قطيع يقوده رجل دين
قال طه حسين وزير المعارف العمومية في البهو الكبير بجامعة الإسكندرية يوم افتتاحها إن «التعليم في مصر حق للجميع فهو كالماء والهواء منحة من الله لكل الناس بلا تفريق». هذا الحق، الذي يوازي الماء والهواء قيمة، لم يرتق بثقافة مجتمعاتنا العربية رغم مرور عقود طويلة. بعد أكثر من نصف قرن على هذه المقولة، أصدر البنك الدولي تحذيرا يقول فيه بأن نظام التعليم العربي يحتاج «إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية» وبأن «أحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير».
موضوع التعليم في العالم العربي موضوع شائك ومُلِحّ يعاني من عدة نقائص قاتلة يجب البحث فيها وإيجاد حلول جذرية لها قادرة على الارتقاء به من المستوى الضحل الذي انحدر إليه إذا توفّرت لدى أصحاب القرار في بلداننا ولدى منظمات المجتمع المدني رغبة جادة في الإصلاح والصعود بشعوبنا نحو مصاف الدول المتقدمة إذ لا سبيل إلى أيّ تغيير دون العمل الجاد على هذا العنصر الحيوي والأساسي في تقدم الشعوب.
كشفت الفوضى السياسية والاجتماعية والفكرية العارمة التي تلت ثورات الربيع العربي، في تونس ومصر على سبيل المثال، عيوب هذا المستوى المتدني عبر ما أُتيح في غياب النظامين الدكتاتوريين من شفافية في التعامل مع القضايا الكبرى. من بين نتائج الفساد التعليمي، التدهور الكبير في الأخلاق الجمعية اليومية المتمثلة، على سبيل المثال لا الحصر، في ارتفاع نسب التحرش واستمرار استشراء الفساد الاقتصادي والسياسي، إضافة إلى تصاعد الفكر التكفيري وتجنيد عدد كبير من الشباب يُزَج بهم في أتون العمليات الانتحارية داخل أقطارهم أو في العراق وسوريا وليبيا والدول الأوروبية.
لا تزال جماهيرنا العربية تُشحَن وتُوَجّه عبر الخطابات الحماسية والوعود الكاذبة والإغراءات واستغلال المعتقد وعبر الإعلام والمنظومات التعليمية المعاصرة.
رغم ما في نظرة جوستاف لوبون من سلبية في التقييم إلّا أن الواقع يفرض التسليم برؤيته، سواء في البلدان العربية التي لم تشهد ثورات أو في بقية الدول التي قام فيها ما يسمى بـ»ثورات الربيع العربي»، حين يقول في كتابه «سيكولوجيا الجماهير «، «من الصعب فهم تاريخ الثورات الشعبية إذا ما تجاهلنا غرائز الجماهير المحافظة جداً. صحيح أنها تريد تغيير أسماء مؤسساتها وتقوم أحيانا بثورات عنيفة من أجل تحقيق هذه المتغيرات. ولكن عمق هذه المؤسسات ومضمونها يبقى معبرا عن الحاجيات الوراثية للعرق وبالتالي فهي تعود إليه دائما في نهاية المطاف. فحركيّتها لا تخص إلّا الأشياء السطحية. في الواقع إنها تمتلك غرائز محافظة نهائية. وكجميع الناس البدائيين فإنها تشعر باحترام وثنيّ تجاه التقاليد وبهلع لا واعٍ تجاه البِدَع المستجدة القادرة على تعديل الظروف الحقيقية لوجودها».
على ضوء رأيه هذا علينا أن نتساءل عمّا تغير في وعيِ شعبَيْ تونس ومصر وشعوب بقية المنطقة بواقعها الموضوعي وبنقائصه رغم مرور السنين وتغير متطلبات العصر والتقدم التكنولوجي والنانوتكنولوجي في العالم من حولنا وكيف مثلت المنظومات التعليمية فيها وسيلة للتخريب لا للبناء؟
لم يتغير شيء سواء في الدول التي لم تَقُم فيها ثورات ولا تزال تحافظ على ذات النمط في الحكم وبالتالي ذات أولوياته، ولا في مصر وتونس والتي لم تكن ثوراتها فكرية بنيوية بل مجرد انتفاضات ضد استبداد سياسي تغيرت فيه الواجهات ليحتل مكانها ساسة لا يقلون فساداً وإفساداً.
يجب الاعتراف أن كل دول العالم العربي لن تتمكن من تجاوز أزماتها الراهنة أو القيام بثورات حقيقية تبني مستقبلا أفضل ما لم يتم تطوير المنظومات التعليمية التي احتوت من الخلل ما كان كافيا لانتشار ثقافة العنف والتطرف ورفض قيم العصر والنكوص نحو ثقافة التوهّم واستعادة الماضي وشيوع ثقافة الموت والانتحار بين الشباب.
رغم العدد الكبير من أصحاب الشهائد والديبلومات إلّا أن تكوينهم التعليمي طغى عليه البحث النظري ولم تمثل مسيرتهم التعليمية سوى مجرد وسيلة للارتقاء من فصل إلى الفصل الموالي والنجاح في الامتحانات دون تقييم حقيقي للمستوى المعرفي وتعميق فهم وإدراك المعارف وصقل الكفاءات وتطوير المهارات. لهؤلاء الأفراد تكوين علمي لكن ليس لهم إدراك وثقافة أدبية وتاريخية ومدنية تُنَمّي لديهم حس الانتماء للوطن وحبه وثقافة نقدية تُنمّي الحس النقدي والقراءة الموضوعية للظواهر المختلفة وثقافة فنية تُنمّي الحس الجمالي وحب الحياة والجمال.
ما نلاحظه اليوم بعد ثورات الربيع العربي هو أن البثور التي كانت تعالَج بمراهم تُخفي الدُمَّل دون أن نبلغ مكامنه قد تفتقت على تقيّح عطِن يزكم الأنوف، إذ غاب الأمن وعمَّت الفوضى وتبدّى الوجه المشوَّه للوطن والذي يستبيح فيه الأخ دم ابن أمه ويحرمه من حقه في المواطنة وتقرير المصير.
لا تزال الشعوب العربية تندفع في الاتجاه الذي يقودها إليه رجل الدين الذي تتبع مذهبه أو السياسي الذي تنتمي إلى فصيله. حكوماتها سواء القديمة الجديدة أو التي ظهرت بعد الثورات تواصل التحكم في العقول من خلال وسائل إعلامها الرسمي وعبر المنظومات التعليمية التقليدية ذات الرأي الواحد والخاضعة بالضرورة للأجندات السياسية. الإعلام، الذي شهد طفرة عددية لا نوعية، واصل معظمه خدمة صاحب السلطة الدينية أو السياسية الذي يموّله. ويقوم، بوعي أو طبقا لخطط معدة سلفا، بجعل العنف أمرا عاديا عبر تبسيطه (sa vulgarisation) في برامج تدعي الطابع الفكاهي مقللة من فداحته. ويهمش قيمة العمل والجزاء المكافئ للإبداع عبر برامج المسابقات واليانصيب التي تفقد المال قيمته الحقيقة فخسارة مليون دولار تتساوى مع خسارة مائة مليم مانحة وهم الإثراء السريع بدل الاجتهاد المضني والكسب المحدود.
لا يسعى الحكّام في الدول العربية بحال سعيا جديا لتغيير المنظومة التعليمية. في كل البرامج الحكومية التي تقدم للبرلمانات نراهم يسيرون في نفس الطريق الذي سلكوه مرارا وتكرارا موهمين الشعوب بأن النتائج ستكون مختلفة
آثار هذا الهوس بالربح، الذي يولد بالضرورة وسائل لا أخلاقية لتحقيق الغايات، تسرّب كسرطان إلى كل مكونات المجتمع. أضحى الغش، والذي يبدأ اعتماده منذ الطفولة في الامتحانات ثم يتطور إلى السرقة فالقمار والسمسرة بكل شيء حتى بالوطن والمبادئ، أمرا عاديا لا حرج فيه.
في ظل غياب أي تأطير وتوعية، تسللت الوسائل السمعية البصرية ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الجوال، والتي تلعب بدورها في ذات الساحة التخريبية مع ما تقدمه من مادة استهلاكية سهلة مثل مظاهر العنف والانحلال الأخلاقي وضروب التزمّت والتطرف والانغلاق، إلى عقل الطفل والشاب بسبب الملل الذي تسببه مناهج التعليم العرجاء وسيطرت عليه. هذه الشريحة من المجتمع، التي لم يمنحها التعليم ما يمكنها من التفرقة بين الغث والسمين، وجدت نفسها منجرفة إلى التصادم ورفض الواقع المدرسي والاجتماعي والتطاول على وليّ الأمر المنشغل بتأمين ظروف أفضل للحياة اليومية وعلى الكادر التعليمي الذي لم تعد من مهامه التربية. فصل التربية عن التعليم في تونس على سبيل المثال أدى إلى اختلال التوازن بين التعليم والتربية واستفحال ظاهرة الاعتداء على المربين وتدنيس حرمة المؤسسات التربوية وهذا العنف الذي ينتهك قيمة المعلم المقدسة والتي عبر عنها أمير الشعراء بقوله «قُــمْ لـلمعلّمِ وَفِّـهِ الـتبجيلا *** كـادَ الـمعلّمُ أن يـكونَ رسولا» هو انتهاك لبقية المقدسات الواجب احترامها ومن بينها روح الوطنية مما ينتج عنه ضياع الوازع الأخلاقي والقيَمي.
على هذا الأساس ليس لنا أن نأمل خيراً في تغير منطلقات من يقوم بتشكيل ثقافة النشء الجديد طالما استمر النظام التعليمي على ما هو عليه وتنازل المجتمع المدني عن دوره الريادي في الإصلاح.
من المؤكد أنه لم يعد منطقياً انتظار ظهور زعيم إصلاحي أو قائد رمز يغيّر بعصا سحرية الواقع لذلك فالمنطق السليم يجبرنا على النظر ملياً في الخشبة التي في عيوننا وانتزاعها مهما سبب ذلك من ألم وتضحيات.
لئن تتحمل النظم الدكتاتورية العربية المسؤولية الكبرى في ذلك فهل منظمات المجتمع المدني والمثقفين في حلّ من الأمر؟ ما الدور الذي يقومون به في هذا المجال وما مدى جديتهم إن توفرت لديهم الرغبة في التغيير في تحقق إصلاح جذري وبنيوي؟
الساسة كانوا دوما ولا يزالون راقصين ماهرين على الوجع الإنساني يهمهم في المقام الأول منصبهم السيادي والمنافع التي يضمنها. تراهم في كل تشكيل حكومي جديد يتبارزون ويتنازعون سلطتي الدفاع والخارجية مهملين تماماً حقيبة وزارة التعليم والضرورة الحتمية للإصلاح التعليمي والبحث العلمي.
غياب الإرادة السياسية لديهم يمكن تفسيره برغبتهم في الحفاظ على ذات نسق المنتج التعليمي الواحد الذي أثبت جدارته في الخضوع للحاكم في فترات الحكم السابقة. هذا المنتج من المنظومة التعليمية القديمة آمن وسيؤمن دوما بالرأي الواحد مما يضمن استمرار الخضوع للدكتاتور وسياساته مهما تكن جائرة.
هذه السياسة تؤدي حتماً إلى خلق نمط من التكوين الفكري الدغمائي وترصف الكل في قطيع منساق يرفض الرأي الآخر المخالف لرأي الفقيه أو الحاكم كما يعجز عن محاكمة الآراء التي تسوَّق له من طرفهما بل يتقبّلها كما هي مقتنعاً بصحتها مهما تكن منافية للمنطق السليم لهذا لا يناقش نقدياً ما يقوله أو يأمره به الرئيس أو الملك أو أمير الجماعة الدينية المتطرفة كما أن هذه السياسة تفسّر الميل إلى التشدد الديني في الدول التي قامت فيها الثورات بعد إسقاط الدكتاتورية.
لهذا لا يسعى الحكّام في الدول العربية بحال سعيا جديا لتغيير المنظومة التعليمية. في كل البرامج الحكومية التي تقدم للبرلمانات نراهم يسيرون في نفس الطريق الذي سلكوه مرارا وتكرارا موهمين الشعوب بأن النتائج ستكون مختلفة في كلّ مرة. يعيِّنون رؤساء الإدارات التعليمية من غير المتخصصين في المجال التعليمي وينتدبون ذات واضعي البرامج التي ساهمت في الخراب التعليمي منذ عقود للعمل على التجديد والإصلاح ويُعيدون إمضاء الخطط الاستراتيجية ذاتها.
تقوم كل وزارة بصورة مستقلة بالبحث في مشاكل هذه الخطط الاستراتيجية واقتراح حلول لها دون أن يتم تطبيقها لأنه كلما أتى وزير جديد رمى بكل ما أنجزه سلفه وبدأ من النقطة الصفر، في حين أن العملية الإصلاحية خاصة في المجال التعليمي يجب أن تتم في مستوى رئاسة الحكومة وتشرف عليها لجنة تستمر في البناء على ما سبق وتقرر مع الوزير السابق. يجب إسناد هذا الأمر الحيوي والمصيري لا لمن ساهموا في خرابه لعقود بل لأناس أكفاء من بين إطارات التربية والتعليم الممارسين للمهنة والقادرين على بثّ روح جديدة في المناهج والمدركين لاحتياجات الطلاب في الكتب والمنهج التربوي والنفسي.
يعود تقصير الحكومات في مجال الإصلاح التعليمي إضافة إلى رغبة في إرضاء أهل الله الضامنين الأمثل لكسب دعم الجماهير بإبقاء التعليم الديني الموازي على ما هو عليه، إلى خلل هيكلي يتمثل في سوء تحديد الخيارات الكبرى للدولة
لئن كانت المواد غير المحمّلة ثقافيا (كالرياضيات) لا تثير إشكالا كبيرا، ففي مناهج المواد غير المحايدة والخاضعة للفكر الواحد يقومون بالتسييس والدمغجة عبر مغالطات (كتب التاريخ والتربية الوطنية والدين والثقافة العربية أنموذجاً) كشف الانفتاح على العالم والأفكار من خلال الإنترنت زيفها أو المبالغات التي تتخلّلها. تتمثل هذه المغالطات في تأكيد عروبة الدولة وأنّ لها دينا رسمياً واحداً وهذا يتنافى أولا مع الحق الطبيعي للأقليات في وطنهم وحقهم أيضا في تقرير مصيره ويرسّخ ثانياً لأفكار ترفض الآخر وتحتقره وتنتقص من إنسانيته مُعْلية من شأن العرب المسلمين على سائر الشعوب فيُعَلَّمُ الأطفال بالضرورة مبادئ تشجع على العنف ضد المختلف، وبالتالي تُجهّز الشاب للانخراط في مسلسل الإرهاب خالقةً عداوات بين أبناء الوطن وفي حالات الفوضى تؤدي إلى أعمال تخريبية وإرهابية داخل الوطن ذاته تطال المستضعفين من أبنائه.
في حين أنه من الأجدر تجريد المواد الدراسية المحملة ثقافيا من النزعة التي تنتمي إليها بتعديلات جذرية تترك مساحة لتقبّل الاختلاف والاعتراف بحقّ كل أبناء الشعب في وطنهم وتؤسّس للتفكير والتطوير مما يُمكِّن التلاميذ من آليات النقد والبحث دون إلزامهم بإجابات جاهزة ومُتفّق عليها منذ عصور خلت مما يطور مَلَكة الإبداع والخَلق ويضمن مستقبلا أكثر أمنا واستقرار.
يجب إعادة النظر في التعليم الديني الموازي (الأزهر أنموذجاً) الذي يدافع رجال الدين عن استمراره رغم ما فيه من حيف ضد المختلفين والأقليات. فعلى المدرّس أن يكون مُدركا لنوعية القضية التي يتناولها بالدرس وعمق الإشكاليات التي تطرحها كما يفترض عليه التأكيد على كونها خلافية وتقديم وجهات النظر المختلفة حولها مشيرا لأن «في اختلافهم رحمة» دون تشدد وتأييد لفكرة واحدة تنفي سواها حتى نتمكن من بناء أجيال قادمة متفتحة الذهن تتقبل الاختلاف والمختلف. دون ذلك لا أمل في الخلاص من ثقافة الموت التي تهدّد الأمن الداخلي بالأساس قبل أن تُصدَّر لمناطق الصراع الساخنة. فالتطرف في صفوف الشباب ليس وليد لحظته بل يمرّ منذ الطفولة الأولى عبر مراحل متعددة تتمثل في البدء في العنف الأسري والمدرسي ثم الشارع لتصل إلى فورة الشباب الناقم بسبب العجز عن التحصيل العلمي أو البطالة والفقر في عالم استهلاكي بامتياز ممّا يسهل عملية الاستقطاب عبر شبكات متخصصة وطرق مدروسة في مرحلة لاحقة تحول الشاب إلى آلة بهيمية للقتل (brute) لا تفكر ولا تعي تطبق ما يقال لها حرفيا لأنه تم حشو دماغها بوهم ‘الفوز بالنعيم» في عالم ما بعد الموت حيث العذارى الحسان وأنهار العسل والخمر واللبن، عاكسة رغبته المكبوتة في التدمير انتقاما من المجتمع لما طاله من حيف وحرمان من فرص الحياة.
يعود تقصير الحكومات في مجال الإصلاح التعليمي إضافة إلى رغبة في إرضاء أهل الله الضامنين الأمثل لكسب دعم الجماهير بإبقاء التعليم الديني الموازي على ما هو عليه، إلى خلل هيكلي يتمثل في سوء تحديد الخيارات الكبرى للدولة. بدل منح التعليم والثقافة المكانة التي يجب أن يتمتعا بها باعتبارهما الضامن الأساسي لمستقبل أفضل للشعب يضمن مستوى راقيا فكريا وثقافيا ويمنح رخاء معيشيا، تكتفي باستيراد برامج وحلول جاهزة لا تتفق مع الهوية الوطنية والاحتياجات الموضوعية. وهي كذلك تخصص نسبة إنفاق متدنية جدا لحقيبتي التعليم والثقافة محوّلة المؤسسات التربوية إلى مداجن لاحتضان الناشئة حتى لا تتسبب في خلق مشاكل تؤرق أمن الحكومات والقائمين عليها، إلى أن تشب وتلتهمها عجلة الحياة العملية.
في ظل انعدام الفعالية اللازمة لتطوير القطاع وغياب البحوث التنموية والتطوير التكنولوجي والتجديد وغياب رؤية مستدامة ومخططات استراتيجية طويلة الأمد إضافة للأولويات غير الواضحة والهادفة أضحى التعليم مجرّد حلقات تكوينية نظرية بامتياز وإن تغير شكلها عديد المرات وفي عالم ينبني على السوق الحر والتجارة في كل شيء حتى بالبشر ويسعى فيه الأفراد لتوسيع ثوراتهم والشركات العملاقة إلى الإثراء والاستيلاء على الموارد في شتى مضارب الأرض وبشتى الطرق.
وفي ظل غياب مشاريع حضارية طموحة للتصنيع والبحث العلمي وعدم امتلاك ناصية العلوم الحديثة في داخل الوطن واللذين يؤديان بالضرورة إلى خلق أسواق لتشغيل ذوي المهارات والكفاءات الحقيقية فَقَدَ التعليم دوره كسُلَّم للارتقاء الاقتصادي والاجتماعي حيث لم يعد النجاح في الدراسة وسيلة للنجاح في الحياة وصار أصحاب الشهائد يعانون من البطالة ومن التهميش مع عجز فكري ونقدي على تناول الأفكار والمواقف بالدرس قبل التسليم بها كلها أو رفضها جملة وتفصيلا، مما يولد لدى الشاب الإحباط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وبالتالي النقمة على الأوضاع السائدة ويسهل الانخراط في أيّ نشاط قادر على احتواء وتصعيد العنف الكامن في النفس.
والعنف لدى الطفل له أسباب ومظاهر متنوعة إن لم تعالج منذ البدء ستتطور مع العمر إلى أن يغدو الشاب لغما قابلا للانفجار في أيّ وقت وأيّ مكان، تبدأ مع العنف الأسري عبر السلطة الأبوية المستبدة فالمدرسي عبر السخرية من الضعف التحصيلي للتلميذ والتفرقة والتمييز ممّا ينتج تشتت الانتباه والحقد على المدرسة والمدرّس ثم تتواصل في الشارع عبر المجموعات العنيفة وما تقوم به من تخويف واعتداء.
يوجِّه الطفل هذا العنف نحو ذاته بميله للانحراف كالتدخين وتعاطي المخدرات أو تجاه الآخر عبر العنف اللفظي والإيحاءات الجنسية والسُباب الديني أو تجاه المحيط التعليمي كالكتابة على الجدران وتخريب الطاولات وتكسير الكراسي والسبورات ودورات المياه.
في ظل غياب مشاريع حضارية طموحة للتصنيع والبحث العلمي وعدم امتلاك ناصية العلوم الحديثة في داخل الوطن واللذين يؤديان بالضرورة إلى خلق أسواق لتشغيل ذوي المهارات والكفاءات الحقيقية فَقَدَ التعليم دوره كسُلَّم للارتقاء
ولقد ساهم في تدني المستوى التعليمي، إضافة لما سبق ذكره، انعدام حرية الرأي والتعبير وإهمال التعديل السلوكي وغياب التركيز على جوانب الضعف عند الطالب والإكثار من انتقاده وغياب الحصص الحوارية وغياب الديناميكية وإلغاء مبدأ النجاح حسب معايير صارمة وموضوعية تضمن جودة وقيمة التعليم حسب المواصفات العالمية واعتماد التلقين المستمر وإهمال الجانب التطبيقي العملي إلى جانب إهمال دور الكتاب والمكتبات.
كما ساهم في تعميق هذا الانهيار تدهور الحالة المادية للمربّي نظرا للمتغيرات الاقتصادية مما أدى بهذا الأخير إلى الطرق على الأبواب وأخذ الأجور من أولياء الأمور. ففقد بذلك هيبته وهو ما نتج عنه نظرة سلبية من المجتمع للمربي وانهار نموذجه كقدوة، كما أن العلاقة بين المربّي والطالب أضحت حرجة فبالإضافة لتدهور القيمة الاجتماعية صار المربي يخشى الطالب نظرا لتكرار عمليات الاعتداء اللفظي والجسدي على الكادر التعليمي مما يدفع في حالات كثيرة إلى تقديم امتحانات سهلة والتساهل في التقييم حفاظا على ما بقي من كرامة.
انهيار المستوى التعليمي في المؤسسات التربوية العمومية جعل المدرسة والمعهد والجامعة لا توفر حق تكافؤ الفرص للجميع ولا واجب فرز الطاقات الذهنية والعقلية والنفسية وصقلها وتطويرها حسب أهليتها، فقد أضحى فرزاً مادياً للطلاب عبر أعداد مضخمة يتم شراؤها وتُقَدم في شكل دروس خصوصية تقوم فقط بمعالجة الظواهر لا الأساس التعليمي.
والدروس الخصوصية هي تنبؤ بما سيرد في الامتحان والمتنبّئ الجيد يكون الأكثر شعبية مما يجعل الطالب القادر على الدفع المادي أكثر حظوظا في النجاح فصار التعليم الذي يفترض أن يكون مجانياً أغلى من كل الاحتياجات الأساسية الأخرى للحياة اليومية في حين أنّه من المفروض مجاني ويسهل استيعابه والتعاطي معه كالماء والهواء، كما أنه حق للجميع على وجه سواء تتساوى فيه فرص الارتقاء ويتم فيه اجتياز امتحان حقيقي يثبت الكفاءة للنجاح للفصل الموالي.
كيف سيمكننا الخروج من المأزق التعليمي وبناء جيل قادر على الارتقاء بمجتمعه وكيف يمكن نشر ثقافة الحياة؟
يقول برنارد شو «يلوم الناس ظروفهم على ما هم فيه من حال، لكنني لا أؤمن بالظروف، فالناجحون في هذه الدنيا أناس بحثوا عن الظروف التي يريدونها، وحينما لم يجدوها صنعوها بأنفسهم» وبناء عليه يمكننا إصلاح منظومتنا التعليمية والتربوية عبر صناعة الظروف غير المتوفرة في الواقع ويتم ذلك عبر المراهنة على التنمية البشرية والتعليم «المادة الشخمة» (la matière grise) كما كان يردد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة ويتم ذلك على مستويات ثلاثة:
1- التلميذ وولي الأمر: على الأسرة غرس حب التعلم وضرورة التحصيل العلمي والانضباط داخل الفصل في أبنائها واضطلاعها بدورها الفاعل في العملية التعليمية والتربوية عبر متابعتهم في حياتهم المدرسية اليومية وتوعيتهم ومراقبتهم بشكل متواصل ودقيق واستغلال فراغ الزمن الخارجي للطفل بأنشطة ثقافية مختلفة تهذب سلوكه وترتقي بمستواه الفكري.
2- المدرس: وذلك بتشديد الرقابة على المدرسين وعلى العملية التربوية بصفة عامة من جانب منظمات المجتمع المدني والحكومات الراغبة حقيقة في التغيير عبر تدريب مستمر حول طرق التدريس وإدارة الفصل الدراسي وتمكينهم من مرتّب يكفل حياة كريمة، إضافة إلى معاقبة المقصرين ومكافأة ذوي الكفاءة دون إغفال ضرورة إعادة الاعتبار للدور التربوي للمدرس في الفصل الدراسي والذي ينتج الاعتناء به ومنحه مكانته في العملية التعليمية موظفين ملتزمين وشارعاً منضبطاً.
3- تطوير المناهج: أي المنظومة التي يتم من خلالها التعليم والمتمثلة في أساليب التدريس عبر اتّباع مبدأ «علموا أطفالكم وهو يلعبون» ممّا يجعل المنهج التعليمي ممتعاً ويشد الطالب للدرس والمواد المدروسة وعبر تحسين أساليب التقويم والتقييم وعبر استعمال التقنيات الحديثة في التدريس، إضافة إلى تحديد عدد الطلاب في الفصل الواحد والقضاء على الاكتظاظ والعناية بالبُنى التحتية.
إضافة إلى هذه المستويات الثلاثة وفي إطار إصلاح المناهج لا يجب النظر إلى العملية التعليمية كأجزاء متساوية بل يجب التركيز على التعليم القاعدي، أي في الصفوف التعليمية الأولى أكثر لأنه إذا تعلم التلميذ المهارات الأساسية في المرحلة الأولى (القراءة والكتابة والرياضيات) ستضمن قدرته على مواصلة التعلم والنجاح. تجب، أيضا، إعادة الحياة لدور الثقافة والشباب والنوادي المدرسية والأنشطة الثقافية خلال التعليم ويتعيّن إقامة ندوات نقاش داخل المؤسسات التربوية يتم خلالها مراجعات فكرية تحضّ على التفكير الحر والنقد البناء وتدفع نحو تقبّل الاختلاف والتخلّي عن العنف الذي إن لم يُعالَج وتُقلَّم مخالبه في المهد سيتطوّر إلى تخريب وتدمير سواء ضد الدولة أو الأفراد أو الجماعات المختلفة.
كما أن مقاومة الفقر والاهتمام بالجانب التنموي وتوفير فرص للأطفال الفقراء للاستعداد للمدرسة ثم متابعتهم خلال تدرجهم الدراسي واجب حكومي أكيد يَحدّ من الانقطاع المبكر عن الدراسة ويضمن عدم التغرير بالشباب المحروم من فرص التحصيل العلمي ومن الرخاء الاقتصادي ووقوعه في براثن التكفيريين والجماعات الإرهابية.
لقد أدركنا الآن ما آل إليه مستوى التعليم خلال العقود الماضية وقد أضحى من البيّن ضرورة العمل على تحسينه، وعلى المجتمع المدني أن يضطلع بدوره الريادي في دراسة الحلول الإصلاحية للمنظومة التعليمية ودفع الحكومات للقيام بالتغييرات الضرورية وذلك من أجل ترقيتها وتصفيتها من كل ما يدعو إلى العنف في مجتمعاتنا.