لماذا قراءة الكتب أفضل من مشاهدة الأفلام
هل شعرت أبدا – بعد قراءة رواية ما ثم مشاهدة فيلم مبني على أساسها – بخيبة أمل لعدم تطابق ما كنت تتخيله أثناء قراءتك للقصة بالمشاهد السينمائية التي تشاهدها. هذا أمر طبيعي جداً إذا فهمنا كمية المعلومات التي نتلقاها في الحالتين.
دائماً يَملئُ الدماغ المعلومات الناقصة الآتية من الطبيعة من وحي الخيال والتجارب السابقة، فالقراءة تنقصها حاسة البصر والسمع والشم وغيرها لتكتمل صورتها. لذلك يتدخل بمعلومات أخرى (معلومات مشابهة للحدث المقروء) من الخيال ليُكمِل الصورة. أما الافلام، فلا تنقصها حواس كثيرة، لا يقوم الدماغ فيها بمحاولات لترسيم الصورة المكتملة. هذه الخاصية في أدمغتنا البشرية تعمل أوتوماتيكياً بمجرد الكشف عن نقص في المعلومات المُستقبلة من المحيط.
مثلاً، عند تخطيطك لرحلة ما إلى مكان لم تذهب إليه من قبل، تبدأ بتخيل سيناريوهات جميلة جداً ورائعة وممتعة، مأخوذة أحياناً من الأفلام والمسلسلات المغامراتية، أو من الصور التي شاهدتها على الإنترنت عن المكان المسافر إليه، لكن سرعان ما تتضاءل تلك الخيالات وتضمحل تدريجيًا مع انطلاقة الرحلة. ولا بأس في ذلك، قد تكون رحلاتنا أجمل مما تتخيله عقولنا، آمالنا لا تخيب في بعض الأحيان.
يجدر الذكر أن لكل منا تجارب فريدة عشناها في بيئة فريدة وفي دماغ مميز، عندما أقول لك الكهرباء، ربما ستبدأ بتخيل الأعمدة التي تخرج منها الأسلاك، أو إن كنت داخل المكتب بعملك، تتخيل الأضواء المشتغلة، أو قوانين أوم والتوازي والتوالي إن كنت فيزيائياً. كل كلمة ترسم في عقولنا صورا مختلفة مأخوذة من دوائرنا العصبية التي تشكلت مع طفولتنا الخاصة وتجاربنا السابقة.
بفضل التكنولوجيات تراجعت الخيالات إلى الوراء وأصبحت التجارب التي نشعر بها ليست فريدة ومميزة لكل واحد منا، بل مشتركة وموحدة.
الذين يقرأون الكتب هم مميزون أكثر من الذين يشاهدون الأفلام مستوحاة من كتاب معين، لأنهم يستعينون بمخيلتهم الخاصة وتجاربهم السابقة لملء أحاسيس تكون مجردة في الكتب بينما متبينة في الأفلام ومشتركة عند المشاهدين. وهو الأمر نفسه عند الطلاب، فالطلاب الذين يقرأون الكتب المصدرية ويخرجون خارج ما يشرحه الأستاذ وما يبينه، يكونون أكثر إبداعًا من نظرائهم الذين يستعينون بمعلومات الأستاذ وشرحه.
قسمَت التقنيات بشتى أنواعها تخيلاتنا وتحاليل عقولنا إلى أربعة أقسام :
1- قسم التخيلات التامة: وهو عندما يبدأ الإنسان بتخيل في خضم عدمية المعلومات الواقعية المباشرة، كان الإنسان القديم في غياب التقنيات المعلوماتية يتخيل مثل ذلك. وهي تخيلات بحتة مستنتجة من التجارب السابقة والأفكار المميزة والتحليلات الدماغية للمعلومات السابقة. تكون عادةً غير مفيدة على أرض الواقع، الغرض منها التسلية، وغير معروف ما الذي يُشَغله ويطلق سلسلة أفعاله في دماغ الفرد.
2- قسم التخيلات الجزئية: يتشبث مخ الإنسان بجزء صغير من الواقع في البداية ثم يقوم برسم الدرب بنفسه وتخيل مساره مستعيناً بالمعلومات القليلة المستمدة من الواقع.
3- قسم التخيلات شبه المنعدمة: يتراجع الدماغ إلى الوراء قليلاً ليعيش التجربة واللحظة بدلاً من إتعاب نفسه بتخيل الظرف أو التفكير فيه كثيراً. مشاهدة الأفلام هي هواية قريبة من هذا القسم حيث ترتخي قدرات الدماغ البشرية ويفقد خياله قليلاً ليبصر خيال المخرج وصانع الفيلم. تجب ملاحظة أن الأفلام لا توفر كثيراً من الحواس، لذلك يعمل عقل الإنسان قليلاً للتفكير في تلك اللقطات التي تفتقر إلى أحد الأحاسيس الرئيسية، مثل الشم. وبعض الأفلام تحثُ المُشاهد على التفكير والتأمل، بالرغم من قدرة الدماغ المفيدة في تلك الظروف.
4- قسم التخيلات المنعدمة: تحدث نادراً في حالات طارئة ومباشرة التي لا تتطلب التفكير، مثل اللحظات المخيفة والصادمة التي تمنع الدماغ من الذهاب بعيداً والبدء بالتخيل، أو حتى التفكير والتحليل، ويكون هناك مجال فقط للأساليب والأفعال الفطرية (مثل سحب اليد تلقائياً من السطح الساخن). وفي بعض الظروف النادرة يتوقف الدماغ عن التفكير ويبدأ بعيش الواقع بلحظاته ويتحسس الأحاسيس مباشرةً دون فلترة العقل، وهذه تحدث عند المتأملين المحترفين الذين يجذبون انتباههم إلى اللحظة.
قررت أن أجرب هذه بنفسي، فاقتنيتُ كورساً متوفراً بثلاث صيغ (على شكل كتيب، وصوت، وفيديو)، الكورس هو من موقع TheGreatCourses، اسم الكورس كان: كتُب التي تهُم : مدينة الإله، مقدم من قبل أستاذ تشارلز ماثيوز.
في البداية، شرعت بقراءة الكتيب، ولاحظت أن خيالي بالفعل قد توسع، كل جملة رسمت صورة معينة في خيالي، صورة عن الحياة القديمة، الحياة التي عاشها القدماء، التي عاشها القديس أوغسطنيوس، تأملت الناس الذين تحدث عنهم القديس، أحسست بأنني على اتصال مباشر مع هذا الكاتب دون حائل يحول بيننا وأنا مُسَلمٌ تفكيري إلى حروفه ليرشدني إلى الصورة الصحيحة مستعيناً بتجاربي السابقة الخاصة والمعلومات المميزة المنقوشة في دماغي.
ثم بعدها استمعت إلى الكورس، هنا تغير الأمر، فقد كنت أسمع صوت تشارلز ماثيوز وهو يقرأ الكتيب، أحسست بغرابة لأول وهلة لأني لم أتوقع صوته أن يكون هكذا. لاحظت أنني أركز أيضاً على حال الأستاذ القارئ بدلاً من التركيز كثيراً على النص، راودتني أسئلة كثيرة عمّا يفكر فيه عندما يقرأ هذا الكتاب أو كيف استطاع انتقاء معلومات مهمة وترك الآخر، أو من أي مكان أتى قبل الدخول إلى الأستوديو وتسجيل صوته. لكنني ما زلت متخيلاً للسيناريوهات من خيالي الخاص.
وأخيراً، شاهدت النسخة المصورة من الكورس، ابتعدَت أفكاري وتخيلاتي عن العملية أكثر، حيث كنت مركزاً على الأستاذ وطريقة تحركه من مكان إلى آخر وطريقة كلامه وملابسه وشكله عامةً. كنت أعيش اللحظة مع الأستاذ بدلاً من التفكير في الأحداث التي عاشها القديس أوغسطينوس وعما يتحدث عنه في الكتاب. وكانت هناك بعض صور مرسومة لكنها لم تكن كما أتخيلها من محض تجاربي المميزة.
هكذا اتضح لي في النهاية أن قراءة الكتاب كانت أفضل بكثير من مشاهدة الفيديو عنه، لأنه أعطاني تجربة مميزة من خيالي أنا، وربطت المعلومات الموجودة بالفعل في دماغي مع بعضها، وحفزت عندي مشاعر مألوفة بنكهة جديدة في حدث جديد. ولم يحصل هذا مع الفيديو، في تلك النسخة شاركت الرؤية والأحاسيس مع كل من شاهدها.
علينا أن نختار ما هو مناسب لنا بين الأقسام العديدة للتخيلات لكي نقتطف أحسن المعلومات وأنفعها، فليس هناك قسم معين مفيد في شتى الحالات.