كيف يحرر العبيد أنفسهم؟
واقع الحال أن تلك الركيزة وحدها لا تكفي، إذ تعاني بعض النواقص التي أصابت على ما يبدو معظم طروحات مثقفي سوريا على أقل تقدير، فرغم شمولية التحليل للجباعي إلا أنه أصر على اعتبار الدين وبروزه ناتجا لانحسار الثقافة فقط لا غير، وانحسار دور المثقف، الذي تقريباً أعطاه تبريراً لا يمكن قبوله، تبرير يرتبط بالاستبداد وإنتاج هذا الأخير لمثقف السلطة، وبدوره، أي الاستبداد، ولد مثقفاً معارضاً ولكنه بشكل أو بآخر هو رد فعل على الحالة القائمة وليس حالة منفردة بذاتها أو مبنية على التطور الطبيعي للمثقف الذي من واجبه دعم الشارع والعمل على ترجمة الأفكار الكبيرة بلغة مفهومة تجريبية.
من سرق الثورة؟
أصدق تصنيف لحال المثقف السوري المعارض جاء على لسان الجباعي، حيث قال “سألتني في بدايات الثورة السورية صبية، تعرف أنني معارض مر: لم لا نراك في المظاهرات والاعتصامات؟ فأجبتها ببساطة، لأنني أعتبر هذه الثورة ثورة عليَّ وعلى أبناء جيلي، وليس من حقي وحق أمثالي أن يركبوا موجها، فنحن مسؤولون عمّا وصلت إليه بلادنا من فقر وحرمان واستبداد وطغيان، ولا سيما من كانوا مثلي منخرطين في أحزاب أيديولوجية معارضة أو موالية، ولا فرق، أو مع فروق ضئيلة، لكي لا ننفي مبدأ الفرق والاختلاف”.
من هذا التعريف يمكن الوقوف مطولاً أمام ما تبقى من إشكاليات تعاني منها الساحة السورية، فالواقع أن بعض الفئات المعارضة التقليدية لم تقم بدورها السياسي أبداً، وكانت كل التجارب برأي الجيل الشاب وأقصد هنا جيل الثورة وما قبله بقليل أي جيل أوائل الثمانينات وأواخر السبعينات، كانت عبارة عن عائق سد الطريق أمام نمو حركة سياسية ثورية معزولة عن الفعل ورد الفعل الذي لعبه النظام بذكاء لخلق معارضة على قياسه، وكانت الثورة السورية قادرة على خلق هذه الحركة السياسية وتبقى حاجتها للجيل القديم في التوجيه والعناية لا التريس والسيادة وهو بيت القصيد، ولكن الواقع كما يعرف الجميع أن المعارضة التقليدية في الخارج والداخل شكلت حصونا يمكن وصفها بحمايات غير مباشرة للنظام السوري وحمايته من دماء جديدة كانت قادرة على تدميره وهزمه ودون الوصول إلى الحالة الإسلامية.
أود أن أكون واقعيا كثيرا في الحديث ومباشراً وتفصيليا ما أمكن، فلا يمكن النظر إلى مسألة المنظمات الإغاثية بعين الرضى أبدا أو منظمات المجتمع المدني ومنها رابطة المواطنة التي تمثل أبرز الظواهر تطوراً بينها، فهذه المنظمات عملت على تعبئة الشارع الشاب وتحويله من النضال الثورة السياسي إلى العمل الإغاثي الذي كان من واجب فئة مختلفة من الشباب الذين لم يجدوا سبيلا للتمثيل السياسي فلجأوا إلى العمل الإغاثي الذي يمثل شكلا من المعارضة لا لكونهم غير قادرين على العمل السياسية التنظيمي بل لفراغ الساحة السياسية من التشكيلات وانقطاع الدعم لمثل هذه المشاريع، ويمكن بجولة قصيرة على الأحزاب المعارضة التي ولدت حتى بعد الثورة أن تجد القيادات إما أبناء نظام سابقين أو معارضة تقليدية أو منشقون عن البعث وغيره من أحزاب السلطة.
إذن المسألة الإغاثية في الجانب السلمي للعمل الثوري في سوريا استنزفت طاقات الشباب السوري المعارض ولحق بها العمل الإعلامي ونقل الخبر والحرص على بث المظاهرات بدلا من الحرص على تحويل تلك المظاهرات إلى شكل من أشكال العمل المدني أو السياسي الفعلي، وأطرح مثالاً على هذا العمل ففي الشهر الخامس تقريبا من العام 2011، التقيت مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء ببعض وجهاء حوران ومنهم من كانوا على المفاوضات بين النظام والمعتصمين في الجامع العمري وطرحنا مسألة المجالس المحلية باليوم الذي لم يكن أحد قد فكّر فيها. وجاء هذا الطرح بعد نقاش طويل مع عدد من الصحافيين السوريين المهتمين بالربيع العربي والذين كان لهم دور المراقبة لما جرى في كل البلاد التي سبقت سوريا، ولكن ردّ الوجهاء الذين لا يمكن تصنيفهم إلا على الجيل المضاد للثورة بطريقة عفوية بحسب تعبير الجباعي رفضوا الطرح جملة وتفصيلاً.
ومن ثمة جاء العمل المسلح الذي استوعب معظم الفئة الشابة المعارضة والتي تبحث عن سبيل للتخلص من الظلم ولو بالعصا، فحملوا السلاح وتطور الموقف بعد انشقاق عدد من الضباط والعناصر عن جيش النظام، وهنا بدأت حملة البحث عن حامل أيديولوجي أو ثقافي للسلاح فسلاح بلا رؤية قاطع طريق لا أكثر، ولم يكن إلا الحامل الإسلامي الكلاسيكي المتفق مع الإسلامي الجهادي الذي تطور رويدا رويدا ليكون وجه معظم التنظيمات القتالية المعارضة على الأرض السورية، ويبدو هذا أمرا طبيعيا بعد معرفة كل ما سبق ورفض عدد غير يسير من المثقفين في المعارضة تسليح الثورة رغم أن الجميع كان يعلم أنها تتجه إلى التسليح ويبدو السبب في أنهم لا يملكون المقدرة على بناء حاضن ثقافي لهذا السلاح الثائر فكان الإسلام حاضراً بكل سرور.
هذا الموقف كان يوجب على المثقفين المعارضين الصمت نهائياً والتوقف عن التنظير السياسي والانسحاب من المشهد على الأقل تقديرا لفشلهم، أو تقديم حل يعالج المصاب قبل استفحال الإصابة وبلوغها حداً أعطى النظام قدرة التحكم ببعض مفاصل العمل المسلح الثوري على الأرض من خلال اختراقها بعناصره المخابراتية ووصولاً إلى إنتاج الدولة الإسلامية في العراق والشام وجوقتها من التنظيمات المتطرفة.
عقدة النخبة
يمكن وصف حالة الانفصال بين المثقف المعارض والشعب، بأنها وصلت حد التضخم فأصبحت النخبة في عالم بعيد عن الشعب، وهذا الانفصال موجود في كل المجتمعات ولكنه في سوريا بات مرضيّاً، فأصبحت كتابات المثقفين شديدة البعد عن الواقع وكأنهم يتحدثون كما قال الجباعي إلى شعب متخيل برأسهم لا وجود له واقعاً، وبات المثقف المعارض تابعاً لمثالياته الخاصة وأهوائه التي لا تنطبق على العام الذي يحاول تطويعه ليطابق خاصته وهنا يبرز مفهوم العبودية فمثقف السلطة عبد للتوجيهات المخابراتية والسياسية وربما يكون مخبراً وعنصراً أمنياً أكثر منه شخصاً قارئا لبعض السطور، وبات مثقف المعارضة أسيراً لتبعيته الثقافية المرضيّة التي خلقت له عالمه الخاص البعيد بل والمعزول عن الواقع المعيش في سوريا.
فكيف للعبيد أن تحرر العبيد؟ كيف لمثقف مستعبد لميوله الخاصة أو معارفه النظرية أن يحرر من هم تابعون سياسياً واقتصادياً لنظام سفاح أو لتنظيمات متطرفة؟ كيف له أن ينتج ثقافة تقاوم وتجابه المد الأصولي الطائفي والعرقي والمذهبي والديني وهو لا يملك إلا ذخيرة عفنة؟ كيف له أن يكون بلال الحبشي وهو المغرم بانتصارات خالد بن الوليد؟ كيف له أن يكون سبارتكوس وهو المغرم بديمقراطية النخبة الرومانية؟ كيف لهم أن يدعوا الطريق للشباب السوري كي يخرج من عباءتهم المظلمة وقمقم النظام الكارثي إلى عالم الحرية والعدالة؟ كيف يسمح المثقف لنفسه أن يقرر في شيء لا يملك أمره؟ دعونا نعيد النظر في وعينا الذاتي والعام ونفتش عن مواقع الخلل وأين فشلنا؟ ولماذا؟ فعالم الأحياء لا يحميه الموتى ومثقفونا اليوم أقرب للأموات منهم للأحياء فلا أثر لهم ولا صوت يسمع، اللهم إلا على مستوى الجماعة المقربة ولنكن صادقين مع ذاتنا قبل كل شي، هل نستحق الحرية؟ هل جاهدنا لأجلها؟ هل نؤمن بها فعلا لا ردّ فعل؟