قناع الملك العاري

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: يوسف عبدلكي

تميمة

لم تكن تلك التميمة التي كانت تلصقها على كلّ رداء داخلي تلبسه، لتثير فيه سوى الغرابة والحيرة، إذ كيف لامرأة تحمل شهادة جامعية، وقارئة جيّدة للشعر مثل زوجته الحبيبة، أن تؤمن بالخرافات!

فكان يسألها:

- إذا كنت تحتفظين بها من أجل الزواج فها أنت ذا قد تزوجت.

فتجيب وهي تزفر بحسرة وتتحسّسها بأصابع مرتعشة:

- طبعاً لا.

ويقول:

- هو الخوف إذن، هل تشاهدين الكوابيس في حلمك؟

فترد بتأفف:

- لا.

ثم ترجوه أن يكفَّ عن هذا السؤال المرة تلو المرة، وتؤكد له أنها تميمة جالبة للحظ والسعادة، والدليل أنها حظيت، هي الفتاة الفقيرة، برجل أنعم الله عليه، فجأة، بالكثير.

فيجذبها نحوه بقوة ويمطرها بالقبل، أو ينصرف عنها بهدوء.

حين دخل إلى البيت عائداً من عمله، قبيل مغيب شمس ذلك اليوم الجميل، استقبله صوتها قادماً من الحمام وهي تدندن بأغنية يصاحبه «الدوش» عازفاً على جسدها بأصابع مائية، فأطلقت قطعان الشهوة في دمه صهيلاً قوياً، ودفعته نحو باب الحمّام لمشاركة رشاش الماء عزفه المثير، غير أنّ وقوع نظره على تلك الخرقة مربّعة الشكل، والمغروزة في قطعة من ثوبها الداخلي الملقى على السرير، جعل وحش الفضول ينهض في داخله كمارد ويفترس تلك القطعان التي هاجت في دمه. مدَّ نحو تلك التميمة أصابع مترددة، وأخذ يتحسسها بفضول، فاجأه صوتها:

-هل عدت يا يوسف؟

فأجاب بصوت أحسه غريباً عنه، أعقب ذلك لحظات من الصمت والتردد وهو يتحسس ملمس تلك القطعة بأصابع حائرة ، قفزت خلالها إلى ذهنه حكايات كثيرة، ومنها حكاية ذلك العجوز الذي كان يزوره في المدرسة حين كان معلماً في الريف، وُيملي عليه كلمات البسملة والشهادة، ثم يطوي ما كتبه في قصاصات ورقية وأشكال مختلفة، مثلثة ومربعة، ثم يغمز له بعينه ويوزعها على نسوة كنَّ قد تحلقن حوله.

ارتسمت على ثغره ابتسامة ماكرة وهو يخرج تلك التميمة من جيبه، وراح ينزع عنها ذلك الغلاف بأصابع مرتعشة، ورقة داخل ورقة داخل أخرى.. وفجأة، وكمن أصابه مسٌّ، جمد الدم في أصابعه وفي باقي أنحاء جسده وتحول إلى تمثال من شمع.

مرّ وقت وهو يتأمل محتوى تلك التميمة الغريبة بنظرات ذاهلة لم تشاهد ما كان يتوقعه من بسملة أو حوقلة أو كلمات غير مفهومة، بل صورة لشاب وسيم، سرعان ما نهض صاحبها أمام عينيه حين لفحته أنفاس حارة خرجت من فتحتي أنف متقلص، ونظرات ملتهبة راحت تزوغ بعيداً: إلى حفل عرسه وهو جالس قبالته ينظر إليه وعروسه بنظرات غريبة، ثم حفل رأس السنة، ومطعم القلعة الكائن خارج المدينة.. وأنىّ توجه ووجد صاحب تلك الصورة كان وجه زوجته في كل مرة من تلك المرات، يتلوّن بحمرة قانية، ويتحول إلى لوحة تنبعث منها نظرات لا أحلى ولا أجمل، كانت تزيده حينها غروراً.

حين رفع رأسه بعد زمن لا يدركه، وقد كساه شعر كثيف، وجدها ماثلة أمام باب الغرفة كتمثال، تنظر إليه، بعينين ميّتتين، وقد تحوّل وجهها الجميل الذي كان ينضح حلاوة، إثر كل استحمام، إلى زجاج نافذة مطلّة على سماء ملبّدة بالغيوم، تصفعه حبيبات عرق بارد راح يتساقط عن جسدها قطرة.. قطرة.

مفاجأة عيد ميلاد

حين تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلاً، وكان الجميع: الآباء الذين وضعوا الهدايا تحت وسائد أطفالهم، والأطفال وهم يحلمون بقدوم بابا نويل ليلاً، قد استسلموا طائعين لسلطان النوم.

لم يتوقّع أحد منهم أن يحدث له ما حدث.

إذ كانت هذه الليلة أيضاً، وللسنة الرابعة، رأس سنة بلا طاولة عامرة بالفاكهة والحلويات، ولا مفرقعات مضيئة تملأ السماء ومسيرات ليلية خلف عربة بابا نويل مزركشة الألوان.

وما أن غرقت المدينة في ظلمة كثيفة، وساد صمت ثقيل، حتى خلت الحواجز من حرّاسها، وراحت أشباح ترتدي أزياء حمراء اللون وخوذا حديدية، تتسلّل إلى البيوت وغرف الأطفال.

في الصباح، وحين سمع الآباء بكاء عصافير المدينة وهي ترتجف على الأسلاك الكهربائية المتشابكة، وشاهدوا الأشجار وهي تتعرّى مما تبقى على أغصانها من أوراق، غادروا بيوتهم على عجل قبل أن تصفعهم الأفواه الصغيرة بأسئلة كبيرة وهي تبكي.

وفي السوق، وبالقرب من الحواجز الأمنية، ارتسمت دهشة كبيرة على وجوه الآباء وهم يشاهدون الهدايا التي كانوا قد جلبوها لأطفالهم؛ ينادي عليها باعة صغار.

علت الدهشة في سماء المدينة وانداحت دوائر حمراء في سماوات مدن أخرى بعيدة.

عار

لو لم يخرج إلى الشارع شاهراً سكيناً تقطر دماً وهو يصيح بهستيرية:

- لقد غسلت عاري..

لكان الأمر غير ذي بال بالنسبة إلى أهل الحي، فقد اعتادوا، وفي كل يوم تقريباً، سماع الصياح ينبعث من داخل دار هذا الرجل: صراخ فتاة وهي تستنجد بكلمات غير مفهومة، ورجل يصيح ويشتم، لينتهي كل ذلك؛ بجلسة سمر أمام باب الدار وقد التف حوله بعض الجيران، تبدأ بسيجارة، ثم بكلمات المواساة بمكافأة الله له وجزائه لرعايته أخته المسكينة، والتي لا ذنب لها في ما أصابها من جنون.

وتدور كؤوس الشاي وتعلو دوائر دخان السجائر ويتشعب الحديث.

كرّر الصياح وهو شاهر سكينه كالمجنون، وانتظر كلمة تشجيع أو مواساة..

طال الزمن واستطال ولم يحدث ما كان ينتظره.

كانت أصوات التفجيرات القريبة هذه المرة، قد مزقت غشاء السماء وأدمت هواءها ، فانفض الجمع من حوله، وهرول بعيداً عنه كقطيع خراف داهمه ذئب، وبقي هو وحيداً كممثل في مسرح مهجور.

لحيتي والمخابرات

امتلكتني رغبة شديدة في إطلاق لحيتي مُذ كنت شاباً، لتتحول رغبتي، وبعد أن تجاوزت الأربعين من العمر، إلى اللحية الصغيرة «السكسوكه» ولكن الخجل، هذا الداء الذي ابتليت به منذ صغري، وحرمني من أشياء كثيرة جميلة، وأساء إليّ كثيراً، حال دون تحقيق هذه الرغبة، وقبل قدوم هذا الربيع، وفي مؤتمر عائلي عُقد خصيصاً لبحث عميلة إطلاق اللحية، وإبداء الآراء بكل شفافية، تخلّله النظر بدقة في المرآة، ومن كل الزوايا، قررت تنفيذ هذه الرغبة، فأطلقتها، طبعاً اللحية، وبعد مرور زمن قصير من هذا التحول الثوري في وجهي، وبينما كنت وأصدقاء لي جالسين في محلّ للسيراميك وسط سوق المدينة، وإذ برجل قصير القامة أسمر الوجه يركن دراجته النارية قرب الدكان، همس صاحب الدكان بخوف:

- أبو عبدو.

فجالت في الوجوه نظرات التوجس والتوتر، اقتحم بعدها أبو عبدو المحل، ومسح بنظرات سريعة الوجوه كلها، وعلى الفور أشعل حديثاً أحال الألسنة التي كانت لزجة ورطبة قبل هنيهة إلى قطع من خشب، دام النقاش المتوجس دقائق مرّت بتثاقل، وفجأة أدار وجهه نحوي وسألني:

- ألم تكن بلا لحية؟!

فأجبت:

- بلى.

قال وقد علا وجهه تعبير غير مريح:

- طيب ما الذي جعلك تطلقها.

قلت مازجاً المزاح بالجد:

- حين كنت شاباً صغيراً انتسبت لحزب يساري ظناً منّي أنني ورفاقي سنغير العالم، ولما فشلنا، توجّهت نحو الساحة الوطنية وبدأت أعمل مع كثير من أقراني على تغيير هذا البلد، ولما فشلنا في هذه أيضاً، توجهت إلى الثقافة لمتابعة فعل التغيير، وهنا أيضاً أصابني الفشل ولم أستطع تغيير أيّ شيء. ومنعاً للإصابة بالإحباط، ومتابعة لفعل التغيير الثوري، أطلقت هذه اللحية لتغيير وجهي على الأقل. فضحك وضحك الحاضرون.

ثم علق بخبث:

- هكذا إذن؟

ومنذئذ، كان أبو عبدو، وكلما صادفني في الشارع، يدير وجهه عني ويزفر بضيق شديد:

- أستغفر الله.

ورغم أنني، ومنذ وقت، مللت من العناية بلحيتي، والوقوف أمام المرآة كعجوز متصابٍ يهدر وقتاً على تشذيبها، إلا أنني، وما أن أقبض على الشفرة، وأهم بحلاقتها، حتى يتراءى لي في المرآة وجه ذلك العنصر الأمني منقبض الأسارير وهو يزفر بحنق، فأبتسم بتشفٍّ لا يخلو من تحدٍّ وأتراجع عما قررته.

ربيع آخر

أحسَّ المعلم بالحيرة وهو يفكر في كيفية تمضية حصة درس الرسم للأطفال، فرسم على السبورة طائراً ثم محاه حين وجده لا يشبه الطائر في شيء، ثم رسم حصاناً ومحاه.. وأخيراً تذكّر ما كان يحدث أيام زمان، حين كان تلميذاً، إذ كان المعلم، وفي كل درس، يطلب منهم رسم الربيع، فينطلق التلاميذ جميعاً، وبلا تردد، في رسم جبل وشمس مشرقة تطل من خلف هذا الجبل، ونهر طويل يهبط منه، وثمة بطة وحيدة تسبح فيه، وإلى جانب النهر بيت صغير على الطراز الغربي وإلى جانبه شجرة، وفي السماء ثمة طيور تحلق عالياً.

وقبل نهاية الحصة، ينهض المعلم عن كرسيه ويتجول بين التلاميذ ليشاهد الربيع المرسوم في دفاترهم، ويرسم عليها بالقلم الأحمر تلك العلامة الغامضة: شوهد.

وضع المعلم الطباشير جانباً وطلب من الأطفال رسم الربيع، ثم استراح على كرسيه ودفن وجهه في دفتر التحضير وراح يملأ صفحة دروس الغد.

في نهاية الحصة الدراسية، وكما كان يحدث في الماضي، لم ينظر المعلم في وجوه أطفاله وما طرأ عليها مذ جلس على كرسيه، ولم ينتبه للصمت الذي ساد في جوّ الصف، على غير العادة، بيد أن دهشة كبيرة ارتسمت على وجهه حين راح يتجول بين المقاعد لمشاهدة الربيع في دفاتر التلاميذ وهو يشاهد رسومات الأطفال: صور جنود وخوذ حديدية ومدافع ومظاهرات وتعذيب ورؤوس مقطوعة ورايات سوداء..

كبرت الدهشة أكثر على وجهه، وغاصت في داخله كسكين، واستمر قلمه ينزف على دفاتر التلاميذ علامة:

شوهد.

القناع والملك العاري

حين وزّع صانع الأقنعة على الجموع المحتشدة في ساحة حفل تتويج الملك أقنعة لوجوه باسمة متهللة، وأفواه محكمة التكميم، صادف أن طلب منه طفل كان قد انسل بين الجموع قناعاً، فقرص صانع الأقنعة وجنة الطفل وقال له ساخراً وهو يبتعد عنه:

- حين تكبر ستحصل على أجمل قناع.

وكالعادة، كاد الأمر يمر بسلام مثل كل سنة، رغم عري الملك هذه المرة، لولا تلك الصيحة التي أطلقها هذا الطفل:

- الملك عار، الملك عار.

في اليوم التالي جمع صانع الأقنعة أطفال المملكة وألصق على وجوههم أقنعة من حديد: باسمة متهللة، ما أن تشاهد صورة الملك حتى تنفرج وتهتف له بفرح.

ومرت السنون، تعرَّت أشجار المملكة خلالها من خضرتها، والطيور من أرياشها وأجنحتها، وكفَّت المياه عن الجريان في الأنهار بصخب، والورود عن التضوع، وظلت الأقنعة التي صدئت تردد الهتاف للملك أنىّ انتصب: صورة يضحك فيها ببلاهة، وتمثالاً يلوح بكفّ كبيرة.. وقاتل.

آب- أغسطس 2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.