لغة لاهوت أم لغة علم

الخميس 2016/12/01
لوحة: حسين جمعان

لقد كان بإمكان الكاتب أن يستغنيَ عن مثل هذه الأحكام في حديثه عن مسألة علمية تستوجب عدم التحيّز، مثل مسألة المصطلح التي أُفرِد لها علم قائم بمبادئه وأهدافه ومدارسه، وهو علم المصطلح الذي يتوسل العلمية في مقاربَة الوشائج بين التصورات والأشكال المؤلفة للمفردات الخاصة التي يتواضع عليها أهل الاختصاص في العلوم والتقنيات والمعارف والفنون والمهن والعمل على توحيدها لتلافي اضطراب المصطلحات. كما كان بإمكانه أن ينتقيَ مصطلحا بعينه أو جملة من المصطلحات يثبت، من خلالها، عجز اللغة العربية أصواتاً ومفرداتٍ ودلالاتٍ عن ترجمة المصطلح من اللغة -المصدر إلى اللغة- الهدف، لا أن يركَن إلى خلاصات توصل إليها بعض المفكرين والشعراء العرب في مجال معرفي أو أدبي محدد مثل طه عبدالرحمن ويوسف الخال؛ فيجريها مجرى الإطلاق واليقين. ولكن، يبدو أن التعميم والتجريد أصبح من ديدننا، وأضحت المقارَنة بغرض المفاضَلة من دأبنا.

إن الحديث عن المصطلح وترجمته هو حديثٌ عن قدرة اللغة -الهدف على التفاعل مع اللغة- المصدر، وهو تفاعلٌ ينبغي له أن يقفز على تخوم الأشكال والقوالب؛ فيثريَ التصورات والمفاهيم، ابتغاء المشاركة في صناعة المصطلح (terminographie)؛ فتلك الصناعة لا تنهض على الوضع والابتكار في اللغة-المصدر فحسب، بل هي سيرورة (processus) يغتني فيها المصطلح في تلك اللغة وفي اللغة -الهدف أيضاً عبر التعديل والتحويل والتكييف شكلاً وتصوراً. لقد ألفيْنا، مثلاً، أن مصطلحاً نظيرَ «idéologie” في الفرنسية أو «ideology” في الإنكليزية لم يعرف تصوراً واحداً أجمع عليه المفكرون والعلماء والدارسون؛ فقد تعددت تصوراته وتشعبت مفاهيمه تبعاً للحقول المعرفية والتيارات الفلسفية والمنطلقات الفكرية والظروف التاريخية ولغات العالَم بما فيها اللغة العربية التي أوجدت له مكافِئات كثيرة على صعيد الشكل تراوحت بين التعريب والترجمة، نحو إيديولوجيا وأيديولوجيا وأدلوجة وفكرولوجيا (المصطلح يزاوج بين الترجمة والتعريب في آنٍ واحدٍ) وعقيدة ومذهب ومنظومة فكرية، وحاولت مقارَبته على صعيد التصور، كما يمثُل في كتاب «مفهوم الإيديولوجيا” للمفكر العربي المغربي عبدالله العروي الذي خَلُصَ، بعد عرض استعمالاته المختلفة لدى مجموعة من الفلاسفة مثل كارل ماركس وكارل مانهايم وجورج لوكاتش ولوي ألتوسير وهربرت ماركيوز ونديم البيطار ولديه هو أيضاً، إلى أن المصطلح ملتبِس ومشتبِه؛ فهو «أولاً: مفهوم مشكل. يجب، إذن، استعماله بحذر، بل يتحتم الاستغناء عنه في أكثر الحالات، بعكس ما يقع عندنا حالياً. ثانياً: مفهوم غير بريء، يحمل في طياته اختيارات فكرية يجب الوعي بها لكي لا يتناقض صريح الكلام مع مدلوله الضمني. ثالثاً: مفهوم قد يصلح أداةً للتحليل السياسي والاجتماعي والتاريخي، لكن بعد عملية فرز وتجريد لكي يبقى كل باحثٍ وفياً لمنهج المادة التي يبحث فيها”[عبد الله العروي: «مفهوم الإيديولوجيا»، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط. 5، 1993، ص 127]. وهو ما يعني أن المصطلح ليس ملك من اصطنعه، إنما هو إرثٌ مشتركٌ بين أهل الاختصاص يختبرون دقته ومواءَمة شكله لتصوره ويعملون على تطويره، باستمرار، في اللغة- المصدر واللغة-الهدف سواءً بسواءٍ.

إن المصطلح الفلسفي والعلمي والتقني والنقدي كان، دائماً، في صلب اهتمام العرب من أهل الاختصاص؛ إذ «مع بدايات عصر النهضة الحديثة أوائل القرن [التاسع عشر] بخاصة، انطلقت العربية تأخذ طريقها مجدداً إلى دنيا العلوم الحضارية نتيجة للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي أحدثتها الاحتكاكات بالغرب في مختلف المجالات. وقد بدأت تباشير هذه النهضة في موقعيْن كانا دوماً أرضاً خصبةً للانبعاث والتطور، [...] منطقة شمالي سوريا ولبنان، ومصر، كما في بعض المغرب أيضاً”[أحمد شفيق الخطيب: «منهجية بناء المصطلحات وتطبيقاتها»، في «مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق»، المجلد 75، الجزء 03، تموز (يوليو) 2000، ص 499]. والمتخصصون العرب، إلى اليوم، يجتهدون في مواكَبة تدفق المصطلحات، حيث لم تصرفهم اللهجات العامية القائمة في بلدانهم، والتي «يصعب معها إيجاد اللغة التي يمكن أن تبني عليها الترجمة رؤيتها الصحيحة للمصطلح”[اليامين بن تومي، المقال السابق، ص 39] في نظر الكاتب، عن تلقف المصطلح الأجنبي وتعديله وتحويره ليلائم نظاميْ اللغة العربية الصوتي والصرفي ولثقافتها أيضاً متى ما كان المصطلح مرتبطاً في ولادته وتشكُله بمكان معين ولغة محددة وثقافة معلومة ولم يكن ذا نزوع كوني يتخطّى حدود المكان واللغة والثقافة (فقد يتكون المصطلح في بيئة لسانية وثقافية محلية، مثل سكاز «skaz” وهو مصطلح نقدي روسي يُطلَق على السّرد الشّفوي، والمقامة وهو مصطلح أدبي يشير إلى نوعٍ أدبيٍ يتسم بخصائص جوهرية في التراث السردي العربي) ذلك أن مجال استعمال المصطلح مجال خاص وليس عامّا، يحده الاختصاص ولغة الفلسفة أو العلم أو التقنية أو النقد أو لغات أخرى يصطلح عليها أشخاص يجمعهم اختصاص مشترَك مثل اختصاص القانون أو الإعلام؛ فهذه اللغات جميعها لغات خاصة لا تعوق ولادتها لهجة عامية هنا أو هناك، لأنها تستند، في ظهورها وتكونها، إلى اللغة العامة الفصيحة بوصفها معجماً، ولكنها تكسب مفردات ذلك المعجم دلالات جديدة حين تُضمِّن المصطلحات، التي هي في الأصل مفردات مشترَكة، تصورات خاصة يتفق عليها أهل الاختصاص.

وبهذا الشكل، يغتني المعجم وتتكاثر مفرداته مبنى ومعنى، بل إن اللغة العربية نفسها تحوي في طياتها بذور الحياة التي تكفل لها البقاء والاستمرار؛ فهي تتيح للمشتغل بها، وضعاً وترجمةً، إمكانات توليد مصطلحات جديدة عبر التعريب والاشتقاق والنحت والتركيب، وهي مناهج تمثل التوليد اللغوي، والتعويض والتحويل والتكييف والإحالة، وهي مناهج تؤلف التوليد المعنوي. ثم إن اللغة العربية، شأنها شأن اللغات الأخرى التي يسمّيها الكاتب حية، لا يُعييها أمر صوْغ مصطلحات دخيلة، ذلك أن أقصر طريق يفضي إلى معادَلة شكل المصطلح الأجنبي وتصوره هو الاقتراض، حيث توجد العديد من المصطلحات المكافِئة التي تعكس استعداد بعض المترجمين العرب لتقبّل مصطلحات الآخر ومراعاة خصوصيتها التصورية القائمة في لغتها الأولى، من قبيل إيديوغرام (idiogramme) ومونيم (monème) ومورفيم (morphème) ولكسيم (lexème) وكلاسيم (classème).

لقد سمح لنا التعامل مع مسألة ترجمة المصطلح السردي من اللغة-المصدر إلى اللغة-الهدف، من خلال التدريس والبحث، بالتعرف إلى قدرة اللغة العربية على التفاعُل مع المصطلحات السردية الأجنبية عبر التوليد اللغوي تارةً، والتوليد المعنوي تارةً أخرى. ونستطيع أن نمثل لتلك القدرة، التي تثبت أن اللغة العربية لم تتأخر يوماً ما عن مواكَبة تدفق المصطلحات وتطوّرها وأن مستعمليها لم يتنكّبوا لحظة واحدة عن تلقي المصطلح السردي الحديث والمعاصر، بعرض المقابلات العربية لثلاثة مصطلحات فرنسية، وسنرى كيف أن اللغة العربية تقدم إمكانات معجمية أصلية وصيغاً تعبيرية مقولَبة تؤكد، في آنٍ معاً، إقبالها على مصطلحات الثقافة الأخرى وقَبولها بها. وهذه المصطلحات ومقابلاتها هي:

‏Poétique: بويتيك/ بويطيقا/ شعرية/إنشائية.

‏Récit: حكي/حكاية/محكي/سرد/مسرود/ قصة.

‏Thème: موضوع/موضوعة/غرض/تيمة/ثيمة.

مع بدايات عصر النهضة الحديثة أوائل القرن [التاسع عشر] بخاصة، انطلقت العربية تأخذ طريقها مجدداً إلى دنيا العلوم الحضارية نتيجة للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي أحدثتها الاحتكاكات بالغرب في مختلف المجالات

وبقدر ما تؤكد هذه الأمثلة حضور اللغة العربية في قلب صناعة المصطلح، ولو على سبيل الصياغة الشكلية اقتراضاً وتعريباً وترجمةً، وهو ما ينكره الكاتب أو يتنكر له أصلاً، بقدر ما تقرر أن المعضلة لا تكمن في اللغة ذاتها، بل في مستعمليها الذين يتوجه أغلبهم إلى استقبال المصطلح الأجنبي واستعماله من دون وعي مصطلحي ولا ترجمي (من الترجمة)؛ فهم:

1 – يفضلون العمل فرادى، يحركهم، في ذلك، هوى الزعامة؛ فقد تجد أكثر تلك الأغلبية لا يحيلون إلى محاولات من سبقهم أو عاصرهم من الكتاب، استخفافاً وتغافلاً وتجاهلاً.

2 – يضربون بمبدأ الشيوع عرض الحائط؛ فتلفيهم يصطنعون، كلما سنح لهم رأيٌ، مقابلاً جديداً بحجة التأصيل اللغوي للمصطلح، لأن المصطلح المتداوَل، في نظرهم، لم يحترم القاعدة النحوية والمنوال الصرفي، أو بدعوى أن المصطلح الأجنبي لم يجرِ إدراك تصوّره بعمق؛ فتراهم يقولون بنائية وبنيانية وبِنَوِيَة بدل بنيوية الشائعة، وتشريحية وتقويضية بدل تفكيكية الرائجة.

3 – لا يؤصّلون للمصطلح حيث يجب التأصيل، لأن المصطلح المترجَم، في ظنهم، لم تعرفه الثقافة العربية ولغتها الميتة؛ فلماذا الاهتداء بمعاجم اللغة العربية مادام أن المصطلح غربي المنبت أجنبي المنشأ؟ بينما، وجدنا نقاد الأدب وعلماءه، هناك، يلمحون إلى الجذر اليوناني أو اللاتيني للمصطلح الذي يرومون ابتكاره أو إثراءه، على الرغم من أن الجذرين ينتميان إلى لغتيْن ميتتيْن؛ ففي كل مرة، يتم الحديث عن ثنائية histoire/discours، مثلاً، يُشار إلى الثنائية الجذرية اليونانية diégésis/mimésis.

4 – لا يحترمون مبادئ الترجمة وشروطها وإجراءاتها، كون الترجمة علماً وفناً في الآن عينه، توجِب على المشتغل بها أن يتصف بالعلمية والإبداعية؛ فقد يكتفي المترجمُ بالعلمية حين تمدُّه اللغة بوحدات معجمية وقوالب مبتكَرة يمكن أن تعبر عن تصورات المصطلحات المنقولة (التوليد اللغوي)، وقد يلوذ بالإبداعية حين يهمُّه أن يصبح المصطلح متيسراً للتداول والتوظيف في حال استعصائه على الترجمة من اللغة- المصدر إلى اللغة-الهدف (التوليد المعنوي). ويعتقد علي القاسمي أن وظيفة المترجِم ليست توليد المصطلحات [يُنظَر: علي القاسمي: «الترجمة وأدواتها؛ دراسات في النظرية والتطبيق»، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط. 1، 2009، ص 91] لغوياً و/ أو معنوياً، لأن تلك الوظيفة وقفٌ على عالِم المصطلح الذي يهدف، وهو يسعى إلى وضع معجم متخصص أو قاموس يضم مصطلحات ميدان معين، إلى توحيد المصطلحات في ضوء مناهج التقييس (standardisation). وهو ما يشي بأن مهمة ترجمة أي مصطلح، وليس المصطلح السردي فقط، مهمة مشترَكة بين المترجِم وعالِم المصطلح، بحيث يفترض أن يضطلع كل واحد منهما بوظيفة محددة؛ فوظيفة المترجِم تبدأ حين تنتهي وظيفة عالِم المصطلح؛ فهو يقوم، فقط، باستعمال المصطلحات التي يولدها عالِم المصطلح ويوحدها.

ولكن، يبقى هذا التمييز بين وظيفة المترجِم ووظيفة عالِم المصطلح إجراءً نظرياً لا يمتّ إلى واقع الترجمة بأيّ صلة؛ فغالباً ما يضطلع المترجِم العربي بعمل عالِم المصطلح؛ فيقترض، في سياق ترجمة أو وضع كتاب متخصص أو استثمار مفردات خاصة في تحليل النص السردي مثلاً، المصطلح ويعرّبه ويترجمه ويعدّله ويكيّفه، وينشئ القواميس التي هي من اختصاص عالِم المصطلح أيضاً. وقد ألفيْنا الباحثين الغربيين أنفسهم يمارسون الوظيفتيْن، معاً، في صياغة المصطلحات أو ترجمتها (الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنكليزية أو العكس)، مقرنين، في ذلك، بين تأليف الدراسات ووضع القواميس؛ فقد اشترك أوزوالد ديكرو عالِم اللسان وتزفيتان تودوروف عالِم السرد في وضع «القاموس الموسوعي لعلوم اللغة”، إلى جانب الأبحاث التي أنجزها كل واحد منهما في اختصاصه.

وتجب الإشارة إلى أن الترجمة تثير إشكالات جمة وخطيرة على مستوييْ الشكل والتصور في اللغات جميعها وليس في اللغة العربية فقط، حيث يلمح جيرار جينيت، وهو عالِم سرد فرنسي يهتم بتحليل الخطاب السردي، إلى الإشكالات اللغوية (وكذا التصورية التي قد تنجم عن سوء ترجمة الأشكال والدوال) التي تثيرها الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغتيْن الفرنسية والإنكليزية بقوله «ويمكن أن تتعقد الأمور على مستوى الصفات (أو على مستوى الترجمة، ويا للأسف!؛ فالكلمة الفرنسية والكلمة الإغريقية تتحايدان تحايداً مزعجاً في كلمة «diegesis” الإنكليزية الوحيدة، الأمر الذي يؤدي إلى الخطأ اللغوي كما عند واين بوث [...]). أما أنا، فأشتق دائماً (كسوريو طبعاً) «diégétique” من «diégèse”، وليس من «diégésis” أبداً، ولا يستنكف آخرون، أمثال ميك بال، عن معارَضة «diégétique” مع «mimétique”، ولكنني لن أرد على ذلك الجرْم”[جيرار جنيت: «عودةٌ إلى خطاب الحكاية»، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط. 1، 2000، ص 18، 19].

ويؤكد قول جينيت، مرة أخرى، أن معضلة ترجمة المصطلح لا ترتبط باللغة، بل بالاستعمال غير الصحيح للغة هنا وهناك. ولكن المعضلة تتضاعف لدى المترجِمين والمثقفين والمفكرين والعلماء والنقاد العرب، بسبب غياب مفهوم الاختصاص في الفكر العربي عامةً، وميادين البحث العلمي خاصةً. ونحن لا نريد بالاختصاص، في ميدان دراسة اللغة والأدب مثلاً، اختصاص الترجمة واختصاص علم المصطلح اللذيْن ينبغي ألا يتداخلا نظرياً على الأقل، إنما تلك الاختصاصات التي تنضوي إلى ميدان اللغة العربية وآدابها، حيث نلفي بعض الأكاديميين العرب لا يستقرون على مجال محدد يدرسونه ويمحّصونه ويتخصصون فيه؛ فهم يرتحلون من مجال دراسة الشعر إلى مجال تحليل السرد ومنه إلى مجال البلاغة أو اللسانيات أو الأدب المقارن أو يراوحون بينها جميعاً. ولا شك أنهم في ارتحالهم ذاك أو مراوحتهم تلك، لا يمتنعون عن الترجمة كلما عَنَّت لهم ضرورتها في التأريخ للغة والأدب أو التنظير لهما أو تطبيق المناهج المتعلقة بهما؛ ترجمة تفتقر إلى العلمية والإبداعية من جهة، وتغفل مبادئ العمل المصطلحي وطرائقه من جهة أخرى. وفي ظل غياب مفهوم الاختصاص، وفهم صحيح لفعل الترجمة والاشتغال المصطلحي، تتضارب المهام، وتتداخل الوظائف؛ فتأتي الترجمة حرفية وتحريفية، وتمتلئ الترجمات والدراسات والقواميس بمصطلحات ملتبسة تشقّ على الفهم والاستعمال.

إن ما أوردناه من أمثلة توضّح قدرة اللغة العربية على استيعاب المصطلحات الأجنبية، وأسباب تحيل إلى عجز مستعمِلي تلك اللغة عن توحيد المصطلحات، يسمح لنا بالقول، بعيداً عن كل سجال انطباعي عقيم أو ادعاء أيديولوجي متزمّت أو حماسة عرقية مفرطة، إن اللغة العربية قادرة على أن تكون لغة علمٍ، إذا تجاوز المترجِمون والمثقفون والمفكرون والعلماء والنقاد العرب أنانيتهم واحترموا مبدأ الشيوع وعنوا بالتأصيل ووفّقوا بين العلمية والإبداعية واستعملوا مناهج تقييس المصطلح ومضوا إلى مُساءَلة تصوّراته وإثرائها؛ فقد ألفيْنا معظمهم مولَعين بالألفاظ والصيغ ومكتفين بما جادت به قريحة الآخر من مفاهيم وتصورات. حينها، يستقيم اشتغال الترجمة، وتخفّ فوضى المصطلحات، ويتبدد قلق المتلقي وتململه؛ فينصرف إلى إدراك مفاتيح العلوم والتقنيات والمعارف والفنون والمهن واستثمارها. ولن يضير اللغة العربية، بعد هذا كله، إن كانت لغة دين ولغة أهل الجنة؛ فقدسيتها لا تعني، بخلاف ما يذهب إليه الكاتب، أنها محنطة ومحرّمٌ عليها أو على من يستعملها الانفتاح على اللغات الأخرى ومصطلحات الآخر؛ فالقدسية صفة يضفيها الإنسان-المقدِس على اللغة، كما يضفيها على الأشياء والظواهر والكائنات، في مقابل تدنيسه لأشياء وظواهر وكائنات أخرى يعتقد أنها لا تستأهل التعظيم والتحريم؛ فالذي يجعل اللغة ميتافيزيقية ووجدانية وفقهية، يستطيع أن يجعلها واقعية وعقلانية وعلمية. إن اللوم لا يقع على اللغة، بل على من يمارس الوصاية على اللغة باسم الدين أو العلم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.