قضبان القطارات والنافذة والغابة
توقظني هذي المدينة قبل ساعاتٍ مِن يقظة شمسها الضجرة، دُون تمهُّلٍ. ترفض هذه المدينة أن تمنحني نومًا عميقًا.
يومها، عندما عدتُ، بعد 6 ساعاتٍ مِن خروجي، كانت البناءة تمتلئُ بنساءٍ يتَّشحنَ بالسواد، وأمّي التي كانتْ في منتصف الثلاثينات تبكي، وتقول لأُخت أبي «حسني مات… حسني مات يا أمل، وهو لا يزالُ ابن الخامسة والأربعين… حسني مات».
تجمّدتُ. تمزّقتُ. ونسيتْ جفوني أن تجفلَ، ونسيَ قلبي أن يدفع الدَّم إلى بقية جسدي، فتهاويتُ.
هل حزنت القطاراتُ عندما مات أبي؟ ألهذا توقَّفَتْ عن المرور أمام بيتنا؟ ألهذا خلعوا القضبان الحديدية في الأسبوع التالي لموت أبي؟ ولم يعد القطارُ إلى مدينتنا مِن يومها؟
أنا اليوم تركتُ مدينة طفولتي، تركتُ آثار قضبان قطاراتها، ضجيجها، والبيت الذي أصبح أكثر برودةً منذُ مات أبي؛ أنا اليوم هنا في هذه المدينة التي توقظني كلَّ ليلةٍ، لأرى شمسها المتردِّدة تتلصَّصُ عليَّ، بينما أنا جالسٌ، أتنقَّلُ بذهنٍ مُفتَّتٍ، بين قائمة موسيقى تمتلئُ بالجاز والباروك دون ترتيبٍ، وبين قصائد مُتشظِّيةٍ برِّيَّةٍ للكُرديِّ سليم بركات؛ الكرديُّ ابن الغابة.
الآن هي السَّادسة صباحًا بتوقيت القاهرة المقهورة، الآن هي السادسة صباحًا بتوقيت شمسٍ تشرق على أرضٍ ليس بها جديدٌ، كما يبدأُ بيكيت روايته الأولى «ميرفي»، التي ظهرتْ رُوحُهُ فيها مُتشبِّعةً برُوح جويس؛ هل كان بيكيت يبحثُ عن أَبٍ هو الآخر، فوجدَهُ في جويس، ثُمَّ تمرَّد على أبيه، فتركَهُ، وترك الإنكليزية كُلَّهَا، باحثًا في الفرنسية عن أُمٍّ، حنونٍ، دُون سطوةٍ، وانسحاقٍ؟
هل سأكتبُ روايتي الأولى وأنا مُتشبِّعٌ برُوحِكَ أيُّها الكرديُّ القابع في أقصى الشمال؟ أيُّها الكرديُّ الذي يكتبُ بعربيةٍ تنتزعُ جموحها مِن ذاتها؛ هل سأتناسى الوحشة التي تتركها في هذه المدينة، الوحشة التي تتركها في كلِّ مدينةٍ؟ لا أعرف، وربما لن أعرف يومًا.
أبي، المغترب في لغة الكتابة، أبي البعيد القابع بقلب غابةٍ في أقصى الشمال، ربما لن تصلَكَ يومًا رسائلي.