لفافة من حرير

الجمعة 2016/01/01

أوقفني بنظرة وإشارة. كان يقف أعلى سلم منزله الخارجي. تقدمت ناحيته. ثنى ساقيه ليقعد. صارت رأسه في مستوى رأسي. قال لي:

- سيدى، طمأنني سمتك، وقلت لنفسي إنك الشخص الوحيد الذي يمكنني الوثوق فيه من كل الذين مروا من أمامي، فهل خانني حدسي؟

قلت مدفوعا بالحياء، وبالرغبة في المساعدة:

- لا. لم يخنك حدسك وإراداتى رهن أمرك.

دفع إليَّ لفافة من حرير قائلا:

- ها هنا كنز حياتي وحياة قبيلتي، فلا تضيعنا.

تناولتها. تحسست نعومة الحرير في يدى، وبشيء كالكرة، أو البلورة داخلها، شيء صغير لكنه ثقيل ثقل حجر كبير من الجرانيت. وضعت يدى اليسرى كي تؤازر اليمنى في حملها، وقلت له بينما ألهث:

- وما المطلوب منى بالضبط؟

- لا شيء سوى الوقوف هنا لدقيقة، أو أقل حتى أخرج لك مرة أخرى.

قلت مطمئنا إياه:

- الأمانة كنز لا يفنى.

كان قد دفع الباب واختفى من أمامي. اللفافة الثقيلة جدا دفعتني للنظر حولي كي أخفف عن نفسى هذا الإحساس بالضعف. نظرت لأعلى فإذا السماء غائبة تحت سيل من ظلام دامس لا يطرقه هلال صغير، أو نجمة تومض في البعيد، أو شبح سحابة عابرة. في الوقت نفسه كان الشارع يحيا تحت إضاءة قوية من ألوان مختلطة عجيبة. عدت للباب الغريب الذى تتلألأ ألوانه فتخطف انتباهي.

عاودت النظر إلى الشارع متمنيا أن ينظر لي أحدهم ويصمني بالمجنون، وأن ما وقعت فيه الآن هو مقلب من صاحب الدار الذى فعلها مع الكثيرين. حينها سألقى ما بيدي وأمضى غير مبتئس، أو عابئ بشيء، لكن أحدا لم ينظر في وجهى وهو يمضى أو يحدثني. ومرة واحدة ضربني يقين قاتل بأنني في فخ؛ لأن كائنات الشارع كانت تمضى مسرعة دون أن تلتفت نحوى، وأحيانا كانت تتلاشى من أمامي. في لحظة.. عدت ببصرى بسرعة للشيء الوحيد الذى أعرفه.. إلى باب الدار الفخم الملون، لأمسكه بعيني فلا يفلت. كان قلقي قد بدأ يتزايد.. وطوَّح بي قلق هائل حين فكرت في كل الاحتمالات التي لا تسيطر عليها إرادتي الهشة. لكن لمَ أنا مرتبك وخائف هكذا في أمر لو تركته لن أموت فورا؟

هل أُلَام على ما لا أقدر على السيطرة عليه؟ هنا شيء حقيقي أحس أنه أكثر وضوحا من شمس ساطعة. رجل خائف استأمنني على كنز حياته وحياة قبيلته وأنا قبلت بمحض إرادتي في وقت لم أكن أدرك فيه أنني لا أستطيع التحمل، فهل أخون الأمانة مدعيا أن معرفتي بواقع حالي جاء متأخرا، لذا فأنا لست مسؤولا عن أي شيء يحدث لي أو حولي؟

قلت لنفسي لو تركتك نهبا للاحتمالات سأتلاشى وسأجدني في موقف شبيهة وقد فقدت الثقة بقدرتي على التحمل أو الإيفاء بالوعود. ساعتها سأؤنب نفسى على عدم بذلي أي مجهود لفعل ما اخترته.

قلت أيضا: ما يضيرني لو فعلت أقصى ما يمكن أن أفعله. أن أقف مصلوبا هكذا أمام الباب الفخم الملون. ممسكا باللفافة بيدي. منتظرا صاحبها الذي قد يخرج في أي لحظة منقذا إياي من ورطة بطلها ضميري الذى لا يكف عن تأنيبي. كنت أقف ككلب الحراسة على وعد لن أُسأل عن تضييعه. في نفس الوقت لا أستطيع المغادرة. هنا شيء حقيقي وأكثر قسوة من مشهد جثة ملقاة في الشارع. لقد قال الرجل قبيلتي ولم يقل أسرتي، ألا يدفعك هذا للتفكير في مصائر عدد من البشر يتجاوز المئة فرد.. رجال ونساء وأطفال. أمان وخطوات وأحلام قد تُقصف في لحظة حين تمضي أنت غير عابئ بالآخرين.

قلت بعد قليل: فلأصعد لأطرق الباب حتى يفتح لي أحدهم الباب. أعطيه اللفافة وأمضى كما تُقدر لي المصادفات الغريبة، أو أضعها بجانب الباب. وشيء ما منعني. الغريب أنني ظللت لوقت طويل أراقب كل ما يتبدل أمامي وأعاود النظر إلى باب الدار فأجده كما هو. أنا شحيح البكاء وجدتني أنهنه فجأة، ثم تنفرط دموعي مدرارا كأنها تنثال من مخزن لا ينضب، وأتكئ على السلالم لاعنا الدار وصاحبها وبابها الملون. لم يأت أحدا ليطبطب على أو ليشاركني همومي التي لا تخصني مباشرة بل تخص آخرين تورطت فيها بمصادفة بحتة، وفى واقع غريب لن يحاكمني أحد بسبب المضي منه. لما ضبطت نفسي في موقف ضعفها ذاك قلت: وما ذنب الرجل؟ الذنب ذنب من حمل الوعد ولا يستطيع أن يتحمل حتى النهاية.

فكرت في الهرب، وشيء ما أمسك بي وقال: قف حتى النهاية. ورغما عني التزمت مكاني مختزلا كل أمنياتي في باب الدار الذى سيفتح حتما ذات لحظة عن وجه الرجل الغريب الذى يمد يده؛ ليسترد لفافته، ويعتقني.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.