كوميكس عربي جديد
ما من شخص عرفت في جيلي إلا وكان مقبلا في صباه على فن القصص المصورة. ففي أواخر الستينات ومطلع السبعينات كنا مولعين باقتناء مجلات الكوميكس، العربية منها كسندباد وسمير وأسامة والمزمار، والأجنبية كسوبرمان والوطواط وطرزان وميكي وتان تان. ولم تكن هذه المجلات لتخلو منها مكتبة أو بيت في دمشق، كما هو الحال في بيروت والقاهرة وبغداد. كانت أرصفة الشوارع معارض لهذه المجلات قديمها وحديثها، وكنا نتداولها ونتبادلها بشغف ما بعده شغف، فكانت مصدرا للإثارة ومحفزا رائعا للخيال الفتي، ولعلها بالنسبة إلى البعض منا كانت سببا مباشرا في التعلق بهواية القراءة، وحب السينما في ما بعد.
قصص المغامرات البطولية والاستكشافية، وصراع الخير والشر، وغيرها من الموضوعات المؤسسة لقيم الحق والخير والشجاعة والصداقة والتضحية والشغف بالمعرفة، والوعي بالاشياء، كانت الفلك الذي تدور من حوله موضوعات القصص التي كنا نقرأ.
لكن فن الكوميكس سيشهد منذ ذلك الوقت تحولات في الموضوعات والأفكار والمرامي والأشكال، وستظهر مدارس فنية وتعبيرية جديدة. الثورة الطلابية الفرنسية في العام 1968 في ظل صراع محتدم بين اليمين واليسار، ومن ثم سقوط جدار برلين في أوائل التسعينات، كانا حدثين بارزين سيشكلان حافزا لثورة كبرى داخل هذا الفن جعلته يخرج من تقليدية موضوعاته إلى فضاء تعبيري أوسع، ليعرف، من ثم، ابتكارات فنية مذهلة في تنوعها، وليصبح، إلى جانب فنون الكاريكاتير والإعلان والغرافيتي منصة جمالية للاحتجاج السياسي والاجتماعي. شيء من هذا سوف يعرفه، ولو متأخراً، فن الكوميكس العربي.
***
ليس حدثا طارئاً ولا عابراً، أن تبدأ إرهاصات ثورة في فن الكوميكس العربي من ميدان التحرير في القاهرة عشية الانتفاضة على نظام مبارك في مصر سنة 2011.
ففي فضاء ذلك التمرد الشبابي العارم على النموذج الأكمل للنظام الأبوي العربي الفاسد والمتهالك، انعقدت في ميدان التحرير في القاهرة (وكذا وفي ميادين عربية مشابهة) حلقات الهتاف والغناء والرقص في فضاء انفتح على حرية التعبير، وانطلقت حناجر الشباب لتعبر عن تطلعات طالما ووجهت بآلة القمع. شهدت الشوارع تدفق الرغبات الحبيسة طويلا، لتعبر عن نفسها دفعة واحدة، وبأصوات تخض الهواء، لم يسبق لها أن عرفت شارعا ولا ميدانا لانطلاقها. والآن، مع الحراك الاجتماعي الواسع، دفعة واحدة، سيظهر في تلك الحشود الأدباء والفنانون والمفكرون جنباً إلى جنب في جوار النشطاء المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. وفي جنبات ميدان التحرير، حيث تقاسموا الساندويتشات وجرعات الماء في النهارات والمساءات في غمرة نشاط احتجاجي حافل. كانت قصاصات ورق تتطاير هنا وهناك محبَّرةً للتو بشعارات ورسوم بالأسود والأبيض، وبالألوان، راحت تظهر في يوميات الميدان وتتناقلها الأيدي، ببهجة غير مسبوقة.
في تلك الأوقات الفريدة في تاريخ مصر والعالم العربي، ظهر فن الكوميكس في طوره الجديد، منتقلا من وظيفته في توليد المعرفة عبر إثارة المتعة إلى وظيفته الجديدة في توليد الصدمة.
الرغبة الجماعية العارمة في التغيير المجتمعي لدى الشباب الثائر وسعت حيزا متناميا لهذا الفن في مساحات اللقاء في الشوارع والميادين، وشكل ميدان التحرير الفضاء الساحر الذي كسر فيه الشباب كل أشكال الحواجز والقيود عن توق جماعي إلى الحرية، وعن رغبات شتى ظلت مقموعة لعقود، فردية وجماعية. فكانت مواعيد الاحتجاج عتبة سيسجلها تاريخ الفن لظهور ملامح وعلامات جديدة ميزت الطاقة الإبداعية للشخصية الثائرة على منظومة الاستبداد السلطوي في البيت والشارع والجامعة ومؤسسات الدولة ومراكز السلطة، وسمات فنية جديدة.
لوحة: جان مارك نحّاس
مع شباب الكوميكس الجدد اتخذ الفن موقعا متقدما استعدادا لتطوير المواجهة الاجتماعية والسياسية مع السلطة وأدواتها، ورموزها، في تصعيد إبداعي وسايكولوجي خلاق، شكلت معه الموسيقى والقصائد والخطب والمقالات القصيرة ومعها الكاريكاتير والغرافيتي وغيرها من أشكال التعبير الفني، سلاحا في انتفاضة الشباب، إلى جانب حرق الإطارات، ورمي الحجارة، ومواجهة العنف السلطوي بالجسد العاري.
ولسوف تشكل يوميات الميدان حدثا ملهما لرسامي الكوميكس والغرافيتي على حد سواء، وستنعكس الوقائع الحارة والمدهشة سريعا في تلك الرسوم التي أخذت في الظهور في ذلك الفضاء. كانت البداية رسوما على قصاصات مرتجلة وأخرى شبه احترافية. ولم يطل الوقت، حتى بدأت الإبداعات الأكثر احترافية في الظهور مع توافد وجوه شبابية جديدة راح الميدان يستقطبها إلى جغرافيته ووقائعه المتسارعة.
أنظار العالم كله كانت تتجه نحو الميدان، وبينما عدسات الكاميرات والموبايلات تجول وتلتقط الصور لمظاهر الاحتجاج السلمي، كانت تمر في الوقت نفسه على تلك الورش الفنية المنتشرة بشبانها وفتياتها في جنبات الميدان. من هناك ظهرت، بواسطة الكاميرات الصور الأولى لرسوم استكملت بالكلمة والخط ما صدحت به الحناجر. بعض تلك الصور طيّرتها وكالات أنباء عالمية، وعلق عليها نقاد وباحثون وصحافيون ومؤرخون فنيون، كانوا من الأجانب غالباً.
لم تكن دهشة المتلقين لهذه الفنون أقل من دهشتهم وإعجابهم اللامحدودين بجرأة الميدان: كوميكس. نعم كوميكس، لكن المدهش أنه متقن، بل ويكاد بعضه أن يكون احترافيا بكل معنى الكلمة، على رغم الفقر البادي على مواده الأولية.
***
لعل الدهشة كانت ستكون أقل لو أن مؤرخي الفن انتبهوا، مبكرا، مع مطلع الألفية الثالثة إلى التطورات الفنية الجديدة، ولكن الحيية، لفن الكوميكس والتي راحت تعبر عن نفسها في مجتمعات الشباب، ومن خلال هوامش الحياة الثقافية العربية، في مناخ متفاقم من التململ المجتمعي، وضجر الأجيال الطالعة، وربما يأسها، أيضاً، من تلك المراوحة الثقافية التي عرفتها مجتمعاتهم الأبوية الفاشلة، وما أقامته في وجه طموحاتهم الفنية من حواجز.
***
لا بد من الاعتراف بأن الثقافة العربية لم تتنبه، إلا متأخرة، إلى طبيعة الاهتمامات الفنية والثقافية التي أخذت في الظهور لدى الشباب، ومنها ظاهرة الكوميكس، بوصفه وسيلة فنية وفضاء تعبيريا مكن البعض منهم من امتلاك لغة إبداعية ذات طابع نقدي، ووسيلة فنية تستوعب، بسرعة، وبطرائق مباشرة، فردية غالبا، طاقة الغضب والحنق الكامنين، إلى جانب قدرة هذا الفن على توفير صيغ جمالية مغرية قادرة على تحفيز الخيال الخصب للشباب في لحظة عالمية ما بعد حداثية افتتحها العصر الرقمي، ومكنت الشباب العربي من التواصل مع شتى الظواهر الفنية والثقافة بأساليبها واتجاهاتها وأيقوناتها المنتشرة في العالم، والمتاحة بسهولة على الشبكة العنكبوتية، ومن بينها فنون الرسم.
تجارب وصيغ محرضة مصحوبة بمغريات فنية توسع من مناخ الإثارة الذي يتيحه فن الكوميكس، قادرة على تغذية الخيال بالموضوعات والطرائق والأفكار الخلاقة، وبكل ما يمكن أن يجيب عن أسئلة الفن وأسئلة الفكر معا، ويساعد الشباب على توسيع مساحة الهوامش المنتزعة من المتن، لصالح اعتمالات فنية وروحية هي بالضرورة ذات طابع نقدي متمرد، لجيل يفتش عن صوته وتمايزه في مغامرة التعبير عن الذات وعن الاختلاف، والرغبة في كسر الاطواق والخروج على السائد.
يمكن ملاحظة أثر ذلك في تجارب فناني الكوميكس في القاهرة، وبيروت خصوصا، وذلك بفعل هوامش أوسع من الحرية وكذلك الحيوية الشبابية التي طالما سعى أصحابها إلى تمييز أنفسهم وتطلعاتهم عن الموات العام في المنطقة، من دون أن يتخلص هؤلاء سريعا من شبكة العوائق (رغم قطيعتهم مع القيم السائدة فنيا واجتماعيا)، ولا من الوقوع في شرك الصيغ الغربية لفن الكوميكس، وهو ما سيؤخر من تبلور هوية خاصة في تناول الموضوعات، والتعبير عن القضايا والأفكار.
***
ولئن كان فن الكوميكس في أوروبا، ملمحا أصيلا وراسخاً من ثقافة الحرية المجتمعية، وعلامة دالة على استقلالية الفرد، وعلى نضج العلاقة بين الكلمة والصورة، وكذلك علامة فارقة في ثورات الفن، فهو في الوقت نفسه جزء هائل من صناعة كبرى، ومنتج تقف وراءه شركات تحصد الأرباح، بالملايين، بينما هي تفسح للظواهر الفنية والتعبيرية الأكثر جدة للظهور. بحيث لا يمكن، أبدا، اعتباره فنا هامشيا، كما هو حاله، حتى اليوم في الثقافة العربية. فنانو الكوميكس ينشطون في ظروف بالغة الصعوبة، بل إنهم لا يجدون، إلا في ما ندر، مؤسسات ترعى نشر أعمالهم. وجلهم كان ولا يزال يشتغل بصورة فردية. وباستثناء القلة منهم ممن ينشرون أعمالهم في مجلات للأطفال منتظمة الصدور، معدودة على الأصابع، وذات توجهات فنية تقليدية، فإن الاتجاهات الطليعية في هذا الفن تبقى الأكثر يتما، لما يميز الكوميكس من مباشرة لا تمكنها من تجنب الصدام مع السلطات المجتمعية والسياسية والثقافية. ولذلك فإن يتمها كان غالباً سبباً في إيثارها الهامش إلى درجة الإدمان، والدخول في نوع من المواجهة الانتحارية المفتوحة مع المجتمع، وهو ما كان سبباً مباشراً في الحد من حركتها وإضعاف تأثيرها في التيار العام للثقافة، حتى وإن أبقى ذلك على بعضها أكثر نضارة فنية وجرأة في التعبير.
تحية لعالم الكوميكس فهو فضاء ينتمي إلى النضارة، ويقرن المعرفة بالمتعة، والخيال بالجرأة، والفن بالاحتجاج، وبدوره النقدي في المجتمع.
لندن في يونيو/حزيران 2018