كشري.. قصص عربية ومالطية بالإيطالية
هذه أنطولوجيا فريدة ستصدر قريباً بالإيطالية وتحتوي على قصص تحكي عن العلاقات بين الوالدين والأبناء أو بين الأجداد والأحفاد. وقد زودنا المشرف على الأنطولوجيا وهو مستعرب وأكاديمي إيطالي ضليع بالأدب العربي بالمقدمة التي وضعها لها، وتكشف عن عمل جمع بين نصوص سردية عربية ونصوص مماثلة كتبت بالمالطية.
ألدو نيكوسيا
نادرًا ما يجري نشر أعمال مماثلة، تجمع أدبا من العالم العربي ومالطا، على أساس محور موحد. “كشري” كتاب سيصدر بالإيطالية قريبا يجمع سبع عشرة قصة عربية (مترجمة للمرة الأولى إلى لغة أجنبية، باستثناء واحدة) وأربع مالطية. ثلاث منها سبق لها أن صدرت بعدة لغات أوروبية.
تمت ترجمة جميع القصص القصيرة العربية في الأنطولوجيا، باستثناء قصتين، من الأصل مباشرة، من قبل ثمانية من طلابي السابقين المنخرطين في قسم دراسات اللغة العربية وآدابها بجامعتي باري وكاتانيا في إيطاليا. شكلت الغالبية العظمى منها جزءًا لا يتجزأ من الرسائل لنيل الدرجة الأولى في شهادة اللغة العربية وآدابها. اقترح محرر الأنطولوجيا، الذي كان مدرسًا مشرفاً على أعمال الطلاب المترجمين، أن تضاف قصص قصيرة أخرى، شريطة أن تكون مناسبة لمحوري الأنطولوجيا. لسوء الحظ، تبين أن هذا البحث لم يكن سهلاً، لذا ففي آخر لحظة التجأنا إلى رواية سورية بدلا من قصة. تمت ترجمة الفصل الأول منها من قبل المحرر الذي رأى فيه الخصائص البنائية التي قد تجعله قائما بذاته.
كان أحد الشروط الأساسية لاختيار القصص، إضافة الى الثيمة الرئيسية، كونها غير مترجمة من قبل إلى أيّ لغة، يعني جديدة على الإطلاق للقارئ غير العربي. الاستثناء الوحيد له مبرره وهو أن القصة كانت تبدو في نظر المحرر مثيرة للاهتمام من حيث نوعية العلاقة بين الجدة والحفيدة، علاوة على أنها تساهم في سد الفجوة الكمية بين المساهمات القادمة من المغرب العربي وتلك من المشرق فهي قصة كتبتها قاصة مغربية (نُشرت باللغة الفرنسية).
لماذا أنطولوجيا قصص مترجمة من طرف طلاب جامعيين سابقين؟
الهدف من ذلك هو إبراز الجهود المبذولة لإعداد الرسالة النهائية الجامعية. بعد اختيار القصص القصيرة وطرح الاقتراح للنشر للخريجين الجدد، دعاهم المحرر لإجراء مراجعة إضافية للترجمة. في بعض الأحيان تمت مناقشة بعض الخيارات الترجمية. علاوة على ذلك، بعد تلقي مسودة الأنطولوجيا، ساهم جميع المترجمين، بدرجات متفاوتة، بتعليقاتهم وملاحظاتهم، في تحسين أسلوب النصوص. كل واحد منهم يبقى المسؤول الوحيد عن عمله.
موضوع الأجيال
لماذا تم اختيار موضوع العلاقات بين الآباء والأبناء (المراهقين و/ أو الأطفال) أو بين الأجداد والأحفاد؟
السبب الرئيسي هو صدفة بحتة. عند إعادة قراءة الرسائل النهائية المكدسة على رفوف مكتبنا الجامعي، لاحظ منسق الأنطولوجيا أن العديد منها متعلق بقصص وتحليلها النصي حول ثيماتنا.
لماذا تمت إضافة القصص المالطية إلى العربية؟
اللغة المالطية، لديها نقاط اتصال متعددة مع الإيطالية، خاصة من وجهة نظر معجمية وبدرجة أكبر مع اللغة العربية، ولاسيما مع الدارجة التونسية. على الرغم من كمية المواد الإبداعية المالطية وجودتها الفائقة، من قصائد، قصص قصيرة، روايات ومسرحيات فهي لا تزال مهمشة في سوق النشر الإيطالي.
اختيار إدراج هذه القصص الأربع يفيدنا في إظهار كيفية معالجة موضوع الكتاب في مجتمع قريب ثقافيًا وتاريخيًا من المجتمع الإيطالي، أيضا في لغة قريبة وبعيدة في نفس الوقت. بالإضافة إلى محاور الأبوة/الأمومة/الأجداد والجدات، هناك معايير أخرى أكثر موضوعية استرشدنا بها في عملية اختيار القصص العربية.
أولاً: تقديم أعمال لكتاب من نفس الجيل، وهو جيل السبعينات من القرن الماضي باستثناء اثنين فقط (واحد من الستينات والآخر من الخمسينات وهو الكاتب الراحل محمد عبدالرحمن المر الذي توفي عام 2017).
ثانيًا: تعدد أصول الأدباء (المغرب، تونس، مصر، السودان، سوريا، العراق، الإمارات، فلسطين، الأردن، مقيمين في الخليج)، إلا أن جنسياتهم يجب أن تعتبر عنصرا جانبيا لأن كل كاتب يمثل نفسه أولا وليس البلد الذي ينتمي إليه، ويمكن أحيانًا استخدام إطار الزمكان الغامض أو المحدد بوضوح، لرسم أو تحديد الخطوط العريضة لعالم حميمي أو مجتمع معين، للتعريف بالقيم والتوجهات الخاصة بشخصية ما، والتي لا تمثل بالضرورة المجتمع الذي يعيش فيه.
ومع ذلك، هناك عنصر مشترك وهو أن معظم القصص العربية نشرت في العقد الثاني من هذا القرن (وأحيانًا الأول) فذلك يسمح لنا بإجراء مقارنات متطابقة، ولكنها عامة. يمكن أن تكون للقصص أيضًا قيمة وثائقية اجتماعية، فضلاً عن كونها أعمالا فنية في حد ذاتها: في “كشري” هذا ينطبق بشكل خاص على تونس في ثورة 2011 والتوجهات الأصولية بعدها، السودان وعراق صدام حسين. وقد تأثرت معالجة الخلفية الاجتماعية والسياسية لبعض القصص القصيرة بالمواقف الشخصية وآراء المؤلفين أنفسهم.
الاستثناء الوحيد يتمثل في قصتين لمحمد عبدالرحمن المر، المذكور فهما تعودان الى القرن الماضي، ويجب اعتبارهما تكريمًا خاصًا لهذا المثقف المصري الشجاع الذي تعرض للاضطهاد السياسي في عصر أنور السادات.
أما بالنسبة إلى الأدب المالطي، فإن قصة واحدة فقط تعود إلى نهاية القرن الماضي، والواقع أنها الفصل الأول لرواية لأعظم روائي في الجزر المالطية، أوليفر فريجيري (1947 – 2020)، الذي وافته المنية مؤخرًا. تم نشر القصص الثلاث الأخرى في نهاية العقد الأول من هذا القرن.
بعض المؤلفين العرب المندرجين في الأنطولوجيا تمتعت أعمال أخرى لهم ببعض الترجمات الإيطالية، وهم معروفون في بلدانهم الأصلية وفي الخارج على حد سواء، بينما لا يزال آخرون يشقون طريقهم إلى عالم الأدب. ومع ذلك، وبغض النظر عن جميع المعايير المذكورة أعلاه، فإن القرار النهائي بإدراج قصة أو عدم تضمينها تأثر أيضًا بالذوق الشخصي للمحرر.
اخترنا تعبير ” كشري” كعنوان للأنطولوجيا؟ أولا لأن كلمة كشري تدل على عنوان لإحدى قصصها “كشري مصر” لحسن كمال وهو بدوره عنوان لمجموعة قصصية لنفس الكاتب المصري. لا ننفي مجازية العنوان حيث أن هذه المجموعة تضم 15 كاتبًا وكاتبة من مختلف البلدان العربية ومن مالطا ونطمح إلى خلق سمفونية الأذواق والروائح القادمة من الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط وأيضًا محاولة لتعريف العالم العربي والأرخبيل المالطي للقارئ الايطالي من خلال فن الحكي.
ملاحظات نقدية
تقدم القصص أو المقاطع من الروايات الموجودة في “كشري” رؤى مثيرة للاهتمام حول الديناميكيات التي تشكل بعض العلاقات الأسرية الحميمة، في العالم العربي وفي مالطا: بين الأجيال، من ناحية، بين الآباء والأبناء سواء أكانوا أطفالا أم مراهقين، وفي والوضعيات الممكنة (الأب مع الابن أو البنت، والأم مع الابن أو البنت)، ومن ناحية ثانية العلاقات بين الأحفاد والأجداد. التسلسل الذي يتم فيه تقديم قصص الكتاب ليس عشوائيًا بل يستجيب لمعيار موضوعي سنحاول كشفه لاحقا.
تختلف من قصة إلى أخرى أصوات الراوي في قصص الأنطولوجيا إلا أن في معظمها نلاحظ تفضيل وجهة نظر الأبناء على حساب الآباء والأجداد. وفي هذا السياق هناك عنصر موضوعي يلعب دورا كبيرا وهو عمر الأبطال والبطلات من الأبناء والأحفاد. في بعض الأحيان القصص تقدم أبطالًا مراهقين يبحثون عن نماذج يحتذون بها لتكوين هوياتهم، وأحيانًا اخرى هناك أطفال لم يطوروا وعيًا بأنفسهم وبالعالم المحيط بهم. غالبًا ما تبدو وجهات نظرهم تلقائية، وقادرة على إثارة تعاطف القارئ، بالإضافة إلى إعفاء الكاتب من نبرة تقريرية قد تثقل النص.
الآباء والأبناء
كانت العلاقات بين الأب والابن من أهم المواضيع التي يتناولها الأدب العربي المعاصر، وتتأرجح عادةً بين قطبي الحب والكراهية، القرب والبعد، الصداقة والعداء، الوئام والصراع.. إلخ.
تعقيد هذا النوع من العلاقات بكل ما فيها من إشكاليات وتطورات، لا يتناسب وقصر القصص، بالمقارنة مع طول الرواية، علاوة على ذلك، يجب القول إن العالم العربي ليس كتلة واحدة، بل على العكس، كل قصة تقدر على خلق عالم متميز، وديناميكياتها الخاصة بالواقع المحلي.
كما أنها تساعد على التأمل في مختلف العلاقات الأسرية العربية، من قطب إلى قطب، انطلاقا من الأسرة التقليدية التي تقدم نموذجا لعلاقات رأسية (يطيع الطفل أوامر والده، دون مفاوضات)، وصولا إلى مجتمعات تتميز بقيم تربوية مختلفة تماما.
لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه في القصص المختارة هنا، غالبًا ما يتمكن الابن من إسكات صوت الأب، وبالتالي دوافع سلوكياته.
في القصة “أديب” للمؤلفة العراقية في المهجر ياسمين صباح حنوش، على خلفية الحرب بين العراق وإيران (1980 – 1988)، صبي في الخامسة من عمره، بسبب نوع من العقدة الأوديبية، يشعر بالغيرة تجاه الأب الجندي، الذي يقوم من وقت إلى آخر بزيارات قصيرة إلى المنزل، فبمجرد مقارنة حجم عضوه الجنسي مع عضو والده، يدرك أنه لا يستطيع التغلب عليه. في روضة الأطفال يخضع لشعارات القومية الباطلة والاستشهاد في الحرب. بحكم غيرته نحو أصحابه الصغار الذين تتم مكافأتهم بفضل استشهاد آبائهم على جبهة القتال، يعبر عن رغبة مماثلة، لضرب عصفورين بحجر واحد.
هنا تنصهر صورة الأب كقائد الأمة، صدام حسين، وصورة الأب المنافس على حب الأم فانصهار المستويين الخصوصي والقومي يتوظف لاستنكار النموذج السلطوي الذي لا يزال قائما في العالم العربي.
في الأسرة التقليدية يسود نظام تربوي يسعى لقمع تعبير المشاعر المباشرة بين الأب والابن. في القصة “وفاة” للكاتب الفلسطيني المقيم في الخليج عمر خليفة العلاقة بين الراوي ووالده مبنية على الصمت، بدلاً من الحوار المفتوح. الخوف من موت الأب في غيابه، حيث أن الراوي الذي يدرس في نيويورك، يتحول تفكيره بوالده إلى هوس وعذاب مستمرين، لدرجة أن تصوره لموت الأب، خلال زيارته إلى أهله قد يؤدي إلى حل غير متوقع.
لا شك أن العلاقة بين الأب وابنه محورية في تكوين الشخصية الأساسية للمراهق. في القصة “النوم عند قدمي الجبل”، للسوداني حمور زيادة، يتم تقليب هذه القاعدة فالقارئ يتبع حياة شاب سيموت يوم يكمل عامه العشرين حسب نبوءة يصدقها الجميع بمن فيهم الشاب نفسه.
هنا يتقلص دور الأب شيئا فشيئا، حتى أن شخصية أخرى تستبدله فيصير معلمًا حقيقيًا لمتع الدنيا، ويجعله يرسم في مخيلته عالما أكثر جمالًا وإثارة من عالم ضيق الآفاق (البيت والمسجد ودورات حفظ القرآن) لعالم دنيوي مختلف اختلاف الليل والنهار. المسافة ليست طويلة.
تعتبر هذه القصة انتقادا لاذعا ضد مجتمع محبوس بقيود التقاليد والخرافات. اقتبس من القصة فيلم نال إعجاب الجمهور والنقد بعنوان “ستموت في العشرين”، 2019) للمخرج السوداني أمجد أبوالعلاء.
في العقود الأخيرة، لا سيما في أوساط مدينية، عجز الأب عن تقديم قدوة للجيل الجديد داخل نظام أسري لم يعد أبويًا، يفسح المجال لنماذج جديدة. بعد ثورة 2011 شهدت تونس تغيرات جذرية في نسيجها الاجتماعي، صاحبتها موجات من التطرف الإسلامي وتدخل من قبل وسائل الإعلام الجديدة (الإنترنت)، وتقلبات في القيم والأدوار والعلاقات الأسرية.
تسلط قصة شكري المبخوت “النهضة أشد من القتل” الضوء على مخاوف مراهق ينتمي إلى الطبقة الوسطى ينوي التعبير عن شخصيته، كما في القصة السودانية، بالاتكال على شخصية أخرى غير والده. فيقرر التخلي عن دراسته للالتحاق بحركة إسلامية متطرفة، وبالتالي ينشأ صراع حاد مع عائلته التي ربته على القيم العلمانية الحديثة.
خلافا لمعظم القصص القارئ هنا لا يعرف خلفيات فكر الشاب بل وجهة نظر الوالدين، ويقتصر الكاتب على وضع إصبع الاتهام نحو نموذج تربوي مدهون بالحداثة، وعجز رب البيت عن فهم تطلعات زوجته.
في “ماجد ورحلته العجيبة” للمذكور محمد عبدالرحمن المر يقدم لنا جوهرة أدب للأطفال، تلميذ مجتهد في المدرسة يصاب بخيبة أمل من والد لا يوفر له أي هدية تكريما لنجاحه، فينطلق إلى عالم سحري للبحث عن والد جديد، ليدرك في النهاية قيمة المودة الأبوية، مقارنة بالمال.
في هذه المجموعة تتوفر حكايات الصغيرات اللائي يعتبرن آباءهن مثاليين. فقصة “جنيه بابا” لمحمد عبدالرحمن المر نفسه، هي وصف شاعري موجز ودقيق لمشوار تلميذة للمدرسة على خلفية جو من الاضطهاد السياسي، في مكان وزمان غير محددين. في الفقرات التي يستعمل فيها أسلوب بسيط جدا قد يشعر القارئ أن القصة من تأليف الطفلة الصغيرة ذاتها خصوصًا حينما تشهد مشهد اعتقال أبيها من دون أن تفهم السبب. الشيء الذي يمثل تبادل المودة بين الأب وابنته هو ورقة جنيه التي كانت قد استلمتها من أبيها. وأخيرًا تقرر ادخارها من أجله لعلها تفيده في فترات السفر إثر زيارة الجنود إلى بيتها وبقائه في السجن.
في مصر أيضا، تقدم لنا “كشري مصر” لحسن كمال قصة بسيطة ومؤثرة، يرويها راو داخلي يراقب باهتمام وحذر مشهدًا قد يبدو عاديا يمثل أباً وابنة صغيرة وكأس كشري، خلال مشوار ميكروباص وصولاً الى آخر محطة.
في جو يسوده الحنان العارم الممزوج بهموم الفقر والصعوبات الاقتصادية اليومية، يتابع القارئ حكاية قد تبدو هادئة بلا مفاجآت إلى أن تصل ذروة أزمتها. فعندئذ الراوي يدخل مسرح المشهد لينجو الأب من موقف محرج للغاية.
الأمهات والأبناء
العلاقات مع الأب التي تتميز بالجفاف العاطفي يتم تعويضها بالعلاقات مع الأم وتعتبر واحة من الهدوء والوئام. القصة المشار إليها من قبل “النوم عند قدمي الجبل” تثير اهتمامنا هنا أيضًا لفهم تأثيرات الروابط بين علاقات الحصرية مع الأم كأن الحبل السري مع الابن لم يقطع بعد.
منذ أن تلقى النبوءة المشؤومة عن الموت عند بلوغه عامه العشرين، تخامر أبطال القصة حالة من القلق، فيسود جو عام من الحزن شيئا فشيئا فيترجم إلى سيطرة شخصية والدته على حياته مما يشل حركاته وشبابه حتى لحظة التمرد النهائي.
في قصة أخرى، “النهضة أشد من القتل ” لشكري المبخوت يعامل البطل المراهق الذي اعتنق فكر جماعة متطرفة دينيا والدته بطريقة فظة فيدعوها إلى لبس الحجاب.
العلاقة بين الأم وابنتها هي العلاقة الأنثوية الأكثر حميمية، وذلك يتبين بوضوح من خلال القصة “بنت العبارة” لياسمين صباح حنّوش سالفة الذكر. تدور أحداثها في فترة ما بعد تحرير شمال العراق من داعش عام 2017، وهي مستوحاة من حادث وقع في آذار/مارس 2019: غرق عبارة في نهر دجلة بالقرب من الموصل.
بواسطة الفلاش باك، يتشابك الخط الرئيسي بحدثين آخرين تأثرت بهما البنت البطلة على نفس الدرجة من الدراماتيكية: زواجها المرتب من قبل منظمة داعش، والتعرض لانفجار عنيف داخل مسجد في الموصل.
في تونس، على خلفية ما بعد 2011 وتداعيات تصاعد الأصولية الدينية، تدور أحداث القصة “نور الفرقان ” لشكري المبخوت. فجأة طفلة لم تعد تميز ملامح وجه الأشخاص ليس بسبب مرض بصري بل بتأثير النظام التعليمي المتبع في روضة أطفال تحمل اسما ساخرا في نظر الكاتب.
في “اسمي أفروديت”، وهي أصلا الفصل الأول من رواية “بائعة الكلمات” الكاتبة السورية ريما راعي، بأسلوب مفعم بروح الدعابة تقدم شريحة من الحياة الريفية في فترة غير محددة بعد استقلال البلاد، تتخللها ذكريات الأحداث التي تعود إلى زمن الانتداب الفرنسي. تروي أفروديت، بطلة الرواية، التقلبات التي دفعت والدتها إلى اختيار هذا الاسم لها، وتداعيات هذا الاسم اللعين على حياتها اليومية. القصة تقدم لوحة واقعية لثلاثة أجيال من النساء يوحدهن خضوعهن للنظام الأبوي من ناحية والاستعمار الفرنسي من ناحية أخرى. في نهاية المطاف يتضح أن الأمل الوحيد في الخلاص من أي شكل من أشكال الاستعباد، ومن الواجبات المنزلية، هو التعليم.
الأب والأبناء في الأدب المالطي
من الطبيعي أن الحياة الأسرية نسيج لعلاقات على عدة مستويات: إضافة الى العلاقات بين الوالدين والأبناء هناك، العلاقات بين الزوجين، والعلاقات بين الأشقاء. المختارات التي تمت من الأدب المالطي تصور كل هذه الديناميكيات الأسرية المعقدة. في قصة “راسي جوا في الماء” تقدم كلير أتزوباردي، عن طريق راو عليم بكل شيء، شابا صرف من الخدمة في الجيش، يجد نفسه في مهب تلك العواصف الموصوفة أعلاه. انفصل والداه لأن والده تاجر مخدرات عنيف، أخته الصغرى منطوية على نفسها، فيشعر بواجب الدفاع عنها وعن والدته ضد اتهامات والدها المفترية.
اخترنا مقطعين من هذه القصة لأنها تتناول الموضوع الرئيسي بشكل عميق. المقطع الأول يفيدنا في رسم صورة شخصية الأب وانتهازيته، بينما الثاني الخاتم للقصة يحدث في غرفة مستشفى، حيث يزور البطل والده الذي يعاني من مرض السرطان. يتحول حوارهما إلى إطلاق اتهامات متبادلة يكشف عن مدى ضعف التواصل بين الوالد وابنه في مجتمع معاصر يتميز بالتفكك العائلي.
التفكك نفسه يذكرنا بما نشهده في قصة “مركز الشرطة” لأدريان غريما، ومما يزيد الطين بلة تغافل المسؤولين عن الدفاع عن الأسرة، المتمثل هنا في مؤسسة الشرطة. للمرة الألف يطرد أب عنيف زوجته وابنتيه اللواتي يتقدمن بشكاوى متكررة ضده إلى مركز الشرطة. الأم تكاد تعجز عن الكلام من شدة الخوف والعار. شبح الرجل يحوم حول منزلهن والحي. الكاتب يصف هذا الجو الكابوسي على خلفية مباراة كرة القدم يتحمس لها ضباط مركز للشرطة. نحن أمام وصف بلا مجاملة أو شاعرية مزيفة لمجتمع لا يزال يتأثر بنموذج الرجولة المهيمنة واستقطاب ردود أفعال المجتمع من ناحية، هناك اللامبالاة بسبب الخوف من الآخر، ومن ناحية أخرى التطفل المهووس من طرف الجيران.
الأجداد والأحفاد في الأدبين العربي والمالطي
القصص التي تعالج العلاقات بين الأجداد والأحفاد نادرة بالمقارنة مع العدد الكبير من المؤلفات التي تتناول العلاقات بين الأبوين والأبناء. علاوة على ذلك، في تلك القصص، بدلا من الصراع الحاد بينهم، غالبًا ما تتسم بنضارة تستحضر طفولة دائمة وتبادل مرح بين الأجيال.
في وسط ” ضفدعة الحمام”، لحسن كمال ينبثق عالم أبراج حمام القاهرة، والتفاعل بين الناس والطيور يتخذ دلالات عميقة. هنا يعد حضور الأجداد أمرًا مهمًا للغاية: بطل الرواية هو طفل فقد والده الذي ضحى بنفسه دفاعًا عن جاره، خلال محاولة سرقة لصيدلية. عندما يكتشف أن جده هو الذي يقطع ريش أجنحة الطيور يصاب الحفيد بخيبة أمل، ولكن على الرغم من فورة الغضب العفوية والمشروعة، يؤكد “لم أكره جدي أبدًا… لقد أحببته لأنه هو جد وأب في نفس الوقت”.
جو متشابه من الحنين إلى الماضي، ولكن من دون خلافات حادة، يغمر قصة “فستان وردي في جنازة جدتي” لمريم الساعدي. هي عبارة عن منولوج طويل أو بالأحرى عن حوار متخيل بين الراوية وجدتها التي ماتت للتو في سرير المستشفى. الذكريات حول جدتها، والتأملات في حسها الفكاهي والساخر، تجعلها شخصية أسطورية تؤثر بشكل إيجابي على الراوية، لدرجة تدفعها إلى اتخاذ قرار غير متوقع في النهاية.
حول الدور المحتمل للأجداد في المجتمع الذي يتفاعل فيه الأجداد والأجيال الجديدة، تدور قصة “جدي الذي في الزاوية” للمؤلفة نفسها: الاعتناء بالجد يعتبر جسرًا إلى الجنة، بالنسبة إلى الأقارب الذين لا يستمعون إليه ولا يسمحون له بأن يقوم بأي دور، فهو يقرر التمرد ضد هذه الاعتناء الشكلي، مفضلاً البقاء بمفرده بدلاً من أن يكون في صحبة عائلته التي لا تعطيه أي فرصة لتعبير عن نفسه.
الحرمان من وظيفة الأجداد كناقلي الذكريات والموروث الثقافي التي من شأنها أن تساهم في تعزيز الوعي بهوية، يمكن أن يكون انتقاداً ضمنياً للأجيال الجديدة من هؤلاء الخليجيين، الذين ينفرون من التفكير في جذورهم.
لكن عندما يحافظ الجد على هذه الوظيفة الحاسمة أحيانًا تنشأ خلافات مع الأحفاد: في “بطرس، وجه مظلم وبعيد” للمصرية منصورة عزالدين، الراوية تحكي قصة شاب غرق في النهر، ويصبح شبحه في القرية مادة لتخويف الأطفال بواسطة الحكايات المتنوعة عنه،. الراوية تغضب وتلوم جده على أنه يستبعدها من كونها بطلة قصصه.
في “برج الحمام “، لمنصورة عزالدين نفسها، نحن بإزاء جدة تروي للأطفال قصصا عن أساطير معروفة وكما في القصة السابقة، الراوية تريد أن تأخذ صولجان شهرزاد في يديها، ولكن لاختراع قصص عن نفسها. هنا، بملامح تشبه الحلم وأحيانًا السريالية، تظهر استحالة أن يكون في وسع الأجداد ملء الفراغ العاطفي لأحفاد يتامى.
في “ستي يا ستي” للفلسطينية مقيمة بالكويت ريمة إبراهيم حمود، يتمثل التفاوت بين جيلين بعيدين، من وجهة نظر الحفيدة الراوية. شعور الجدة بالضيق تجاه بناتها وحفيداتها يرجع إلى عقلية تقليدية مفادها أن الإناث ثقل على كاهل الأسرة. لكن على فراش الموت يحدث أمر غريب.
في قصة “حين عادت جدتي” للمغربية لطيفة لبصير، النظرة السلبية للإناث هنا تأخذ ملامح الكابوس. البطلة هي حفيدة تلاحقها ذكرى الجدة التي تحتقرها لدرجة أن تجعلها تفقد الثقة بالنفس لكن في النهاية تحدث معجزة.
القسم المالطي يتضمن مقطعين، كل منهما فعلا فصل من رواية، هناك اختلاف كبير بينهما من ناحية الأسلوب وفلسفة الحياة التي تعبر عنها الشخصيات، القاسم المشترك هو تقريبًا الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث كل مقطع: فأحداث “الياسمين التي لا تتفتح أبدًا لأوليفر فريجيري تقع في الخمسينات من القرن العشرين، بفلاش باكات ترجع ببعض الشخصيات إلى الماضي بضعة عقود، بينما هناك فترة زمنية أوسع تميز “الحياة السرية للجدة جينوفيفا ” لتريفور زهرا، فتمتد من العقد الأول من القرن العشرين حتى منتصف الستينات. تهدف الرواية الأولى إلى إعادة قراءة بعض العواصف العائلية التي تخص ثلاثة أجيال، لكل منها مشاكله الخاصة.
يبدأ الفصل المترجم لـ”الياسمين التي لا تتفتح أبدًا” بمشهد الجد الذي انتهى لتوه من الإخبار بإحدى قصصه الممتعة “التي تبدو حقيقية وربما تكون كذلك”. فعلا بالنسبة إلى الجد تتحول القصة إلى مصفاة لإعادة معالجة صدمة مؤلمة لن يعرفها القارئ والحفيد أيضا إلا في نهاية الرواية. وهكذا تتجلى وظيفته كحام لقيم الانتماء الحضاري، مساعداً الجيل الجديد على تكوين هويته.
في الماضي، كان الأجداد يجسدون قيم الحكمة والسلطة على حد سواء، والكشف عن نقاط ضعفهم كان يبدو أمرا نادرا في الأدب. كان الغوص في محرمات الحياة الأسرية يقتصر على صفحات المذكرات السير ذاتية. هنا ذكريات الجدة جينوفيفا المرحة والمفعم بروح فكاهية وكاريكاتورية أحيانًا، وواقعية أحيانًا، تسلط ضوءًا جديدًا على ماض مكوّن من قوالب نمطية عن حالة المرأة في دولة صغيرة كانت مثقلة بعبء التقاليد والأدوار المجندرة، كما هي حال البلدان الواقعة في جنوب البحر الأبيض المتوسط بين أوروبا وأفريقيا.
إن حيلة العثور على مخطوطة كتبتها جدتها تجعلها تروي نفسها بضمير المتكلم.
تعد صفحات المقطع المختار هنا في الأنطولوجيا مقدمة يكشف فيها حفيد جنوفيفا حيثيات حصوله على المخطوطة. من الواضح أنه لم يحدث أيّ لقاء بين الجدة والحفيد.
يتصور هذه الأخير علاقة التواطؤ الضمني التي أقامها هو مع جدته، فهو مقتنع بأن من يكتب مذكرات يفعل ذلك لكي يكشف النقاب عنها في يوم من الأيام.
تمكنت هذه المذكرات من الحفاظ على ترابط ثلاثة أجيال مختلفة، وإن كان ذلك افتراضيًا: الحفيد الراوي للمقدمة الذي يفتخر بشخصية جدته القوية الإرادة؛ والده الذي لم يستطع التواصل مع أي شخص بعد إصابته بجلطة؛ وجينوفيفا، الجدة التي لن تلعن حفيدها من قبرها، بسبب الكشف عن أسرارها. فهو متأكد من أن جدته “ستبتسم الآن”.
كل كاتب مثل الجد النموذجي لهذه الأنطولوجيا، بواسطة قصصه التي يمتزج فيها الحقيقي والخيالي، لديه قوة هائلة لإعادة إنشاء واقع معين، مؤطر في زمكان مفصل ودقيق (أو غامض أحيانًا) مما يعطيها معنى أكثر شمولية وكونية. القارئ يمكن أن يفسر المشاهد والرموز والنماذج وغيرها من أشكال التواصل اللاشعوري الموجودة في القصص وأن يتجاوز الرسالة الظاهرية والمباشرة لكل نص، ليحصد عددا لا يحصى من النصوص المستجدة التي تستجوب القارئ وتنتظر منه تفسيراته.