كازينو الركن الهادئ
لا أعلَمُ بالضبطِ متى انتبهتُ إلى أنّي أكرَهُ الصخَبَ بكافّةِ أشكالِهِ وأماكنِهِ. صحيحٌ أنّهم يقولونَ: مسألةُ تعوّدٍ، ولكنّي لم أتعوَّدْ؛ أنا إنسانٌ صعبٌ، إذا تغيّرَ عليَّ مكانُ نومي لسفرٍ مثلاً، بقِيتُ أتقلَّبُ في الفِراشِ إلى الصباحِ حاسداً الآخَرينَ وهم يَشخرونَ. أمّي تقولُ: هذهِ حالُكَ منذُ الصِّغَرِ، لقد عذَّبْتَني في نومتِكَ، لم تبقَ وسيلةٌ معَكَ.
أتذكّرُ كيفَ لم أنمْ سبعَ ليالٍ أيّامَ الامتحاناتِ النهائيّةِ في الكليّةِ، إذ تقرّرَ إجراؤُها في مدينةٍ أخرى. كانت غرفُ الفُندُقِ كلُّها محجوزةً، عدا واحدةً تُطلُّ على الشارعِ العامِّ، وهوَ الموقعُ الذي أتحاشاهُ عندَ الحجزِ، فأُرغمتُ عليهِ، سبعَ ليالٍ لم أنمْ، أوشكتُ على الهذيانِ، وأخذتْ منّي العصبيّةُ مأخذَها في حديثي وأفعالي، والصيدليّاتُ لا تصرِفُ حبوبَ الفاليوم إلا بوصفةٍ طبيّةٍ، وفي اليومِ الثامنِ نزلتْ عليَّ رحمةُ (اللهِ)؛ حينَ أُخليَتْ غرفةٌ خلفيّةٌ، فنقلتُ أغراضي إليها، وقبِلتُ بها رغمَ رائحةِ العفونةِ، ونمتُ نومةً لا أنساها ما حَيِيتُ.
نومتي نَحْسَةٌ؛ الساعةُ أنزَعُ بطاريَّتَها لأن عقاربَها مزعجةٌ، والشبابيكُ أُطبقُها حارماً نفسي من نسماتِ الربيعِ العليلةِ، غرفةٌ معزولةٌ صوتيّاً تماماً، لكي ينامَ الملكُ!
حكتْ لنا دكتورة الطِّبِّ النفسيِّ عن ذلكَ الأسيرِ الذي عادَ من إيرانَ، والذي لم ينمْ قطُّ طيلةَ فترةِ أسْرِهِ، فقد عذّبوهُ بطريقةٍ خبيثةٍ، حيثُ حبسوهُ انفراديّاً في زِنزانةٍ يرشَحُ سقفُها بالماءِ قطرةً قطرةً في وعاءٍ من التنك، تك تك تك موسيقى ظلَّ يسمعُها سنواتٍ طويلةً، إلى أن فقدَ عقلَهُ.
كلُّ ما أحتاجُهُ في حياتي: بيتٌ هادئٌ، زوجةٌ هادئةٌ، عملٌ هادئٌ، وموتٌ هادئٌ. لقد عثَرتُ على المكانِ، كازينو الرُّكنِ الهادئِ، قلتُ مع نفسي إنَّ رُوَّادَها سيكونونَ هادئينَ، بحُكمِ عاملِ الوِجهةِ المُشتَرَكِ. وإذا سمحتُم لي أيُّها الهادئونَ، سأتكلَّمُ نيابةً عنكم وأقولُ: إنّنا نحبُّ الاختلاءَ معَ نفوسِنا، لأنّ رؤوسَنا مملوءةٌ بالضجيجِ، ونريدُ أن نفصِلَ بينَ ضجيجِ العالَمِ الخارجيِّ وضجيجِ عوالمِنا الباطنيّةِ؛ فيُتاحَ للكاتبِ أن يرتِّبَ أفكارَهُ، والقارئِ أن يستمتعَ بقراءتِهِ، والمتأمِّلِ أن يصلَ.
ثَمَّة صفٌّ طويلٌ من الكازينوهات على النهرِ، و(الركنُ الهادئُ) هيَ الأولى في هذا الصفِّ؛ أي تقعُ في رأسِ الخيطِ، مقاعدُها خشبيّةٌ طُليَتْ حديثاً بالأبيضِ، ولا تعدَمُ أن تجدَ مِسماراً أعوجَ يُمزِّقُ سِروالَكَ، وأشجارُها أكبرُ عُمراً مني ومنكم ومن الكازينو نفسِها.
قبلَ عقودٍ، كانَ الماءُ أعلى. لا أدري كيفَ أصدروا إجازاتِ بناءٍ لقاعاتِ الأعراسِ؛ حوضُ النهرِ ممنوعٌ البناءُ فيهِ.
قالَ أبي بحسرةٍ.
بين فينةٍ وأخرى أعودُ إلى ألبوم الصورِ، ذكرياتٌ جميلةٌ، ها نحنُ في هذهِ الصورةِ نتناولُ الفَطورَ، كانت الألوانُ برّاقةً أكثرَ، واليومَ أعودُ وحيداً إلى المكانِ نفسِهِ.
بينَ الشايِ ونُومي البصرةِ، قضيتُ نهاراتٍ ولياليَ في (الركنِ الهادئِ). وفي يومٍ ربيعيٍّ جميلٍ، كانَ منسوبُ المياهِ مُرتفِعاً بشكلٍ ملحوظٍ، فهم يفتحونَ بوّاباتِ السدِّ في موسمِ ذَوَبانِ الثلوجِ، ومعَ اقترابِ موعدِ الغداءِ، بدأت العوائلُ تتوافَدُ، ووُضِعَ حِزامٌ مطاطيٌّ أحمرُ لتحديدِ مِساحةِ السباحةِ.
جالساً في مقعدي المفضَّلِ، الوجوهُ ضاحكةٌ مُستبشِرةٌ، الشمسُ تحقُنُني بفيتامين دال، الحفّاراتُ على جزيرةٍ صُغرى أمامَ الكازينو تأخذُ استراحتَها، أقرأُ لمارسيل بروست، وبعدَ كلِّ قصّةٍ أو مقالةٍ أُردِّدُ: اللعنة، كم أنا كاتبٌ فاشلٌ! بروست طافحٌ بالحياةِ، يكتبُ ما يعيشُهُ، لا خيالَ بلا حدثٍ مَعيشٍ. وأنا عبارتي باردةٌ، جُثّةٌ، حتّى الجثةُ ساخنةٌ أوّلَ الموتِ ثُمَّ تبرُدُ، عبارتي جثةٌ مُحنَّطةٌ. الأمرُ أشبهُ ببيتٍ دافئٍ في مسلسلٍ ما، يشدُّكَ حدَّ الهَوَسِ، فتشرَعُ بالبحثِ عنهُ، تسألُ الدلّالينَ ومكاتبَ العَقَاراتِ، وتُراسلُ الشركةَ المُنتجةَ، إلى أن تظفَرَ بهِ، وما إن تُدر المِفتاحَ وتَدلِفْ حتى تكونَ بينَ جدرانٍ خرساءَ، وغُرَفٍ مُوحشة. يجبُ أن يُضيفوا في كتابِ العلومِ أنّ الناسَ همُ الحياةُ.
وبينما أنا في تأمّلاتي، إذا بصراخٍ عظيمٍ، امرأةٌ تلطِمُ وتصرُخُ: طفي يغرَقُ يا ناس، طفلي يغرَقُ.. رغم أنَّ الاستغاثةَ بالكلِّ، لا أعرِفُ لماذا شعرتُ أنّها لي بالذاتِ، ثُمَّ إنّ أيَّ رجلٍ يَهُمُّ بالنزولِ إلى النهرِ، تجرُّهُ زوجتُهُ مُتوسِّلةً: عندَكَ أطفالٌ أولى بكَ. عُمّالُ الكازينو تنصّلُوا: النهرُ غدّارٌ، النهرُ غدّارٌ. وهكذا وجدتُني ضارباً كفّاً بكفٍّ، أُصارعُ التيّارَ، وأعطي فرصةً لتأكيدِ وجودي. حقّاً لا نعرِفُ كم أنّا أقوياءُ حتّى نجرِّبَ. اندهشتُ من قوّةِ عضلاتي، وسَعَة رئتيَّ تحتَ الماءِ، وفي أمواجٍ من التصفيقِ والمدحِ بالشهامةِ، كانَ الطفلُ في أحضانِ أمِّهِ.
شكراً للنهرِ الذي أعطاني فرصةَ الخروجِ من علبةِ الهدوءِ إلى مِهَنٍ أخرى؛ سُقتُ سيّارةَ إسعافٍ، حملتُ خراطيمَ الإطفاءِ، رفعتُ بندقيّةً في الخطِّ الأولِ، نقّبتُ في المناجمِ، روّضتُ الأسودَ، وغيرُها من مهنٍ تجعلُ الأدرينالين لا يتنزّلُ من قمّةِ الهرمِ. هجرتُ الكِتابةَ في محاولةٍ مني للانخراطِ في حياةِ عَوَامِّ الناسِ؛ أكلٌ، شربٌ، جِنسٌ، وظيفةٌ أوليّةٌ، وظيفةٌ ثانويّةٌ، عملٌ صباحَ مساءَ، نقودٌ، لهوٌ، ملذّاتٌ.. ثُمَّ ماذا؟ ببساطةٍ لم أتأقلمْ! لم أستطعْ أن أصيرَ مثلَ الآخرينَ. شيءٌ ناقصٌ في روحي، جزءٌ مسروقٌ من لوحةٍ لا تَسدُّ مكانَهُ أيّةُ قطعةٍ.
الشيخُ قالَ: إنّها مسألةُ إيمانٍ، وعليكَ أن تؤمنَ أنّ الكِتابةِ قدرُكَ. والطبيبُ النفسيُّ قالَ: القلقُ دودةٌ تتكاثَرُ عندما تجدُ بيئةً خِصبةً لها، وهذهِ البيئةُ هيَ القلبُ والعقلُ معاً، أمّا من أينَ جاءت تلكَ الدودةُ فهذا ما يكتشفُهُ العلمُ يوماً بعدَ يومٍ؛ من العقاقيرِ، الحروبِ، النشأةِ الأولى، ومعَ الأسفِ هنالكَ مكانٌ لا نستطيعُ أن نهدِمَهُ، هوَ الوِراثةُ. قالَ الطبيبُ بتحذلُقٍ وأضافَ: فإذا أردتَ يا بُنيَّ أن تعرِفَ مصدرَ قلقِكَ، فابحثْ في شجرةِ عائلتِكَ.
أمّي التي تكرهُ عمّتي قالت: كلبُ عمّتِكَ نبحَ عليكَ لمّا كنتَ في الخامسةِ، وعمّتي التي تكرَهُ أمي قالت: أمُّكَ كانت تستمعُ للموسيقى الصاخبةِ وأنتَ جنينٌ في بطنِها. أبي حمّلَ أخوالي المسؤوليةَ، وأخوالي حمّلوا أعمامي المسؤوليّةَ، جدّايَ وجدّتايَ بينَ ميّتينِ ومُصابينِ بالزهايمر، إذن لا أحد في هذهِ الشجرةِ المُباركةِ يعترفُ بأنّهُ الغصنُ العَفِنُ!
هم يتفاخرونَ ويتباهونَ حينَ نرِثُ ألوانَ عيونِهم، وأشكالَ وجوهِهم، وأطوالَ قاماتِهم، وجيناتِ ذكائِهم، ولكن لا أحد، لا أحد مُطلقاً يتجرَّأُ ويقولُ: أنا أورثْتُكَ القلقَ والخوفَ.