لكل أمة أسطورتها

السبت 2017/07/01
لوحة: محمد عرابي

لم أكن أفكر ذات يوم في الكتابة للطفل، حمالا بداخلي كلمة أنطوان تشيكوف: الجحيم هو الكتابة للطفل.

ظللت سنوات تاركاً هذا الأمر بعيدًا عن اهتماماتي، وظلت عبارة تشيكوف سدا منيعا لا أستطيع عبوره، لكن بين الحين والحين كنت أقدم مقالاً لإحدى المجلات المتخصصة للأطفال عن الحروف الأبجدية وما تحمله من أسماء وصفات، مع العلم أن هذه الكتابات لم تكن تشبع ذاتي المتشوقة إلى عمل كبير للطفل.

إلى أن داهمني ذات يوم اسم رواية “هاري بوتر”، لم تكن مداهمة لشخصي بقدر ما هو مداهمة للعالم أجمع، ليصبح “هاري بوتر” انقلابا عالميا في فن كتابة الحكايات للأطفال، ما لبث أن اكتمل بسلسلة من الروايات التي تحقق أعظم المبيعات وتدر الملايين من الدولارات، ولم يلبث الأمر أن تحولت تلك الروايات إلى سلسلة من الأفلام الشهيرة بأجزائها، وليصبح “هاري بوتر” وكأنه إعلان من الغرب على خلق أسطورته الخاصة.

أعلم أن الشرق قد خلق أسطورته منذ زمن بعيد، هذا الزمن الذي كان فيه علاءالدين والمصباح السحري ورحلات سندباد وسيف بن ذي يزن وقطر الندي وغيرهما الكثير، صحيح أن كل ذلك أصبح من أسس وأعمدة الثقافة الإنسانية، لكن الأجيال الجديدة لا تعرف عنهم شيئا الآن.

لكن الغرب لا يعترف -أحيانا- بذلك، بل يريد أن يصنع أسطورته الخاصة، ولم يفعل الغرب غير أن يخلق في بداية الألفية “هاري بوتر”.

كان الأمر لي خانقا ولم أقرأ سطرًا واحد من تلك الروايات التي أراها عند بائعي الجرائد وعلى ظهرها مبلغ كبير من المال، ولم أشاهد أيّا من الأجزاء السينمائية، وبداخلي إحساس بالغيرة ضخم تجاهها.

وكان السؤال الساذج: ما العمل وما الذي أستطيع تقديمه؟

أعلم أن الكتابة للطفل لدينا في مصر تمر بالكثير من المعوقات، سواء في الكتابة أو النشر أو حتى على مستوي الميديا، لكن هذا لم يفتر حماسي في التفكير في خلق أسطورتي الخاصة، أنا لم أقل أن أصبح مثل “هاري بوتر” لكني لا أنسى أن لكلّ منا أسطورته.

وبدأت التفكير في كتابة رواية للطفل، على أساس شيئين أساسيين، أولهما البحث عن اسم جديد يرتبط في ذاكرة الطفل مثلما حدثا لنا في الماضي ومثلما حدث للغرب في العصر الحديث، وثانيا يجب أن يكون الاسم جديدًا وليس مستهلكا، وأن أكتب رواية وليست قصة للأطفال.

وعندما طرحت أفكاري على مجموعة من الأصدقاء الذين يشرفون على أحد المجلات للأطفال، البعض تحمّس والبعض وضع الكثير من المعوقات أمامي، حيث يعلمون أن الكتابة للطفل لن تصل بي لأيّ إنجاز في حياتي الإبداعية.

ولكن الكتابة ذاتها فعل وليست كلمات تتناقل في التجمعات أو جلسات الأصدقاء.

وبدأت العمل على فكرة إحدى قصصي القصيرة التي تدور عن اختفاء قمر مدينة بغداد وماذا يفعل حينها شعب بغداد بداية من السلطان والوزير إلى جميع الكائنات التي بدأت تشعر بالخطر الكبير من اختفاء القمر.

كان العمل في البداية قصة قصيرة ما لبث أن بدأ يتسع ليصبح رواية كبيرة للأطفال، تحمل اسم البطل الذي يخوض رحلة أسطورية لاسترداد قمر مدينة بغداد.. وكان اسم “شق القمر” اسم الرواية والبطل.

وبالفعل انتهيت من كتابة الرواية، لكن لم أعرف ما أفعل بها، فقد كانت خبرتي ضعيفة في هذا المجال، ولا أعرف طرق أبواب هذا العالم، سألت بعض العارفين بالأمور فما كان منهم إلا أن أخبروني أن طباعتها لدى دار نشر خاصة سوف يكلفني مبلغًا كبيرًا من المال نظرًا للرسومات والألوان وتكاليف الطباعة.

واتجهت بالرواية للقطاع العام: المركز القومي لثقافة الطفل والهيئة العامة للكتاب، وحقيبة كبيرة محملة بملل الانتظار.

بعد أكثر من عام جاءني تليفون من إحدى موظفات المركز الأستاذة عبلة عزمي والتي تثني على الرواية، فرحت جدًا واستبشرت خيرًا، ولكني علمت أن الأمور لا تأخذ بهذه السرعة، بل لجان وميزانية وأعباء أخرى بيروقراطية أجهلها.

المهم أن العمل تمت الموافقة عليه سواء في مركز ثقافة الطفل أو هيئة الكتاب. لكني أتمني أن أراه بين يدي، أن أتحدى “هاري بوتر” كما كنت أفكر.

ومع نهاية عام 2012 علمت أن العمل سوف يطبع في النصف الأول من عام 2013، فرحت جدًا وبالفعل قبل أن ينتصف العام مسكت العمل بيدي، كان العمل من رسومات الفنانة الجميلة سحر عبدالله، وقد اتفقنا أن تكون الرسومات بالأبيض والأسود، كي لا نزيد الأعباء على المركز، وخرجت الرواية للنور بعد أكثر من خمس سنوات أدور وألف أنا و”شق القمر” وننتظر أن نحارب “هاري بوتر”.

لكن كانت توجد مشكلة أكبر وهي أن المركز لا يبيع أعماله، أي لا يضع عليها سعر، وبالتالي فهي توزع مجانًا سواء للمهتمين بهذا المجال أو على التلاميذ في المدارس، مع أن بعض دور النشر الخاصة، كانت تريد أن توضع على أرفف البيع لديها، لدرجة أن الدكتورة فاطمة البودي الناشرة وصاحب دار العين، قالت لي تلك الجملة: يعني يطبعوا العمل ويدفنوه.

وهكذا انتهي جزء كبير من معاناتي أنا و”شق القمر” في رحلتنا مع الكتابة للطفل، لكن الغريب ووسط كل ذلك أن يطالب المركز بجزء آخر من الرواية.


لوحة: محمد عرابي

ابتسمت حينها ورفعت راية الاستسلام “لهاري بوتر”، وانحنيت احترامًا لمقوله تشيكوف: الجحيم هو الكتابة للطفل.

لم يكن استسلاما بقدر أن أعلم أن المعوقات كانت أكبر منّي ومن أفكاري التي تبدو في أحيان كثيرة ساذجة.

مع العلم وبعد كل ذلك، أنني قد حولت خلال كل تلك السنوات، هذا النص إلى مسرحية للأطفال، وتوجهت به إلى مسابقة الهيئة العربية للمسرح وكنت سعيدًا بأنها جاءت في قائمتها من أفضل الأعمال عام 2012.

لكن هذا لم يرضني. كما أنني قمت بعمل معالجة درامية لها وقمت بكتابة ثلاث حلقات كي تنفذ في التلفزيون، ولكن المعوقات كانت أكبر أيضا.

يبقي هنا سؤال يحيرني: إذا كنا نبحث عن طفل مصري جديد ونعرف اهتماماته وما نقدمه له وما يريده وما يحلم به، لماذا كل هذه المعوقات بعد أن أصبح أطفالنا -وهذه وجهة نظري- ينقلون كل ما يأتي إلينا من الغرب، سواء أجهزة أو ألعاب أطفال أو أفلام مقدمه للأطفال، فلم يكن “هاري بورتر” فقط الذي جذب الكثير من أطفالنا، فأصبحت أر: “أسبنش بوب” تلك الإسفنجة العجيبة، و”باز يطير” وصديقة “ودي الكاوبوي”، وسامبا وموفاسا في الأسد الملك وغيرهما الكثير.

المشكلة تكمن هنا في قنوات الاتصال مع الطفل المصري لدينا، وهو أمر لا يقوم به كاتب أو دور نشر بل أجهزة سيادية لديها كل المقومات وطرق التواصل.رولدينا هنا أربع وزارات يجب أن تعي هذا بما لديها من إمكانيات للتواصل مع الأطفال وهي: وزارة التربية والتعليم بما لديها من مدارس وفصول ومدرسين، ووزارة الشباب والرياضة بما لديها من ملاعب ومراكز شباب، ووزارة الثقافة بما لديها من أفكار وعقول وقصور ثقافة ومكتبات، ووزارة الأعلام.

كيف نقوم بتجميع كل تلك الوزارات في هدف واحد وهو الطفل المصري.

والطفل المصري المقصود هنا، سواء المتعلم أو المتسرب من التعليم أو أطفال الشوارع أو في الريف، هذه مشكلات تبدو عامة، لكن التجربة أثبتت بُعدنا كل البعد عن الشارع أو الملعب أو الفصل في مصر، نعم توجد بالتأكيد محاولات ولكن تبدو فردية لا تلبث أن تتلاشى أو يحاصرها الروتين وضعف الإمكانيات.

وأتذكر هنا خلال مسابقة “سهير القلماوي” التي أطلقناها في لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة في عام 2016/2017، أن الكثير من القصص التي جاءتنا من الأطفال قصص منقولة من الإنترنت أو شبة قصص، فقد كانت تحتوي على مواعظ بالنسبة إلى مشكلات كبرى لمصر، وكأنّ كل ما جاءنا عبارة عن برنامج “توك شو” لا يقدم إلا فضائح فقط، دون أن يقدم نصا أدبيا يثير شهية القارئ، بل إن كثيرا من القصص المقدمة كان الأبطال فيها أبطالا غربيين.

ويعيدًا عن أرض الكتابة، فنحن ما نلبث أن نطل بشخصية أسطورية أو جديدة تجذب الطفل، فما نكاد نلقي بها أو ننساها، ولا نستطيع أن ننمّيها، متذكرًا هنا ما حدث مع بوجي وطمطم في ثمانينات القرن العشرين، أو الطفل بكار في بداية الألفية، وكأن كلا منهم جاء وانتهي سريعًا، أو دخل المتحف ولم يعد يتذكره أحد.

الكتابة للطفل كتابة من الدرجة الثانية

بالنسبة إلى القدرة على تحويل تلك الأعمال للميديا حتى تستطيع أن تصل للطفل في كل مكان، فإنني قد عانيت من فكرة أن الكتابة للطفل هي كتابة من الدرجة الثانية، فإذا كان يوجد ممثل يحصل على أجره كاملا في عمل للكبار، فإنه للأطفال يحصل على نصف الأجر، وبالتالي هجر الكثير من الفنانين هذا المجال، مكتفين بأن يقوموا بالتعليق بصوتهم المميز على أفلام غربية بطريقة الدبلجة، مما جعل هذه الأفلام بصوت ممثلينا محفوظة لدى أطفالنا، بل توجد مقاطع كاملة يحفظها أطفالنا ويقومون بترديدها.

من ناحية أخرى فقد شاهدت خلال العام الماضي هجومًا كبيرًا بسبب إلغاء مهرجان سينما الأطفال لدينا، وقد كان السبب في الإلغاء بسيطًا جدًا، وهو أن الدولة المضيفة -مصر- لا يوجد لديها فيلم للأطفال تقوم بتقديمه أو بتمثيلها في المهرجان، وبالتالي ما الداعي لقيام هذا المهرجان على أرضها، فقامت ثورة من المستفيدين من المهرجان، وقد كنا نحاول أن نوجه ميزانية المهرجان لعام واحد في اتجاه صنع فيلم مصري أو فيلمين يستطيعان أن يقدما مصر ليس في مسابقة المهرجان، بل يكونا سفيرًا لنا في الغرب.

ولم يحدث حتى الآن أن تم صرف تلك الأموال لعمل هذه الأعمال الفنية، وكأنه عقاب للجنة التي قامت بإلغاء المهرجان لعام واحد.

أكاد أقول إن عالم الكتابة للأطفال في مصر صعب للغاية، وتوجد الكثير من المعوقات، مع أنني أرى الكثير من الكتاب لدينا يستطيعون منافسة “هاري بوتر” وغيرها بأعمالهم، فيوجد لدينا أمل فرح والدكتورة عفاف طبالة، والأستاذة فاطمة المعدول، والأستاذ يعقوب الشاروني والمبدعة سماح أبوبكر عزت، وغيرهم، إلا أن أعمالهم ورغم حصولهم على الكثير من الجوائز الكبرى في الوطن العربي والعالم، مثل جائزة أنا ليندا الدولية أو اتصالات الإماراتية أو جائزة الشيخ زايد، فإن هذا لم يكن كافيا حيث ظلت تلك الكتابات داخل كتب غالية الثمن لا يستطيع كثير من الأسر وأطفالهم أن يشتروها، وبالتالي لم تمتد يد “الميديا” لدينا لتحويل تلك الأعمال إلى أفلام أو مسلسلات للتلفزيون للأطفال، وقد كان يمكن لهذه الأعمال أن تقف أمام توغل الغرب بأساطيره وأعماله الخاصة.

إن الكتابة للطفل في مصر والوطن العربي صعبة للغاية، وأكثر من جحيم تشيكوف الذي توقعه.

وأتمنى أن يوجد مشروع قومي عربي يقوم بجذب تلك الأعمال وإخراجها من بين دفات الكتب، وأن نراها ملموسة كلعب أطفال يحملها الأطفال معهم أينما ذهبوا أو أعمال تلفزيونية ومسلسلات درامية، وهذا ليس سهلا كما أنه ليس مستحيلا، بأن تقوم هذه الجهات برعاية هذا المشروع لخلق أسطورة عربية جديدة في كل فترة زمنية ليستطيع أطفالنا السير خلفها كنموذج إبداعي وقومي وتراثي أيضا، بما يساهم لهذه الأجيال بأن تشعر بالانتماء لأوطانها العربية ومعرفة تراثها، أو رؤية ما يقف أمامها من تحديات.

ومع كل ما سبق، سأظل مصمما على خلق أسطورتي الخاصة بالنسبة إلى الطفل المصري، وأن أطلق ” شق القمر” بأسطورته الخاصة في مواجهة “هاري بوتر”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.