدود، و”ليس إلى درجة التمثل والطغيان” ويخيّل إليّ أن ارتباط أنسي الحاج بتجربة أندريه بروتون، وغيره من السورياليين، كانت أقوى مما حدده، ذلك أن تجربة أنسي الحاج هي بالأساس تدور في إطار الرؤيا السوريالية بكل ما فيها من جموح واحتدام وتعتيم وفوضوية. ولذا فلا يمكن فهم تجربة أنسي الحاج وتقييمها خارج إطار هذا الفضاء الإبداعي والتخييلي الذي خلقته القصيدة السوريالية. بل يمكن الذهاب إلى وجود “زواج” كاثوليكي بين قصيدة النثر والسوريالية في تجربة أنسي الحاج، وفي الكثير من التجارب الشعرية العربية الحداثية. وربما هذا هو ما سبب أرقاً وصداعا لناقد مجتهد هو د. عبدالكريم حسن وهو يحاول بعناء ومكابدة فك الشفرات السرية التأويلية التي خبأها أنسي الحاج في قصائده بحثاً عن استنطاق الدلالة وإنتاجها في كتابه “قصيدة النثر وإنتاج الدلالة: أنسي الحاج أنموذجا” الصادر عن دار الساقي ببيروت عام 2008. ولتوصيف البنية الإيقاعية والموسيقية في شعر أنسي الحاج يجترح الناقد د. عبدالكريم حسن مصطلح “الإيقاع الخفي” بديلاً عن “الإيقاع الداخلي”، وهو يشير بشكل خفي إلى مقولة أنسي الحاج في مقدمته لديوانه الأول “لن”، ففيها برنامج رؤيوي متكامل وتصلح أن تكون “مانيفستو” من طرف واحد.
أنسي الحاج يؤكد على أن قصيدة النثر جنس أو نوع أدبي مستقل، شأنه شأن الأجناس الأدبية الأخرى “كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق من صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وقصيدة وزن تقليدي وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر” (ص 22- مقدمة لن).
تجربة أنسي الحاج قد اتسعت وتعمّقت في تجاربه اللاحقة، ولم تعد أسيرة المنظور السوريالي والتعتيم الدلالي من خلال إدراك أهمية دور الشاعر بوصفه إنسانا وفاعلاً اجتماعياً
وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي وشيوعه بين عدد من النقاد والشعراء، لكني شخصياً أرى أن قصيدة النثر ليست جنساً مستقلاً، بل هي جنس فرعي (sub division)، لأنها لم تقطع حبلها السري بالشعر جنساً أدبيا رئيساً. لقد تساءل أنسي الحاج في “مقدمته” أكثر من مرة عن إمكانية أن “تخرج من النثر قصيدة” (ص 17) وقد أجاب الشاعر بالإيجاب عن هذا السؤال بالقول “طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أو برهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضدّ. القصيدة عالم مغلق مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة. النثر سرد والشعر توتر” (ص 11).
ويرى أنسي الحاج أن قصيدة النثر قد تلجا إلى أدوات النثر من سرد واستطراد ووصف لكن كما تقول سوزان برنار “شرط أن ترفع منها، وتجعلها تعمل في مجموع ولغايات شعرية، ليس إلا” (ص 19)، وهو يرى أن العناصر النثرية مثل السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتهما الزمنية، ويدخلان في كتلة لازمنية هي قصيدة النثر. (ص 19) ولا يخفي أنسي الحاج اتفاقه مع سوزان برنار في شروطها الثلاثة المعروفة التي وضعتها لقصيدة النثر وهي الإيجاز والتوهج والمجانية (ص 20). لكن أنسي الحاج، من جهة أخرى، يركز على عناصر معينة، وكأنه يتحدّث عن تجربته الشخصية بالذات، إذ يذهب إلى أن قصيدة النثر عمل شاعر ملعون “يجب أن أقول أيضاً إن قصيدة النثر -وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطياً- عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه. الملعون يضيق بعالم نقي، إنه لا يضطجع على إرث الماضي إنه غازٍ، وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أيّ كان إلى الحرية ” (ص 25) ومن الواضح أن هذا الرأي لا يخلو من أصداء البيانات السوريالية والدادائية والمستقبلية، كما أنه يؤكد في موضع آخر، على الصفة الفوضوية الهدامة لقصيدة النثر “وفي كل قصيدة نثر تلتقي معاً دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضاً على الصرامة والقيد.. إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع والغل، انتفاضة فنية ووجدانية معاً، أو، إذا صح فيزيكية وميتافيزيكية معاً.. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تتفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة” ( ص 21).
وعلى الرّغم من محاولة أنسي الحاج التخفيف من حدة الفوضى من خلال موازنتها بخاصية التنظيم وما أسماه في موقع آخر بالهيكل الذي يذكّرنا بمصطلح مماثل للشاعرة نازك الملائكة، إلا أن التأكيد على الصفة الفوضوية لقصيدة النثر وطبيعتها الهدامة هي الجوهر الحقيقي لكل دعوات التمرد التي أشاعتها الحركات الطليعية والبيانات السوريالية والمستقبلية والدادائية، والتي كرستها لاحقاً عدد من البيانات الشعرية العربية ومنها البيان الشعري الستيني الذي كتبه فاضل العزاوي ووقعه معه شعراء الستينات الستينيين وهم فوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى. (مجلة “الشعر69″، العدد الأول، مارس 1969-بغداد، ( ص 3- 16).
إن كل هذه الإشارات، تضيء إلى حدّ كبير الطبيعة المعقدة والملغومة والمغلقة حد التعتيم للكثير من قصائد أنسي الحاج، وبشكل خاص في مرحلته المبكرة، ومنها ديوانه الأول ” لن” (الأعمال الشعرية الكاملة لأنسي الحاج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الجزء الأول، 2007)
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من النقاد ومنهم سوزان برنار في كتابها ” قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا” وميشيل ساندرا في “قراءة في قصيدة النثر “ترجمة د. زهير مغامس، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء 2004، قد أكدوا على ثنائية التناقضات في قصيدة النثر، وهو ما أشارت إليه سوزان برنار بوضوح، وهو ما يدل على تأثر أنسي الحاج برأي هذه الناقدة عند صياغة منظوره الخاص. إذ تقول سوزان برنار “ترتكز قصيدة النثر في شكلها، وفي مضمونها على اتحاد المتناقضات، نثر وشعر، حرية وصرامة، فوضى مدمرة، وفن منظم… ومن هنا منبع تناقضها الداخلي، ومن هنا تتأتّى تناقضاتها العميقة والخطيرة والمثمرة، ومن هنا يبرز توترها الدائم وديناميكيتها” (ميشيل ساندرا، قراءة في قصيدة النثر، ص 17، والإحالة إلى كتاب سوزان برنار في طبعة 1959 الفرنسية)، لكننا يجب أن نعترف أيضاً بالطبعة الشخصية التي منحها أنسي الحاج لقصيدة النثر العربية والتي دفعت شاعراً كبيراً مثل أدونيس، أكثر من مرة، إلى القول إن أنسي الحاج كان أول شاعر عربي كتب قصيدة النثر، وأنه “الأنقى” بين شعراء مجلة “شعر” التي تبنت،عربياً، قصيدة النثر منذ البداية.
ويخيل إليّ أن تجربة أنسي الحاج قد اتسعت وتعمّقت في تجاربه اللاحقة، ولم تعد أسيرة المنظور السوريالي والتعتيم الدلالي من خلال إدراك أهمية دور الشاعر بوصفه إنسانا وفاعلاً اجتماعياً، وهو أيضا ما سبق له وأن أشّره في مقدمة ديوان لن بالقول “ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر. فعناصر الإيجار والتوهج والمجانية ليست قوانين سلبية، بمعنى أنها ليست للإعجاز ولا قوالب جاهزة تفرغ فيها أيّ تفاهة فتعطي قصيدة نثر، لا إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية، وموقفه من العالم والإنسان” (ص23 مقدمة ديوان ” لن”).
يبدو لي أن هذه الثنائيات أو التضادات في سلوكه وقصائده إنما هي امتداد لرؤيته السوريالية الشاملة للأشياء، والتي هيمنت على الكثير من شعراء القصيدة النثر من الشعراء العرب
لقد كان أنسي الحاج صريحاً وجريئاً في كشفه لأسرار تجربته الشعرية، ووصوله التدريجي إلى فضاء قصيدة النثر، وميّز بشكل قاطع بين تجربته المبكرة في “لن” وتجاربه اللاحقة: فهو يعترف بأن قصائده في”لن” كانت تنطوي على “وحشية وشراسة وضرب في المقدسات” وإنه كتب تلك القصائد تحت ضغوط نفسية خاصة، ولذا كانت اللغة “مشحونة بالضغط”، فوجد له هذا الضغط متنفساً. ويواصل أنسي الحاج تقديم تحليل سيكولوجي لتجربته تلك بالقول “إنها كوابيس الطفولة والمراهقة”، لكنه يستدرك بالقول “إنه شفي من ذلك الضغط النفسي وإن لغته قد شفت وتصفت”، وأن موقفه الأخير كان يتمحور حول رؤيا كونية جديدة تتمثل بالبحث عن الخلاص الوجدوي والميتافيزيقي، حيث كانت الإيروتيكية والصوفية تجربة واحدة متداخلة ومتلازمة. واعترف بأنه يؤمن بالتوازن بين الخير والشر، فهو يجمع المتناقضات في ذاته، فهو شرير وخيّر، ومؤمن وملحد، وعاقل وأزعر، في آن واحد. وأشار إلى أنه يصف نفسه بأنه “شخص متغير على طريق الحرية، فهي الأجمل، بل إنها أجمل من الحب”.
ويبدو لي أن هذه الثنائيات أو التضادات في سلوكه وقصائده إنما هي امتداد لرؤيته السوريالية الشاملة للأشياء، والتي هيمنت على الكثير من شعراء القصيدة النثر من الشعراء العرب. وقد كان الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي جريئاً في تحديد علاقته بالسوريالية عندما ميز بوضوح بين ما أسماه بالسوريالية التاريخية التي انتهى زمنها، كما يقول، والسوريالية الأبدية، مستشهداً برأي جان شوستر، حيث يرى أن السوريالية الإبداعية تساعد الشاعر على معرفة الخصائص الحلمية كلها، بكل ما فيها من رؤى ومواقف وقيم “أنا لم أنتمِ أبدا إلى السوريالية بالمعنى الأيديولوجي، وإنما كان انتمائي لطاقتها الشعرية بكل ما تمتلكه من حرية ومسؤولية أخلاقية” (ص 325 من “هذه ثقافتي: أنطولوجيا مصغرة” دار مخطوطات، ودار المعقدين، 2018).
تحدث أنسي الحاج مرة عن تجربة آرتو الشعرية، التي اتهم بالتأثر بها، فأشار إلى أن “تجربة آرتو محض شخصية ولا يستطيع أحد أن يدخل في تجربة آرتو، إلا آرتو”.
ويمكن لنا، قياسا على ذلك أن نقول إن تجربة أنسي الحاج في قصيدة النثر محض شخصيته ولا يستطيع أحد أن يدخل في تجربته إلا أنسي الحاج نفسه.
وربما هذا يفسر إلى حد كبير عدم ظهور تيار أو مدرسة شعرية لبنانية أو عربية تستلهم تجربة أنسي الحاج، بينما وجدنا أن التجارب العربية الأخرى في قصيدة النثر، وبشكل خاص تجربة الشاعر محمد الماغوط التي وجدت لها الكثير من المريدين، وربما أن تجربته الخاصة مثل تجارب أخرى في قصيدة النثر منها تجارب جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق الصائغ ويوسف الخال لم تجد لها مريدين ومقلدين لخصوصيتها.
يخيل إليّ أن نشر “اعترافات” أو “شهادة” أنسي الحاج قد أتاحت الفرصة لفتح ملف قصيدة النثر مجددا، وبشكل خاص فيما يتعلق بضبط هذا المصطلح النقدي منهجياً وتاريخياً، وعلاقته العضوية بمصطلح قصيدة الشعر الحر في الثقافيين الفرنسية والإنكليزية وتجلياتها الملموسة في الثقافة العربية.
ومن المعروف أن حركة الحداثة الشعرية العربية في مطلع الخمسينات على أيدي المثلث العراقي: السياب، نازك، البياتي قد آثرت توظيف مصطلح “الشعر الحر” ترجمة لاسم هذا المصطلح في اللغة الانكليزية “Free Verse” وفي الفرنسية “Verse Libre”، دون إدراك لحدود المصطلح الأجنبي ذاته، والذي يمثل ثورة عروضية وأسلوبية ورؤيوية في الشعر الأوروبي، وفي الجانب العروضي منه بشكل خاص، وهو ما يهمنا الآن.
كان أنسي الحاج صريحاً وجريئاً في كشفه لأسرار تجربته الشعرية، ووصوله التدريجي إلى فضاء قصيدة النثر، وميّز بشكل قاطع بين تجربته المبكرة في “لن” وتجاربه اللاحقة:
كان هدف الشاعر آنذاك التحرر من قيود الوزن السكندري الصارم في الفرنسية ووزن (الأيامبي) في الإنكليزية، والذي كان يلزم الشاعر بالتقيّد بنظام محدد، للوزن والتقفية والبيت أو السطر الشعري. ونجح الشاعر الغربي في أن يكتب شعراً متحرراً من حدّي الوزن والقافية، وإن ظل متقيداً بنظام البيت أو السطر الشعري، ومنه الابتداء بحرف كبير في بداية كل سطر أو بيت، وهو شرط غير وارد في الشعر العربي بكل ألوانه، وقد أطلق على هذا اللون الجديد مصطلح “الشعر الحر”. لكن حركة الحداثة الشعرية العربية عندما تلقفت هذا المصطلح في مطلع الخمسينات لم تتخل عن حدي الوزن والقافية كلياً . فبدلا من سيمترية وانتظام أبيات القصيدة العمودية وتفعيلاتها في الشطرين، مال الشعراء العرب إلى اعتماد التفعيلة بطريقة حرة غير مقيدة بعدد محدد للتفعيلات، وجازفوا أحيانا بالمزج بين البحور الشعرية. ومن جهة أخرى فإن شعر الحداثة العربي لم يُسقط كليا نظام التقفية، وكان يجري اللجوء إليه، في تنوع وتغيير، وخاصة في بدايات حركة الشعر الحر في العربية . لكن القصيدة العربية، في مقابل ذلك، انتقلت من نظام البيت الشعري بشطريه إلى نظام السطر الواحد ذي التفعيلات المختلفة.
ومن هنا نجد أن مصطلح “الشعر الحر” الذي أطلقته الحداثة الشعرية العربية في الخمسينات لم يكن يتفق ومواصفات هذا الشعر في الآداب الغربية، لكن مصطلح (الشعر الحر) شاع وقُبل على الرغم من اعتراضات عدد من النقاد والباحثين الذين دعوا إلى تصويب المصطلح أو إعادة تقويم التجربة بصورة كاملة. وسوف أرجئ حاليا مؤقتا وجهة نظري فيما إذا كان يتعين على النقد العربي إعادة تصويب المصطلح أو الإبقاء عليه بوصفه خطأً شائعاً، ريثما أتوقف أمام إشكالية قصيدة النثر عروضيا.
قصيدة النثر في الشعر الفرنسي (Poem Prose) كانت هي الأم الشرعية لقصيدة النثر، تلتها قصيدة النثر في الانكليزية (Prose Poem أو Prose Poetry) وإن قيل الشيء الكثير عن فضل تجارب الشاعر الأميركي إدجار ألن بو على بودلير وعلى قصيدة النثر الفرنسية في وقت مبكر، وهو موضوع ليس في صلب اهتمامنا حالياً.
وقد عمدت قصيدة النثر الفرنسية على أيدي بودلير ورامبو وفرلين (وقبلهما برتران) إلى تحقيق ثورة جذرية في الجانب العروضي تمثلت في:
1- الثورة على البحر السكندري الصارم بمقاطعه الاثني عشر التي يتعين على الشاعر الفرنسي الالتزام بها.
2- التخلي عن أي نظام عروضي أو وزني.
3- التخلي عن التقفية.
4- الإبقاء على مستوى معين، وغير مقصود، للإيقاع الطبيعي وما يسمى بالإيقاع الداخلي أو إيقاع الفكرة.
5- التخلي نهائيا عن اعتماد نظام البيت أو السطر بوصفه وحدة بنائية وعروضية.
6- الاعتماد على الجملة (Sentence) وحدة بنائية قد تمتد على أكثر من سطر.
7- الاعتماد على بنية الفقرة (Paragraph) المأخوذة من بنية الكتابة في النثر بديلا عن المقطع الشعري المسمى بـ”Stanza” الذي يضم عادة عددا محدودا من الأبيات الشعرية مثل انساق “السونيتا” ذات الأربعة عشر سطراً على أربعة مقاطع شعرية (ستانزا)، ثلاث منها ذات أربعة أسطر، بينما المقطع الأخير يضم سطرين أو بيتين فقط.
8- ولكي يحقق شاعر قصيدة النثر طلاقاً مع نظام الشعر التقليدي (Verse) عبّر عن رغبته في أن يكتب قصيدة تحاكي بنية النثر الكتابية، من خلال تجنّب الأسطر المستقلة، وضمان استرسال الجمل وتلاحقها على شكل فقرة (Paragraph) أو كتلة كما في النثر. لكن هذا الشاعر، أكد إصراره على أن يحتفظ بكل ما عدا ذلك، وبما هو جوهري في الشعر، مثل الخيال والصور الشعرية، والاستعارات والمجازات البلاغية المختلفة، فضلا عن الاهتمام بالبنية الرمزية والرموز الشعرية في قصيدة النثر التي لم تكن آنذاك بعيدة عن الحركة الرمزية وقبلها الرومانسية، قبل أن تسلم قيادها لاحقاً إلى سطوة الحركة السوريالية وسلطة اللاوعي.
هذه هي الصورة العامة لقصيدة النثر الغربية، وأود أن أركز حاليا على درجة تقيد شعراء قصيدة النثر الغربيين ببنية الكتابة البصرية بين نظام البيت (أو السطر) من جهة وبنية الفقرة أو الكتلة (Paragraph) أو الجملة. فقد لاحظت أن معظم الشعراء كانوا يعمدون في الغالب إلى تغليب نسق الفقرة والجملة كتابيا ولكنهم كانوا في بعض قصائدهم أو في مقاطع من قصائد النثر التي يكتبونها يعمدون إلى إعادة الأهمية للسطر الواحد، وهو كما يبدو أمر تمليه أحيانا التجربة الشعرية ذاتها وطاقة الإفراغ الشعري التي تلزم الشاعر بالتوقف عند نقطة معينة.
ويخيل إليّ أن الملمح الأهم لدى شعراء قصيدة النثر ظل يتمثل كتابيا في اعتماد نسق الفقرة (Paragraph) النثري بحيث تبدو القصيدة وكأنها قصة قصيرة أو خاطرة أو مقالة، بعد أن فارقت بقصدية متوترة نسق التوزيع السطري طباعياً.
ويظل السؤال الأهم في مقاربتنا هذه: ما هي الصورة التي ظهرت بها قصيدة النثر التي قدمتها حركة الحداثة الشعرية العربية؟
يمكن القول إن هذه القصيدة قد التزمت بمعظم منجزات قصيدة النثر الغربية ومنها التخلي عن الوزن والقافية، لكنها لم تلتزم بصورة دائمية باعتماد نسق الفقرة أو الكتلة (Paragraph) النثري ومحاكاة نسق الكتابة النثرية، واحتفظت إلى حد كبير بسلطة السطر أو البيت الشعري كما هو الحال في معظم تجارب الشاعر محمد الماغوط، مع أنها في تجارب عدد قليل من شعرائها أكدوا الالتزام بنظام الفقرة أساسا كما هو الحال في أغلب كتابات الشاعر أنسي الحاج، الذي لم يسقط هو الآخر كلياً نسق الانتماء إلى السطر أو البيت الشعري في الكثير من قصائده الأخرى.
وتظل الإشكالية الأصعب في حوارنا هذا، هل يتعين علينا، شعراءٓ ونقاداً، أن نعيد التسميات والتوصيفات، بما تدل عليه في الثقافة الغربية، أم نتقبل الخطأ الشائع في إطلاق هذه المصطلحات التي استقرت في اللاوعي النقدي والشعري.
وبمعنى آخر: هل نرفض تسمية مصطلح “الشعر الحر” الذي تبنته الحداثة الشعرية العربية -ربما بمبادرة أساسية من الشاعرة العراقية نازك الملائكة، لأنها احتفظت بالوزن- وإلى حدّ ما بالقافية، ولم تهملها كلياً كما فعل شعراء قصيدة “الشعر الحر” في الآداب الأوروبية. وهل يحق لنا أن نعيد النظر في الكثير مما كتب في العربية تحت باب “قصيدة النثر” لأنه لم يلتزم بأحد شروط قصيدة النثر وأعني به نسق الفقرة، والجملة الشبيه بالنثر، وأنه ظل محتفظا بنسق السطر أو البيت الشعري، لأنها لم تعمد إلى نسق الفقرة بل التزمت بنسق السطر أو البيت الشعري، متطابقة بهذا الأمر إلى حد كبير مع شروط قصيدة “الشعر الحر” (Free Verse) في الآداب الأوروبية.
هل يتعين علينا، شعراءٓ ونقاداً، أن نعيد التسميات والتوصيفات، بما تدل عليه في الثقافة الغربية، أم نتقبل الخطأ الشائع في إطلاق هذه المصطلحات التي استقرت في اللاوعي النقدي والشعري
شخصياً أنا من دعاة القبول بالخطأ الشائع وتكريسه بدل تصويبه، مرة أخرى. فبعد فترة تجاوزت نصف السبعة عقود يصعب جداً إعادة تصويب التجربة أو المصطلح لأن ذلك سيخلق تشويشاً لا يمكن التكهن بتداعياته. ولذا فأنا أدعو إلى إبقاء تسمية المصطلحين، مع الاعتراف بما حدث من خطأ أو سوء فهم ومنح الباحثين الحرية لمواصلة الحوار النقدي حول هذه الإشكالية. ولكني من جهة ثانية أدعو إلى الاعتراف بخصوصية التمثل العربي للتجربتين وميلهما إلى إجراء تعديلات جزئية على التجربتين، والقول بأن “الشعر الحر” في العربية ينطوي على مواصفات معينة قد تجعله يختلف في بعض تمظهراته عن بعض خواص “الشعر الحر” في “الثقافة الغربية” كما أن قصيدة النثر العربية هي الأخرى تمتلك خصائص تختلف كليا عن خصائص مثيلاتها في الثقافة الغربية. وبذا يمكن التأشير هنا أن قصيدة الشعر الحر في العربية قد أخذت جوهر ثورة قصيدة الشعر الحر الغربية لكنها، لأسباب موضوعية وذاتية، احتفظت بالوزن بعد ما أجرت عليه من تعديلات جوهرية منها التمرد على سيمترية نظام الشطرين واعتماد نسق التفعيلة والسطر أو البيت الواحد. ويمكن قول الشيء نفسه عن خصوصية قصيدة النثر، مع تشجيع الشعراء في المستقبل إلى الأخذ تدريجياً بنسق الفقرة والجملة، إذا ما شعروا أن ذلك يخدم تجاربهم مع احتفاظهم بحق اعتماد نسق البيت أو السطر إذا ما أحسوا أن التجربة الشعرية تقتضي ذلك.
وأنا إذ أدعو لذلك فلأني أؤمن بحق كل ثقافة أن تجترح الأشكال والبنى الشعرية التي تتفق مع الأصول والخواص في ثقافتها الخاصة والتي تتساوق -ظرفياً- مع مبررات التمرد والثورة على هذه الصورة أو تلك. فقد كان بودلير مثلا يتطير من سيطرة الوزن السكندري ومقاطعه الثابتة، ومن الالتزام الصارم بنسق السطر الشعري بوصفه وحدة إيقاعية وعروضية ودلالية لها مقوماتها وخصائصها الصارمة الملزمة، ومنها الابتداء دائما بحرف كبير في بداية كل سطر أو بيت. ولذا فقد أعلن تمرده على ذلك النظام الصارم ودعا إلى منح الشاعر الحرية للالتزام بجوهر الخلق الشعري دونما تقيد بالشكليات العروضية الصارمة للشعر الفرنسي آنذاك.
أما بالنسبة إلى الشاعر العربي الذي تخلص من بعض القيود ومنها نظام الشطرين والعدد الثابت للتفعيلات، فقد وجد نفسه ينتقل بسهولة إلى كتابة قصيدة النثر مستثمراً مكتسبات قصيدة “الشعر الحر” العربية. وثمّة نقطة جوهرية هي أن نسق البيت الشعري أو السطر في قصيدة “الشعر الحر” العربية لا يتطلب حرفاً كبيراً كما هو الحال في الشعر الفرنسي أو الإنكليزي لأنه غير وارد في كتابة الشعر العربي. وهذا يعني سقوط أحد أسباب التمرد ضد البيت الشعري. وما أخلص إليه أننا لا يمكن أن نعيد ” تصويب” المصطلحات والتسميات التي استقرت في الأذهان والدراسات، وأن من حقنا، انطلاقا من آلية المثاقفة المشروعة، أن نفيد من تجارب الآخر، من خلال منظورنا الخاص، وأحياناً من خلال عملية التهجين (hybidity) والتي تعدّ سمة مميزة من سمات الثقافة ما بعد الكولونيالية على وفق ما ذهب إليه هومي بابا في كتابه “موقع الثقافة”، ودون الالتزام باستنساخ التجربة حرفياً، والتأكيد على أهمية منحها نكهة جديدة وخصوصية محلية ووطنية نابعة من الثقافة والمكان واللغة والتقاليد الثقافية المتراكمة. وهو ما يحدث الآن في ميدان الفن التشكيلي العربي والذي استلهم أشكال الفن الحديث المختلفة من سوريالية وتكعيبية وانطباعية وتجريدية وبصرية وغيرها، لكنه لم يحاول بصورة عامة أن يستنسخ تلك التجارب وإنما أعاد صياغتها في ضوء تجربته وثقافته وحاجاته الروحية والفكرية والاجتماعية.
لست من دعاة بقاء القديم على قدمه، ولكني أعتقد انطلاقاً من حق الاختلاف وبعيداً عن شرط المطابقة أن من حقنا أن نمنح شعراء “قصيدة النثر” في فضاء الحداثة الشعرية العربية حق تقديم لونين كتابيين أحدهما يلتزم بنسق الفقرة (Paragraph) النثري الذي اعتمده الشعراء الغربيون وثانيهما يفيد من نظام السطر أو البيت الشعري الذي اعتمده شعراء قصيدة “الشعر الحر” الغربيون.
ويظل السجال مفتوحاً في الثقافة العربية حول ضبط مصطلحي الشعر الحر وقصيدة النثر. وحسناً فعلت مجلة “الجديد” الغراء بإعادة فتح هذا الملف مجدداً، من خلال الكشف عن “اعترافات” أو “شهادة ” الشاعر الراحل، الحاضر الغائب، أنسي الحاج.