قلب الدائرة
- الطلقة التي صوبتها في ميدان الرماية أخطأت المجسم، واخترقت الأزمنة، ثم استقرت في قلب هابيل، فسقط صريعًا.
- هذا يا سيد عنبر سجن لا عنبر مجانين!
- ما الذي يدفعني لأن أكذب عليك؟
كثيرٌ من زملاء الحَجْز جرتهم آذانهم من جوار حوائطهم إلى هذا الصوت. يطمحون إلى عبور جثث الأيام بعطر حكاية أخرى عجيبة لوافد جديد.
- وكيف وضعك القاضي على ذمة قضية كهذه؟! سأل سجين ثانٍ.
- زملاء التدريب الذين سمعوا نفس الصرخة التي سمعتها تكفلوا بالقبض عليّ وتسليمي، خوفًا من اللعنة، ثم اعترفت في التحقيق.
- أيّ صرخة سمعتها؟ سأل سجين ثالث.
- صرخة بدائية ليس كمثلها شيء، ورأيت على شاشة الهواء قابيل وهو يقلب جسد أخيه النازف دون أن يعرف ماذا يفعل به، وينقل نظراته ما بين يديه وكل شيء من حوله مذهولًا. أعيته الحيلة وأخذ الخوف يدك جسده، فجرى في كل الاتجاهات. يسقط ويقوم. تخفى الكهوف جسده ولا توارى قلقه. صار يخاف من السماء، والأرض، والماء، والهواء.
- وهل تذهب رصاصة من الحاضر إلى الماضي يا أخ؟! سأل سجين رابع.
- كما أتتنا سيوف الماضي، وخناجره، وسمه الزُعاف.. ألا تعرفون أنّ لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه.
- لكنها قسمة ضيزى يا زميل، ثم إن نظريتك نفسها تخالف ما تعلمناه في قرآننا وما تربينا عليه. قال سجين خامس وهو يزم شفتيه غيظًا، ويبدو أنه تلقى غمزة من آخر فهدأت حدته.
فتشوا بعيونهم في ملامحه. مجنون أخطأ طريق السرايا الصفراء إلى عنبر السجن، ولعل عقله راح نتيجة ظلم لحقه بقضية مضحكة كتلك القضايا التي حوكم أكثرهم بسببها، ولكن كيف تنطلق رصاصة من الحاضر إلى الماضي؟!
رد الوافد الجديد: لأن الزمن يدور حول نفسه.
كأن العبارة ثقبت آخر بلالين صبرهم. انطلقت الضحكات كالفقاقيع المُلونة، وتلاقت الأكف في فرقعات تنشلهم من واقع أيامهم ولو لحظات. من لم يشارك منهم بأسئلة شارك بتعليقات: «الزمن غدّار».. «الزمن دوّار» على رأى «جورج وسوف».. «الزمن سمسار».. «الزمن كرة شراب». ها ها ها.
ولكي يزيدوا الأمر جنونًا فوق جنونه انتظموا في قطار وهم يصيحون: فووووو.. توت توت توت.. بم بم بم.. تيت تيت تيت، وهم يندفعون إلى الأمام صائحين: «انظر يا زميل، سنعلمك شيئًا للزمن. الزمن كالقطار.. يندفع دائمًا إلى الأمااااام».
في عنبرهم كانوا يبغون تسكينه بسرعة في دور يناسبه. يبزغ عناده متحديًا أيّ دور بوجهه الذي يبتسم بسخرية، وتحديقه إليهم وهم ينطلقون إلى الأمام. عشر خطوات راقصة فقط وواجهوا الحائط المقابل، فانحرفت خطواتهم. عشر خطوات أخرى وواجهوا الحائط الآخر، فانحرفت خطواتهم.. وهكذا لمرة ثالثة، ورابعة، وخامسة. ملأهم الحنق والتحدي. ثمة سجين جديد مجنون يقذفهم برصاص ابتساماته الساخرة وهو يجلس في المنتصف، وهم لا يملكون حِيلة أو إرادة إزاء الحوائط؛ كي ينطلقوا إلى الأمام ويثبتوا له ولأنفسهم عكس ما يقول. تهاوت قدراتهم شيئًا فشيئًا وهم يلفون في دائرة كاملة، وأخذوا يتساقطون حوله في النهاية واحدًا وراء الآخر وقد أنهكهم الإعياء، وزلزلتهم الدهشة.