لغز الحصان الأخضر
وقعت هذه الحادثة قبل يومين من عيد الفصح. كنت أقرأ جريدتي وأنا مستلق على السرير، عندما شاهدت حصاناً أخضر يحلّق فوق سحابة من البخار الشفاف. كان شعر رقبته يتراقص مثل ألسنة اللهب ويزفر من منخاره دخاناً كثيفاً أزرق اللون. السجناء عادة ما يأوون إلى أسرّتهم باكراً، لذا لم ينتبه لظهوره سوى ستة من نزلاء الجناح البالغ عددهم أربعون شخصاً. أنا وثلاثة مدمنين على المخدرات، سائق شاحنة متهم بتهريب عمال أجانب عبر الحدود الكرواتية، وعجوز كان قد قبض عليه قبل بضعة أيام بتهمة تزوير وبيع تذاكر مباريات الدوري العام، الكامبيوناتو دي كالتشو.
انتشر الخبر بين السجناء في وقت متأخر من صبيحة اليوم التالي، وقوبل بتحفظ شديد من قبلهم. كانت شهادتي وحدها لا تكفي، والمدمنون الثلاثة كانوا في حالة هذيان شبه دائم، بينما مصداقية سائق الشاحنة كانت في الحضيض. من بين رواياته التي أتحفنا بها أثناء ساعة التنفس، قصة عثوره على لؤلؤة بحجم حبة كرز في بطن أخطبوط اصطاده في البحر الأسود. ولم يكن العجوز يختلف عن الآخرين، ولكنه كان يحظى ببعض الاحترام. فقد أشاد به اثنان من الشبان المختصين بحوادث الشغب، لأنه كان يزوّدهم ببطاقات دخول إلى الملعب مجاناً. ولكن الشك تحول بعد يوم واحد فقط إلى يقين لا يقبل النقاش، وذلك بسبب السكون الذي خلّفه وراءه الحصان. كان سكوناً مخيفاً كأنما لفظته أحشاء الصحراء؛ سرابه المتوهج يخطف الأبصار، وزوابعه الصامتة تبعث القشعريرة في النفس. بدأ الجميع – بمن فيهم الحراس – يتكلّمون همساً، وألقى خوري السجن موعظة الأحد باللغة اللاتينية. ولاحقاً، نسي ثلاثة أشخاص أسماءهم، ووجد أحدهم سمكة حيّة في علبة السردين. بينما ادّعى نزلاء الزنزانة الخامسة أنهم سمعوا زفيره اللاهث في الليلة التي شهدت عاصفة قوية من المطر. أمام مثل هذا الوضع الطارئ، لم يجد زعماء العصابات المتنافسة بدّاً من مناقشة الوضع من كافة جوانبه، وقرّروا – وسط دهشة الجميع – إلغاء الرهانات على مباريات كرة القدم حتى إشعار آخر.
كان الحلم مغرياً، ولم يكن يوجد أيّ التباس في قوّة الحصان الخارقة، حتى أننا افترضنا أنه ربما هرب من إسطبل صحن طائر، وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فهذا يعني أننا سنجد أبواب الحرية مشرّعة أمامنا بعد فترة من الزمن. كان من الطبيعي أن تفرز هذه الظاهرة حالات غريبة أيضاً. فقد ألغيت زيارات الأهل والمحامين، وفي لحظة من الجنون الجامح، انتزعنا أجهزة التلفزيون من أماكنها وأودعناها الحمّام، إلى جانب أكوام الورق الصحي ومساحيق التنظيف. يجب القول إن هذه الخطوة اتصفت بشجاعة نادرة، لأن تلك العلبة السحرية كانت تعني لنا أكثر من رفيق خلال رحلة السنوات الطويلة.
بعد أسبوع من ظهور ذلك الحصان الغريب، وقعنا في حيرة من أمرنا: ماذا نفعل بكلّ هذا الوقت الفائض؟ سؤال مثير إلى درجة أنك لا تفكّر بالإجابة عليه. كانت خدعة الزمن لا مثيل لها بين تلك الجدران المصفرّة، ذات النافذة الوحيدة التي تحوّل السماء إلى مربع إسمنتي تتخلله قضبان حديدية صدئة. كانت دقّات الساعة تسابق صداها داخل تلك المساحة الصغيرة التي تعجز عن استيعاب رتابتها الكئيبة. كان الوقت موجوداً قبل ظهور الحصان، ولكنه كان مموّهاً – علّق أصغرنا سنّاً – ونحن يجب أن نكتشف ماهيته قبل فوات الاوان.
قضينا يومين في البحث عن علاج لهذه المشكلة، وكما يحدث مع كل الأشياء المهمّة، اكتشفنا الحلّ مصادفة. لسبب مجهول، كانت الخزانة المخصصة للتلفزيون أدنى من مستوى السرير بعشرة سنتيمترات، لذا كنا نضع تحته بعض الكتب التي كنا نحصل عليها مجاناً من دور النشر، أو بالأحرى كنّا نوصي عليها ولا ندفع ثمنها، لكي نحصل على رؤية جيدة ومريحة. ويبدو أن أحد زملائنا، بعد أن تخلصنا من جهاز التلفزيون، قد تصفح إحدى تلك الكتب حبّاً بالفضول، وعلمنا فيما بعد، أنه قضى تلك الليلة يقرأ بلا انقطاع، وتابع على نفس المنوال طيلة اليوم التالي. بعد مضي تسعة وأربعين ساعة، لمح بطرف عينه خيالاً شفافاً يكاد يلامسه. جمال المنظر، جعله ينسى إطلاق إشارة الإنذار للزنزانات المجاورة. بعد تلك الحادثة، بدأنا نقرأ جميعاً.
مضى الخريف وحلّ الشتاء، وبدأ البرد يذرف دموعه الجليدية على القضبان الحديدية، وعادت الغيوم تنساب بوقارها المعهود فوق السطح القرميدي. كان السكون يقاسمنا العيش، وعيوننا المطفأة من تعب السهر والانتظار، كانت تتشبث بآخر وهج من بريق الأمل. في تلك الفترة، كانت قد حدثت أشياء كثيرة في العالم الخارجي، وامتدت إلى عالمنا أيضاً. بغتة، بدأنا نرى ما وراء الجدران، وآذاننا تسمع زقزقة العصافير في الغابة المجاورة. تغير نمط حياتنا بشكل جذري، ولم نعد نشتكي من إهمال إدارة السجن في تنفيذ مطالبنا، وتخلّينا عن شتم القضاة والعدالة كما كنا نفعل في الماضي، وبالأخص عندما كنا نستيقظ بمزاج معكّر. أحاديثنا، بعكس السابق، اتخذت منحى آخر، بعيداً عن هموم الحياة اليومية ومتاعبها في السجن. استقطب اهتمامنا الحياة على الكواكب الأخرى، وطبعاً المخلوقات التي تسكنها، أكثر من أيّ موضوع آخر. ربما كان هذا الأمر يرتبط بخيط رفيع مع صديقنا الحصان الأخضر، رغم أن هذا التعبير سيبدو مغاليا بعض الشيء، لأننا لم نكن قد تعرفنا عليه بعد، إلا أننا في نفس الوقت، كنا نشعر وكأنه يعيش بيننا. كنا نسمع لهاثه بينما يعدو على سطح المبنى، وأحياناً كنا نصغي بانبهار إلى صهيله القادم من عمق الليل. صوت الحياة – كان يردد ماوريتسيو من مكانه في الزاوية، ثم يضع رأسه بين يديه ويشهق في البكاء - قتلت شخصين دون أن يرفّ لي جفن، أو تذرف لي دمعة، كنت أخشى البكاء. حينذاك، كان كارميلو يتابع قراءة الأشعار الأفريقية بصوت عال: "قنديلي يضيء وجه زحل المعتم، الكون يرقص على إيقاع قرعات طبول الصيادين في الغابة..".
في الممر، بعد أن يغلق الحراس الأبواب الفولاذية، كان صدى الأصوات الخانقة يتردد مثل همسات الأموات في ليلة عاصفة. وفي الخارج، كانت الرياح تزأر والأمطار تغسل صمت الأزقة الموحلة. "وإذا لم يحضر هذه الليلة؟ أنا لا أستطيع أن أنتظر أكثر"، قال ماوريتسيو بصوت خافت.
كنا جميعاً ننتظر أيّ إشارة يمكن أن تبرّر قلقنا، وأصبح واضحاً أننا بحاجة إلى معجزة تنتشلنا من هذا المأزق. الأطفال يحلمون، الطيور تحلّق في السماء والبحر يُغرق رمال الشاطئ بنشيد أمواجه، أما نحن، فماذا نفعل؟ وإذا تبين لنا أن الحصان ليس سوى موجة كهرومغناطيسية تسللت خلسة من أحد المختبرات السرية؟ عندئذ من يجرؤ على مواجهة الحياة؟ الأعداء الطبيعيون كانوا ينتظرون بمحاذاة الباب، من الرتابة والألم، إلى الخيبة المطلقة، وكان واضحاً أنهم مستعدون للانقضاض علينا في أول فرصة مناسبة.
- " من وضع قواعد اللعبة؟"، ارتفعت أصوات الاحتجاج من الزنزانة الثامنة.
- "أيّ لعبة؟"، أجبناهم بذعر ونحن نتراجع إلى الوراء مثل جنود فقدوا الرغبة في خوض معركة خاسرة.
- "المعرفة"، صاح ماوريتسيو، "نحن نعرف أشياء كثيرة"، تردد صوته بخمول عبر السكون المخيم في الممر الطويل.
دون وعي منّا، كنا قد تجاوزنا حدود المعرفة، بينما المآسي، كانت قد تفتتت في نفوسنا وفقدت وعيها على أعتاب النوافذ المغلقة. هنالك من استعاد طفولته وراح يقفز فوق السرير مثل هرّة تشكو من ألم في معدتها، وآخر تذكر قصة حبه الأول بعد أربعين عاماً وغرق في بحر من العواطف لم ينقذه منه سوى الانكفاء على الذات.
- "شيزوفرانيا مزمنة"، قال الطبيب الذي يعد دراسة عن الانحراف النفسي لدى المجرمين.
بعد ذلك، توقف تماماً عن الكلام، وقرر سلوك طريق التأمل ريثما يصل إلى مملكة الأحلام.
بعد أن عجزنا في العثور على إجابة مقنعة لتوترنا العصبي، نحن نزلاء الزنزانة الرابعة، جلسنا حول الطاولة في منتصف الغرفة، وبدأ كل واحد منّا يقصّ على الآخرين حكاية لا يعرف بالضبط أين سمعها، ولم يكن حتى متأكداً فيما إذا كانت حقيقية أم خيالية؟ كان ثمة صيادون يعاركون أمواج البحر ويعودون وقت الغروب إلى الميناء وقواربهم تغص بأسماك ضخمة تطلب الرحمة وتبكي دموعاً من دم، ومحاربون يخوضون معارك ضارية على سفح جبل جليدي يقذف من فوهته حمماً بركانية ملتهبة، وبلاد يعيش أهلها في الظلام بعد أن استولى أعداء مجهولون على الشمس التي كانت تضيء ديارهم.
في الأسبوع الثالث، لم يبق لدى أحد ما يقوله، وبدا أن عقولنا قد ضمرت مثل عود يابس. كانت تجربة من أقسى التجارب التي مررنا بها لدرجة أنها حجبت الرؤيا عن عيوننا أيضاً، ففي تلك الفترة بالضبط، عاود الحصان الأخضر ظهوره دون أن يتمكّن أحد من رؤيته. عرفنا ذلك من آثار حوافره التي تركها على بلاط الممر. ولكن بعد أن استعادت عقولنا حيويتها المعهودة، وجدنا الجدران مغطاة بكتابات ملوّنة، تبدو نافرة في النهار ومشعة في الليل. عبارات بسيطة وجميلة من تلك التي كنا نتعلّمها أثناء السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، مثل: "السماء زرقاء، الأرض معطاء، الجبال عالية، الحقول خضراء.. إلخ". نحن، على سبيل المداعبة، بدأنا نردد هذه الجمل بصوت عال ولساعات طويلة. غراتسيانو كرّر جملة "السماء زرقاء" ألفاً وستمئة مرة، وماوريتسيو ردّد جملة "الجبال عالية" ألفين وأربعمئة مرة دون توقف. بعد غروب اليوم الثاني وحلول الظلام، انفتحت الجدران وظهرت أمامنا سماء تضيئها قناديل ملونة وبحر لازورديّ يعانق الأفق.
- "تلك هي الرؤيا!"، ارتفعت الأصوات من الزنزانات الأخرى، "نحن أحرار يا شباب!".
من يصدّق حكايات الثلج؟ من يملك الجرأة على النظر في مرآة تذيب خياله الباهت؟ اللعنة يا شباب! النفق ليس موجوداً. كانت خدعة قاتلة. ماذا نفعل الآن؟ الألم بات ينمو الآن كثمرة ناضجة تهوي في قاع واد عميق، دون أن نتمكن من التقاطها.
- "يا حبيبتي، ربما لا تعرفين بعد مواطن العشق، والأرض التي دفنت أحلامنا الفجة. انتظري، سأخبرك عن كل شيء عمّا قريب. دقات قلبي ليست صدى لطبول القبائل البدائية. نداؤك أقوى من أن تسرقه الريح. ها هم يغنّون كما فعلوا منذ آلاف السنين، في أرض إله لا يعرفونه، وتحت سماء لا نعرف بعد إن كانت صافية أو غاضبة..".
- "هذا هذيان.. مجرد هذيان لا معنى له.. نحن لا زلنا نعيش داخل زنزانة مغلقة.. هيّا.. كفاكم أحلاماً..!". هدّد ماوريتسيو بنسف الرؤيا من الأساس. كنا نعرف بأنه يعني ما يقول. في المدة الأخيرة، كان قد بدأ يحدثنا عن أشخاص يلاحقونه في كل مكان، وأصوات تحمل بين طياتها رائحة دم عفن!
في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم السادس والخمسين، سمعنا من الزنزانة المجاورة صوت المعلق الرياضي، تلته إعلانات البسكويت والجوارب النسائية. قطع الصمت ضحكات ماوريتسيو وهو يشعل التلفزيون بعد أن وضعه في مكانه السابق، وراح يتابع بابتسامة عريضة المشاهد التي بدأت تتوالى على الشاشة. لم نجد بدّاً من الانضمام إليه نحن أيضاً.
بعد عدة دقائق، فتح الحرّاس أبواب الزنزانات وطلبوا منّا أن نخرج إلى الممر. وجدنا مدير السجن بانتظارنا، واقفاً بجانب حصان ضخم من البلاستيك. كان الخوري حاضراً أيضاً، يتأبط كعادته المحفظة الجلدية القديمة التي تحتوي على لوازم القدّاس. تقدّم المدير أربع خطوات باتجاهنا وربّت على ظهر الحصان، ثم تراجع إلى الوراء ودعانا بلطف شديد لامتطائه الواحد تلو الآخر. كانت أجمل لعبة مارسناها طيلة الفترة التي قضيناها في السجن.