قوة‭ ‬الموسيقى قوة‭ ‬الكلمة

الخميس 2015/10/01

مساءً، بُعيد قصفٍ مجنون على دمشق، على إثر قصف جنوني على بلدات وأرياف ومدن سوريا كلها بالبراميل المتفجرة، مضى (إنسان) دمشقيٌّ وصحبه إلى حديقة قريبة متأبطاً كمانَه العزيز‭.‬ وفي الحديقة عزف أمام قلّة من روّاد المكان‭.‬ وسرعان ما ازدادت أعداد النظارة، فمنهم من جلس على المقاعد وحوافّ البحيرات، ومنهم من بقي واقفاً أو متّكئاً، أو مستنداً شجرة‭.‬ لكن ثمة ما كان يترقرق في أعين الجميع‭.‬

هذا (الجميع) هو نحن، جميعاً‭.‬ وهذا الشاب الدمشقي، العازف المغمور، لم يقلْ، لم يكتب، إنما ذكّر نفسه وأصدقاءه وجمهورَه العابر، بأننا/أنكم‭..‬ أحياء، لم تمت دواخلكم، وها هي الموسيقى لا تزال تقول لكم إن حدائق دواخلكم الأبهى لم تزل يانعة، كالحلم بخبز وهواء وحياة‭.‬

هناك الشاعر الذي يقول بلسانه في كل مقام، أن (حيِّ على الإنسان، حيِّ على العقل والجمال والسلام)، وآخر يقول الصمتَ، لأنه ليس من كلام يرقى إلى وقاحة الواقع وفجورِ معادنه‭.‬

هناك الشاعر والكاتب الذي استيقظ وألفى قصيدته بيتاً خراباً، كأيّ بيتٍ مدمَّر في مدينة منكوبة -قصيدة تداعتْ حيطانُها البيضاء وتكسّرتْ نوافذها المشرعة على الحداثة، وتبعثرت أشياؤها تحت ركام روحه وضميره الشاعر، فاكتفى شاعرنا المتمرِّغ باللاّجدوى بأن مسح الغبار عن عينيه، ورأى أن أيّ كتابة تتوخى الشكل والتزويق هي محض ترفٍ، كأن تُلبِسَ جثةً ثيابَ عيدٍ زاهية‭.‬ ففي حضرة الموتِ السهلِ، لا بد أن تعيش بعض قصائدنا بين حطام المدن والأنفس، وبعضها الآخر في مخيمات النزوح وبلدان اللجوء، وأن نسكن قرب الدم والدمع والفقد الكبير‭.‬

بالمقابل، ثمّة الشاعرُ المنقوص أصلاً، المعطوب في وجدانه، رجل الثارات وقارع طبول الانتقام، داعية الموت، الذي ارتدتْ قصيدته الخاكي، ونطقتْ بصوت المدفع ومعدنه -شاعر المؤسسة، الموظف اليوميّ في أعمدة الصحف، الشاعر/الشيء الذي يدسّ في سطور قصيدته مفردات (الحرية والتسامح) المثلَّجتين في الحواف الخفية لنشيد الكراهية‭.‬

في مأساة يتكشّف بها عري الإنسان وزيف المدنية، كالمأساة السورية، على الشاعر الحقِّ أن يدرك أن كلّ ضحية بشرية هي رواية وملحمة شعرية ما كان يجب أن تمزّق صدرَها قطعة معدن رخيص، ولا أن تنسحق تحت جدار،عليه أن يُدرك ذلك ويتطوع في (النشيد الشامل)، نشيد نُصرة إنسان بلده، أو فعليه أن يخرس ويقعي في بلد لجوءٍ ما ليعيش جوهره الحقيقي الخصيّ: آلة أكل وشرب، وقصائد تافهة تتحدث عن العصافير والتنانير في بلده الجديد‭.‬ وبين الفينة والأخرى يلعن الحرب والدكتاتور، ويقترح فلسفة موت جديدة، ثم يغيّر قناة تلفازه ويتمدد على أريكة نيتشه‭.‬

مع مصرع أكثر من مليون رواية سورية، وهجرة ونزوح ولجوء 12 مليوناً‭.‬ في إعاقات أصابت مئات الآلاف، في تهديم ثلثي البلاد، فإنّ الحيادَ هو الخيانة بعينها، وإنّ التحريض على القتل هو القتلُ بعينه‭..‬ وقلبه‭.‬ في هجرة عشرات آلاف الأدمغة السورية، وفي غرف آلاف الفارين في قوارب الموت مع أطفالهم، في تعرّضِ أطفال السوريين ضمن منافيهم للإهانة وحتى الاستغلال الجنسي (حتى الشهر السابع من 2015، تعرض 2300 طفل سوري لذلك في إيطاليا، بحسب الخارجية الإيطالية)، في مجمل هذه اللوحة، يتعين على الشاعر الانفصال عن رجل الحرب والسياسة، والنأي عن التحزّب إلا للإنسانية والسلام، والعودة إلى عائلة الكرامة الحقيقية عبر الكلمة التي تردّ الرصاصة، وتوقظُ ضميرَ قاتلٍ وشيك، فتُعيد لملمة ما انفرط من عقد العائلة الواحدة، تفضح السادية والارتزاق وتدعو إلى إلقاء السلاح قبل أيّ شيء آخر‭.‬

بذلك وحسْب، يُنقَذُ الإنسان، وتحيا الكلمة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.