كمال

الأحد 2015/11/01
لوحة: سليمان منصور

لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري، ولكني كنت دائما أشعر بأنني أكبر ممّن هم في مثل سني‭.‬ لذلك كثيرا ما كنت أجلس مع أخي الأكبر ورفاقه وأستمع الى أحاديثهم ومناقشاتهم السياسية، وهو الموضوع المهيمن دائما، وأي قضايا أخرى‭.‬ لم أكن أفهم كل ما يقال ولكن بعضه كان يبهرني‭.‬ كان أخي أحيانا يتضايق من وجودي مع الكبار، وأحيانا أخرى يشركني في الحديث متباهيا أمام رفاقه بأن أخاه يتجاوز عمره الصغير بالفهم والاستيعاب‭.‬

كان جيراننا يشتغلون في صناعة الحقائب النسائية‭.‬ كمال، الابن الأكبر، كان طويل القامة، جسيما، له عضلات مفتولة‭.‬ كنت أنظر اليه بحب وإعجاب، وكان جلوسي معهم في المحل من أحب الأوقات إلى نفسي‭.‬ لم يكن محلا بالمعنى التجاري وإنما كان عبارة عن غرفة في بيتهم خصصت للعمل، يستلمون الجلود من محل كبير في ساحة البرج في بيروت ويصنعونها في بيتهم‭.‬

كان أحدهم، كل يوم سبت، يذهب إلى محل عملائهم في ساحة البرج يسلّم الحقائب الجاهزة ويستلم الجلود‭..‬ “شغلهم كان حلو كتير”‭.‬ كمال كان يثبت الجلد على قالب ويقصه ثم يلقي به إلى أخيه عيسى الذي يقوم بدوره بجمع الأطراف ولصقها بالصمغ الأصفر‭.‬ أحيانا كانوا يشركونني معهم بالعمل كأن يعطوني لوحا من الكرتون “أهوي” به على الجزء الملصق حتى يجف‭.‬ بعد أن تجف جميع الأطراف يعطى إلى إبراهيم الذي يقوم بدوره بخياطة الأطراف على ماكينة الخياطة‭.‬

كانوا يحبونني كثيرا ويعاملونني وكأني شاب مثلهم، وأكثر من ذلك كفرد من عائلتهم، وهذا ما أفرحني إذ نلت إعجابهم‭.‬ صاروا يسلمونني الجلد فألصقه بنفسي بالصمغ الأصفر‭.‬

والدة كمال كانت ألمانية شقراء، تجلس بعد الظهر على كرسي واطئ بدون ظهر أمام البيت‭.‬ كنت أراها في الصباح وقد جلست على “طبلية” خشبية صغيرة وأمامها طشت يتصاعد منه بخار الماء الساخن، تغسل الملابس وتعلقها على الحبال مثل باقي نساء المخيم‭..‬ يالله!!‭..‬ كم كنت أتعجب كيف تأقلمت هذه المرأة مع حياة المخيم تاركة خلفها حياة مرفهة قياسا بتلك الحياة القاسية‭.‬ أهو الحب؟ أم العطف؟ أم أشياء أخرى؟ كانت عطوفة جدا‭.‬

كان كمال عضوا بنادي الصيد، حصل على البطولة ذات مرة فازداد إعجابي به خاصة بعد أن عرفت أنه رفض استلام الجائزة حتى قرنوا اسمه بفلسطينيته‭.‬ كنت أعتبره المثل الأعلى “وبدّي أصير مثله”‭.‬

أحيانا كانوا يبعثونني إلى حارة حريك كي أشتري لهم الغداء، يقولون لي “أنت طفل كبير‭..‬ حلو ونظيف‭..‬ الواحد ممكن ياكل من إيدك وهو مطمئن”‭.‬ أبتسم لهم وقلبي يقفز من الفرح لنيلي إعجابهم‭.‬ الإعجاب متعة لذيذة عندما يكون متبادلا خاصة بين طرفين غير متكافئين من حيث العمر والخبرة‭.‬ كان الغداء عبارة عن صفيحة بعلبكية (لحم بعجين) ولبن‭.‬ كنا نأكل معا ونشرب الشاي بالميرمية الذي تعده أم كمال‭.‬ بعد ذلك نتابع الشغل‭.‬

كانوا مختلفين عن باقي سكان المخيم‭..‬ دائما يحكون قصصا عن ألمانيا قبل أن يسمع بها أيّ أحد من أولاد المخيم ممن كانوا في مثل أعمارهم‭.‬ بمعنى‭..‬ أنهم كانوا ينظرون إلى البعيد‭.‬ حيطان بيتهم كانت شبه مغطاة بملصقات لصور الأجانب من بنات وأولاد، كان التعارف بالمراسلة موضة في الستينات‭.‬ تحت كل صورة اسم صاحبة أو صاحب الصورة وعناوينهم‭.‬ كانت فترة انفتاح العالم على بعضه‭.‬ كثيرا ما كانت تصل رسائل وصور لأشخاص دون معرفة بعضهم ببعض‭.‬ كيف عرف هؤلاء عناوين هؤلاء! عجبا! أختي وصلتها رسالة تعارف، باللغة الإنكليزية، من اليابان من بنت اسمها ميتيكو كوسيجو، كادت تطير من الفرح ملوحة بالرسالة في كل اتجاه للإعلان عنها أمام رفيقاتها‭.‬ كيف عرفت ميتيكو كوسيجو اسم اختي وعنوانها! وحدودنا في تلك المرحلة نادرا ما تتجاوز المخيم – شاتيلا – الذي نسكن فيه ويسكن فينا؟ ورسالة أخرى من غزة من بنت اسمها حسنات الحربي وبداخلها منديل صغير أبيض شفاف مطرز إطاره بألوان جميلة، رسالتها كانت حول فلسطين الوطن وأحلام العودة واللقاء المنتظر‭.‬

كان كمال مع نهاية اليوم يعطيني ليرة وأحيانا ليرة ونصفا مكافأة لي على عملي‭.‬ كانت الليرة ثروة كبيرة‭..‬ بهذه الليرة كنت اشتري سندويتش فلافل – من محل أبو شنب الواقع في مدخل المخيم من جهة شارع صبرا- وكازوزة وأروح على سينما الشرق على الرصيف الثاني المقابل لمحل أبو شنب‭.‬ كنت أحضر فيلمين مرة واحدة وأنا أمزمز بالكازوزة “خايف تخلص”‭.‬ كانت متعة كبيرة عندما يحصل الواحد على كازوزة‭.‬ أظل أمزمز فيها حوالي الساعتين‭.‬

كمال كان المستقبل‭..‬ في بيئة لا يلوح لها مستقبل إلا في ضمائرنا‭..‬ كان النور في واقع مظلم‭..‬ وكان مثلا للتحدي الذي لم أكن أدركه بالمعنى العميق ولكني كنت أحسه في ذلك العمر المبكر‭.‬

II

ذات يوم اشترى كمال موتوسايكل وكذلك محمد الذي كان يشتغل بالحديد ومجموعة أخرى من الشباب، كانوا حوالي عشرة من شبان المخيم يمتلكون موتوسايكلات‭..‬ كانت موضة جديدة في تلك الأيام‭..‬ كنت أتطلع إليهم بإعجاب وتعجب وهم يسوقون هذه الموتوسايكلات ويتحركون مثل فريق واحد‭..‬ يا الله! أولاد مخيم “كحيانين” يملكون هذا! كان شيئا أغرب من الخيال‭.‬ كانوا يجمعون بعضهم ويذهبون إلى الأوزاعي ويخيمون هناك على شاطئ البحر‭..‬ يسبحون‭..‬ يضحكون كثيرا‭..‬ وأحيانا يشتمون بعضهم البعض مزاحا! كنت لديهم الطفل المدلل وكانوا يقولون لي “بكرة رح تصير إشي كبير لأنك ذكي وطموح، وفوق ذلك حلو وأنيق”‭..‬ لذلك كانوا يعجبون بي لأني كنت دائما نظيفا ومرتبا‭..‬ كانت أمي تخيط لي ولإخوتي بنطلونات وقمصانا وحتى جاكيتات ومعاطف لإخوتي البنات والأولاد من بقج الإعاشة التي كانت توزع مرة في السنة، تأتينا من الجمعيات الخيرية في أوروبا‭.‬ كان مدير المخيم، الرجل الأول، من قرية مجد الكروم، وكان أهالي بلدته في الصف الأول في الحصول على المساعدات‭.‬ منهم من يعمل في المطعم ومنهم من يعمل في الكناسة والبعض في توزيع حليب الأطفال في الصباح‭.‬ كان أبو عيسى وهو من أتباع الرجل الثاني، وكان من البروة، يغرف الحليب بمكيال يندلق نصف محتواه في برميله قبل أن يصل الحليب إلى صاحب الحصة، يحاول أن يعملها بخفة كي تبدو غير متعمدة، ولكنه كان مفضوحا ومادة للسخرية، كل ذلك كي يقنص بعد انتهاء التوزيع ما يتبقى بالبرميل لنفسه‭.‬ بعض الناس كانوا يبيعون حصتهم من الحليب فيشتريها من لا مخصصات حليب لديهم يعملون منها أطباقا شهية كالمهلبية والأرز بالحليب والسكر وأطباق أخرى‭.‬

أما بالنسبة إلى بقج الملابس فكان المسؤولون، من بلدة مدير المخيم، يفتحونها قبل التوزيع ويأخذون منها ما يناسبهم ويناسب أعمار أولادهم ثم يعاودون جمع ما تبقى في بقج وتوزيعها على باقي أهالي المخيم‭.‬ ولأننا كنا أقلية إذ كان أقرباؤنا وأهل بلدتنا فرادة/الصفصاف في البقاع وعين الحلوة فكانت بقجتنا غالبا ما تكون مكوّنة مما تبقى من معاطف سيدات أو رجال رغم أننا كنا جميعا في مرحلة الطفولة، ولكنها كانت من الصوف الإنكليزي الممتاز، حسب تعليقات أهلنا الخبراء في معاطف الإنكليز إبّان الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي حالة جيدة جدا من الجودة، وأحذية رجالية ونسائية عالية الكعوب رغم أننا كنا أطفالا، ولذلك ترى الفتيات الصغيرات يلبسن الأحذية ويتبخترن بها فوق الرمال، فرحات ضاحكات على الحفر التي تخلفها الكعوب العالية خلفهن‭.‬ أجمل ما في حياة المخيم في تلك المرحلة أن حياة الناس كانت محدودة ومتشابهة، الجميع متساوون‭.‬

كانت والدتنا، من حسن حظنا، تجيد الخياطة والتطريز، فكانت تفكك الملبوسات وتغسلها وتعلقها على الحبال، وبعد أن تجف تكويها بمكوى حديدي على بابور الكاز ثم تعيد خياطتها على ماكنة الخياطة، من ماركة سنجر الشهيرة والتي اشتراها لها أخوها من أول معاش تقاضاه كرد للجميل على رعايتها له بعد وفاة والدتهم وهم صغار‭.‬ تخيطها على مقاساتنا وتطرز على الجيوب والحزام بالنسبة إلى معاطف البنات فتخرج وكأنها مشتراة من أحسن المحلات‭.‬

بعد عشر سنوات ذهبت إلى برلين الغربية إثر اشتداد الحرب اللبنانية وازدياد عمليات الخطف على الهوية واللهجة وأشياء أخرى‭.‬ اتخذت ذلك القرار الصعب إثر حادثة حصلت معي بينما كنت أتمشى مع رفاقي من أولاد المخيم في شارع الحمرا، نتفرج على الفاترينات في أوقات الهدوء النسبي، أو عندما نتناسى الخطر الذي يحيط بنا، حيث من الصعب جدا لأولاد في عمرنا المكوث في البيت كالسجناء‭.‬ وفيما نحن لاهون بالحديث والتعليق على الإعلانات وصور الزعماء التي ترفرف في سماء بيروت شعرت بيد تقبض على يدي بشدة وتحاول سحبي، فتطلعت لأجد رجلا ضخما عيناه تقدحان شررا، رحت أرتعد من الخوف إذ فقزت إلى ذهني في الحال روايات عن عمليات الخطف والتي كنا أحيانا نتناساها عبر الانشغال بدروسنا رغم أن المدارس كانت مقفلة معظم الوقت، رحت أسحب يدي بعزيمة قوية يساعدني في ذلك رفاقي الذين قد يلاقون مصيري في أيّ وقت وأيّ مكان على تلك الأرض الملتهبة بالمشاعر المتناقضة، والأهم من ذلك مما ساهم بنجاتي أننا كنا في شارع الحمرا في منطقة مزدحمة ساعدت في فك أسري من قبضة ذلك المجرم عندما حاول المارة الهجوم عليه ففر هاربا‭.‬ لكنني كنت أرجف رعبا، وآثرت ورفاقي العودة إلى مخيمنا‭.‬

عندها قررت الهجرة إلى أيّ مكان آمن في هذا العالم رغم ارتباطي أنا ورفاقي بالمخيم ارتباطا عضويا ونفسيا‭.‬ كان المخيم بالنسبة إلينا هو الطريق إلى فلسطين، وكانت لدينا قناعة أن كل من يرحل ينسى فلسطين‭.‬ فلسطين كانت دائما حاضرة في صحونا ومنامنا، في كل مناسبة ومن غير مناسبة‭.‬ “إن شاء الله في العودة” كانت الأمنية التي لا قبلها ولا بعدها أمان، دائما على شفاه الفلسطينيين‭.‬ كنا في مدرسة الأونروا نتحدى الممنوعات ونتظاهر هاتفين بشعارات العودة والتحرير في شوارع بيروت، فتهاجمنا “فرقة 16″ وتنهال علينا بسياط الحقد والغضب فيتعالى الصراخ من الألم ويختلط بالشتائم المتبادلة وتسيل دموع ودماء، ومع ذلك لم يكن الألم يثنينا عن إحياء المناسبات الوطنية حتى تظل فلسطين حاضرة وحية في ضمير كل كبير وصغير‭.‬ نلقي الخطب والقصائد الحماسية لهارون هاشم رشيد وإبراهيم طوقان وغيرهم من شعراء الأرض المحتلة والمنفى أحياء وأمواتا‭.‬

كانت الهجرة إلى برلين الغربية ممكنة في تلك الفترة‭.‬ رحت أتعرف على الفلسطينيين هناك وسألت عن كمال الذي غادر إلى برلين الغربية قبلي بسنين وسمعت أنه حصل على جوائز كثيرة هناك‭..‬ حاولت البحث عنه لكني لم أتمكن من ملاقاته حيث مرضت‭.‬

III

وأدخلت المستشفى‭.‬ بعدها قررت العودة إلى بيتنا في المخيم وكان فارغا حيث رحل الأهل إلى بلد عربي فلحقت بهم بناء على إصرارهم وسوء الأحوال الامنية والمعيشية وانقطاع الاتصال بكافة الوسائل نظرا لاشتداد القتال والتربص “بالآخر”‭.‬

وهناك في ذلك “الوطن العربي” وأي وطن عربي! عشت مرارة أشد إيلاما من العصا “أيها الأجنبي أنا” ماذا تفعل هنا؟ كانت صدمة كبيرة أخلّت بتوازني في تلك المرحلة المبكرة من عمري‭.‬ هذا الذي كان ظهري وسندي في حلمي ويقظتي يقول لي ضمنا وعلنا “أجنبي أنت”‭.‬ ما أقسى أن تصحو من حلم دافئ‭..‬ تدفأت بشعاراته الرنانة منذ ولادتك، إلى واقع بارد وتكتشف أن مشاعرك أحادية كعاشق من طرف واحد‭.‬ صممت على العودة إلى المخيم رغم رجاء الأهل وتوسلاتهم‭.‬

عدت إلى المخيم ورحت أبحث عن رفاقي فعلمت أن ثلاثة منهم قد سافروا إلى أسبانيا، تلك البلد التي سمحت باستقبال قلة من حاملي وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين دون تأشيرة‭.‬ فساعدني رفاقي بإرشادي في كيفية الوصول إلى مدريد وعشت فيها سنين طويلة عملا ودراسة وحصلت على جنسيتها وأحببت الشعب الأسباني الذي لمست فيه بساطة وعفوية خففت من حدة غربتي‭.‬ تركت أسبانيا لعدم وجود فرص للعمل وغادرت إلى لندن ثم أميركا ثم لندن وما زلت أتنقل وأطرب لكل ما هو عربي‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.