كأنها بوابة رواية
أزيد الظنُّ أنَّ لوح الطين لم يعد مثلوماً كما أن ولد أول مرة. قد يبدو هذا تعبيراً أحفورياً أو محاولة بائسة لقنص لحظة إدهاش ممكنة. كنت فعلتها من قبل وأرى من العدل ألاّ أثردها وأسلقها ثانية فوق موائدكم التعبانة وصوانيكم الشحيحة. اللغة المركبة تفسد النص وتسحله مكرهاً صوب أرض الصنعة وقد تطمره هناك ملطخاً بشهوانيّة التجريب.
سأكتبُ بعد الآن بلغة شارعية شوارعية صرفة، مستعيراً حياتي الراسخة التي أنجبتْ ولداً حلواً ما زال يضحك، كلما انقلب خزّان الذاكرة على قفاه وتفتّق عن سكراب عتيق.
بعد خمسٍ وعشرين سنة على تلك الواقعة الشائنة، أراني أستعيدها بمرارة وعار، لكن إياكم أن تنطروا منّي اعترافاً مؤجلاً بذنبٍ عظيم. حدث الأمر بغتة كما لكمة زرقاء تحزّم عينك أو تدمغك بعنّة أزلية.
ليلتَها، كان عمري يلعب عند أعتاب منتصف العشرينات. أزيد من خمسٍ وعشرين، وأقلّ من ستٍّ وعشرين. الأفضل أن أكون صادقاً وجاداً في تلك المعلومة، لأن بناء الحكاية سيدور طويلاً حول تلك الليلة. لتكن خمساَ وعشرين سنة إذن.
كانت الحرب قد غادرت عامها الرابع وصارت راشدة وقوية، وعواء مدافعها يقنص الجسد بيسرٍ مبين. أقصد الحرب المطحنة مع إيران. ربما كنت من النوادر الذين فلتوا من الموت وهم بين أضلعهِ وفكوكهِ النابتات الداميات. أنا وحيد أمّي المدلل الذي تسمّيه الجند تفخيماً الفتى الأمّيّ، وكان هذا هو السبب الجوهري الذي منعني من اقتراف غواية الموت في شقوق الأرض الحرام، وجعل السيد المهذب عزرائيل يبكي ويلطم كلما شاف وجهي الخوّاف وربما بعض بللٍ فوق سروال الشرف الكاكيّ. هي ماتت بعد قليل من زمان موت نطيح الهاونات. مرة طلبتُ منها أن ترشَّ طاسة ماء خلف ظهري وسفري إلى شقوق القتل. ضحكتْ بقوة كما لو أنها لم تكن هي التي أتت من شعب مكة إذ طوفتْ مع المطوفين، ورمت مع الرامين، ونحرت مع الذبّاحين وأنشدتْ مع حشود المنشدين المطمئنين الآمنين.
من طعوم السرد المملّ، أتلذّذ اللحظة بحلاوة قرصَتها الخالدة فوق خدي الأملس. سألتني إن كنت أدري سرّ مقتل سعد ابن جارتنا الأرملة أم سعد في أول أمسية عسكر فيها الولد شرق رمل البصرة. قلت اصطاده قناص إيراني بارع. ضحكتْ أمي المبروكة بقوة عشيرة نساء، حتى كادت تنقلب على قفاها. لم تكن بي رغبة للضحك، لكنّني صنعتُ نصف ابتسامة باهتة. بِسْتها فوق جبينها العالي وباستني من حنجرتي الناتئة، في نبوءة نادرة تتصل بموتي مذبوحاً أو مسموماً أو مقهوراً فوق رصيف غريب وموحش.
ثانيةً، عادت أُمي إلى ضحكتها المسموعة حتى سابع جار، وأسرّتني بواقعة مساء مقتل سعد ابن أم سعد. لقد طشّت المجروحة أمهُ، طاسة ماء عملاقة خلف الولد، فأوهمته بأن الموت سيتبوّل على سروالهِ إن شاف سعداً يتمشّى فوق الساتر. سعد يشبهني تماماً وكانت أُمه قد أنزلته من بطنها قبل أن تفرّغني أمي من جوفها الطاهر بساعة. عندما سمّتهُ سعداً، قالت أمي بحسرةٍ ضخمة ساخنة.
لو كنتَ بنتاً لسمّيتك سِعدة. منذ بعض سويعة، أكلتْ أمي ياء سعدية وكسرتْ سينها، وقبل أن يجفّ مخاط فرجها الرطب، صاحت ائتوني بالولد سعدون. في أخير البلبلة الجلجلة ومع صلية متصلة من ” دفعة عليّ ” صرتُ سعدون ابن أم سعدون.
أظنني قلت إنّ سعداً يشبهني تماماً. المسألة شكلية محضة. لم نكن كذلك أبداً. كنت ذكياً وكان غبياً أحمقَ لذلك مات مستعجلاً. أمه كانت شبيهة أمي، تحبهُ وتدلل مشيتهُ. تنوح عليه كلّ الليل وتتناوح وتنعي وتثغب كلّ النهار، حتى صارتْ ملحوناتها المصفوفة على سلّم الوجع، أناشيد وطنية لأغضاض الحارة المتحمّسين وصباياها الفائرات.
سعد مثلي. لم يكن شجاعاً قط. كان أرعنَ وحسب. خشمهُ يسيلُ وهو يبرك فوق العشرين، وكان ممتنّاً لأن حسان الزقاق كنّ يطلقنَ عليه اسم سعد أبو مخطانة.
مرة، رمى سعدٌ وردةً جورية حمراء لواحدة مختالة من تلك البنات، مرصوص لحمُها ناهد صدرها المحمول لصق جيدها من دون حمالات أثداء. انحنت سليمة الحلوة على الوردة والتقطتها وبصقت في قلبها وأطلقتها صوب سعد وصاحت.
امشِ ولّي أبو ظرطة، صاير لي دون جوان، من عمتْ عينك وعين خلقتك الجايفة يا أدبسز.
شوفوا كم هي مدهشة منحوتات اللغة. البنات الحلوات، دفنَ وعجنَّ مخاط الولد الغبي سعد، فصيّرنهُ مخطانة. مرة من مرات عاد سعد منتحباً مدحوراً، وزرع رأسه الصغير في حضن أمه كما لو أنه يريد الولوج ثانية الى قبوهِ المظلم. كان حسن أبو الفلافل قد ضربه على وجهه بطاسة اللبن وقال له: إياك أن تأتي ثانيةً إلى دكاني يا وجهَ النحس يا بومة يا أبو بولة، يا ابن التي لا صلّت ولا صامت، وقد نفر نصف زبائني من منظر خشمك السيّال، شبيه فرج سميرة القوادة مع مضاجعة خاطفة من سبعة شداد، في خان جائف من خانات باب الميدان.
أظنكم لم تسمعوا بخبر حسن أبو الفلافل وبسيرته ومسيرته من قبل. ببساطة هو وحش بقناع آدمي. غليظ قلبه، ولسانه مثل لسان قندرته أم القيطان. تحكي عنه رواة الحارة وشيبانها والعجائز المتهتكات، بأنه كلب ابن سطعش كلب، حطّ حقيبته على غريفة مبنية من صفيح وطين وحجر وخشب وقش وقار، لكنْ مهلاً عليّ فالقصة لم تكن متخيلة أو منزاحة وعبارتها تضيق ورؤياها تتسع. كنت فقط شاهداً ومنصتاً ليلة باغتَ حسن، سعد ابن أم سعد بقاذورات الكلام ومقذوفاته. كان حسن على صواب حين دمغ سعداً بأبي ظرطة. عصريّتها كنت صحبة سعد نشاهد أحد أشهر شرائط البكاء والشجن وكان عنوانهُ الصائح “نحن لا نزرع الشوك “. الفيلم كان من بطولة شادية ومحمود ياسين، وعرض بالأبيض والأسود من على شاشة سينما بابل بشارع السعدون، من أعمال وأطيان بغداد العباسية عند انتصاف سبعينات القرن البائد. كان سعد يظرط كلما اقتربتْ شادية من إنجاز لفظ شين الشمس. كانت فرصة مذهلة للبكاء والتوجع والأنين والحنين، خاصة في مرقاة الوجع الذي تعرّش فوقه شادية البديعة، فتجرح أكباد الناظرين وتدمي قلوب السامعات النائحات المحصّنات بطقطوقة “والله يا زمن”.
والثانية الدامية التي منها تندب كأنها في ثغيب حسينيّ موحش:
” لا لينا أهالي يابه يسألوا علينه
ولا قلب احنيّن واحد في الّلي حوالينه
وبنبكي في قلوبنه يابه ولا دمعة في عنينه يابه”…
ظلّ هذا الشريط الكاسر معروضاً من مشوفة سينما بابل أربعة شهور وكمشة ليلات، وكان الحشد كله يبكي ويتفجّع حتى وصل الحال بعجوز محترمة شيباء، إلى أن تفترش باب السينما وتطيّن رأسها العاري بطين هشّ كانت شالتْه أحذية القادمين السراة المشاة، من مستودعات وجيوب الفقر التي تسوّر العاصمة العباسية وتنام في أحشائها.
سعدٌ هو الآخر كان يبكي ويتلوّع. أنا الرائي النادر الذي لم يبكِ ولم يتحسّر حتى.
جاهدتُ غير مرة ومرة، كي أفرش ذاكرتي الفعّالة فوق وجه شادية لكنني لم أفلح. لقد استولى الرنين المتقطّع الهاب من مؤخرة سعد ابن أُم سعد، على كلّ قحفي وكبّل عاطفتي وختمها بالشمع الأحمر.
لم يفترِ أو يتجنَّ حسن أبو الفلافل أو يظلم إذ قال لسعد: اغرب عن عربتي يا بومة يا خلقة منحوسة. لكنّ حسناً كان نذلاً وساقطاً وابن مشرّد مرّ مصادفة بغريفة أمهِ، حين ذهب إلى توصيف أُم سعد بالزانية. قلت له:
عيب عليك يا حسن، لقد ظلمتَ المرأة وهي ما زالت تحسو جرار ماء زمزم العتيق.
رمى حسن الشرير قالب تصنيع الفلافل والملعقة من يده. هصر جسمي المتضعضع على حائط من طين مقوّى بقش، وطوّح بسكين لمّاعة بوجهي وقال:
إن أعدتها ثانيةً، سأعمل من مؤخرتك الطرية، مرآباً أبدياً لسكّيني العزيزة.
تلك كانت من أقسى ليالي الخزي التي لم أنسها، حتى لحظة خشوعي جاثياً متمتماً موشحاً أدعية، وملوّناً ما تيسّر من قصار السور على باب قبر سعد.
الخارطة الآن صارتْ واضحة ومشعّة مثل عين شمس:
أنا وأُمّي،
سعد وأُمه،
حربٌ هارسة بين العراق وجارته الفارسية الهوى.
سعد جندي ميت – هذا ما مرسوم فوق بياض الذاكرة -
أنا جندي عائش، لكنني مشمورٌ في المواضع البعيدة خلف جند الجبهة.
قبر سعد مزروع في مقبرة باب المعظم برصافة بغداد العباسية.
أنا الآن في عمّان، أُكلكل على عائلة منشطرة فرّخت ستة، أُجرجرها ورائي ببطء سلحفاة.
ظهري صار نصف تقويسة. لم ألتفتْ إلى الخلف أبداً. ثمة إحساس قويّ بمشي طويل.
من أثاث الدكة أيضاً:
حسن أبو الفلافل. سأخبركم تالياً بالمسوّغ الأخلاقي الذي جعلني أقول عنه إنه كلب ابن سطّعش كلب.
العجوز التي طيّنتْ شيلتها السوداء بباب سينما بابل. قيل في رواية شعبية مجروحةٍ، أنها لم تشاهد الفيلم أبداً، لكنها كانت تأتي كلّ يوم جمعة وتقوم بفعل التطيين، لأنّ ابنها الوحيد كان ذهب إلى الأرض الحرام ولم يعد ثانيةً.
أبي الذي لم أجئ على ذكره ورسمهِ حتى الآن.
أبو سعد مثله قبل أن تترمّل أم سعد.
سميرة القوّادة زوجة خالد القوّاد.
فوق القادم من تسويد البياض بحروف القصّ، سينحصر المشهد في واحدة من أعتق حانات ربة عمّون. سأنزرع فيها منتبذاً زاوية عزلاء موحشة. بغتة، يفضّ بكارة عزلتي المشتهاة، كائنٌ بدا كما أبدو. باسني من كلّي راسماً فوق لحيتي ساقية سيّالة من مخاط. كان كمن ولدتهُ أمه قبل أن تلدني أمي بساعة. سألني إن كنت تذكرتهُ فأنكرتْ. قال سأُنعشُ ذاكرتك بهذه القصة حتى تستعيدني. قبلتُ الأمرَ وزرعت كوعي فوق طاولة منزوية، أُنصت بلذة وكفّاي تتحسّسان بقايا لزوجة لحيتي.
تنبيه ملحّ:
قارئ سيئ وأعوج وشرّير، من اعتقد أنّ ذلك الكائن الخرافيّ الذي يقعي الليلة بمواجهتي في حانٍ عمّوني بارد وموحش، هو سعد ابن أم سعد.