لم أجد كافكا
اختفى فرانز كافكا من المكتبة. لم أجد له أثرا يذكر بين رفوف الكتب في رواق الأدب العالمي. آخر ما أذكر كان وجه الكاتب الذي لا يوحي بأيّ تعبير لأوّل وهلة على غلاف روايته “المسخ” بجانب حشرة كبيرة، كان ذلك الأسبوع المنقضي.
ما شدّني إلى التعرّف على عالم الرّوائي الغامض هو ملامحه المرتبكة. ملامحه التي، في حقيقة الأمر، تقول كل شيء. حتّى كأنّه يطلّ على هذا العالم حاملا نقطة استفهام ضخمة ماشيا بها في طريق خال من البشر. فتّشت كامل الرّواق، كافكا ليس هنا.
أسأل العاملين بالمكتبة “ألم تشاهدوا كافكا؟ يجيبونني بالنّفي ثم يمضون إلى شؤونهم. وقعت عيناي على رواية “العجوز والبحر” لأرنست هيمنجواي، كان لذلك العنوان طعم الملح والحكمة.
هيمنجواي وكافكا متحلّقان حول نار موقدة.
- ماذا يريد؟ قال كافكا بعينين حادّتين محمرّتين.
أشعل هيمنجواي غليونه مجيبا:
- لا أعلم، هو كغيره من البشر، ماضٍ إلى ما ليس يدري.
في رواق الأدب العالميّ، كنت رفقة راهبتين وطالب جامعيّ نقلّب ونتصفّح الكتب بلهفة. نحتلّ أماكن بعضنا البعض ثمّ نعود إلى أماكننا الأولى. رنّ هاتف الطّالب، كانت موسيقى فيلم غلادياتور.
كافكا يصارع أسودا في حلبة رومانية، يناورهم ثمّ يلقي عليهم نقاط استفهام ضخمة فيختفون أو يصيرون جمادا. هيمنجواي يوزّع الأسماك على المشاهدين.
غادرت الرّاهبتان الرّواق، لم يعن لي ذلك شيئا، فشأن القادمين والمغادرين غير ثابت. واصلت البحث بصمت. لم أشعر بمرور الوقت، ذلك أنّ الرّواق قد شهد زيارات عديدة. لست أدري إن كنت قد أثقلت كاهل العاملين بأسئلتي المشتّتة بين الفينة والأخرى وسرعان ما تركتهم وشأنهم.
في نهاية المطاف سأقتني كتابا وأغادر. الكتب هنا كثيرة، منضّدة، ملهمة. أردت التهامها، بل السّباحة فيها. كنت كشيء متحرّك أنظر إلى الرّفوف بعينيْ مراهق يروم اكتشاف الحقائق. تذكّرت كافكا.
- أمازال جادّا في بحثه؟
يقول كافكا محرّكا جمرات صغيرة مؤجّجا نارا.
- لم يجدك.
غمغم هيمنجواي
- سيفنى، لا محالة.
- لننتظر.
واصلا حديثهما تحت نوارس محلّقة.
دخلت جوقة موسيقيّة تلمذيّة المكتبة، الصّغار يرتدون أزياء البحّارة. الرّواق يتماوج كشاطئ، صدحوا بالغناء. عزفوا. أنشدوا. قبعت أنصت. العاملون يستوفون دقائق يومهم المتبقيّة بفرح متصنّع. كان البحر يعزف له ولنا.
لم أيأس، جلست إلى طاولة لأرتاح. غالبني النعاس فأغمضت عينيّ، لكنّني لم أنم. بقيت كذلك أناور النّوم حتى اقتربت مني الجوقة منشدة فسحبت نفسي من المكان. انسحبت من الطّاولة، من الرّواق. لم أفكّر في شيء آخر سوى كتاب كافكا.
- القمر صامت.
قال كافكا بصوت خافت.
- القمر فرح لأفراح السّمك. أجاب هيمنجواي. أتراهُ أسْودَ؟
- ربّما بنيّا.
- والأسماك؟ كيف تراها؟
- سابحة، كضوضاء خفيفة.
- وأنت؟ كيف تراك؟
- لا أدري، أمازال في المكتبة؟
- يناور نوما ولعنة.
- أريد سمكا مشويّا.
- سنصطاد غدا. سنعيش صيدًا.
- حدّثني عن البحر إذن.
- البحر حياة تعاش ولا تُحكى.
- سأيمّم نحو البحر الأسود لمّا أصير شيخا.
قال كافكا مشيّعا بصره صوب تلال بعيدة.
انتهيت إلى رفّ شاحب، في ركن منزوٍ آخر المكتبة من الجهة الخلفيّة، كان رواقا فارغا. سحبت كتابا تلو آخر، روايات ودواوين. انهمكت في تصفّح ملاحم الإغريق والفينيقيّين، حكايات الحضارات البدائيّة وكلاسيكيّات المسارح العالميّة. الوقت ينتشي بوجوده عازفًا مبتدئًا حتّى خفتت أضواء المكتبة وقلّت حركة الزّائرين.
شارفت المكتبة على الإقفال وتململ بعض العاملين من ضجيج بعض القرّاء غريبي الأطوار، لم أجد سببا وجيها لمغادرة المكتبة. لم يبق في هذا الرّف سوى كتابين. الكتاب الأوّل كان موسوعة للمصطلحات الفلسفيّة القديمة. لم يكن ذلك ضمن مقترحات قراءاتي في الوقت الرّاهن. الكتاب الثّاني كان بلا عنوان بغلاف أبيض. تصفّحته بدافع الفضول، كمحاولة أخيرة لإقناع ذهني باختفاء كافكا. كانت جلّ صفحات خالية بيضاء إلّا من بعض الرّسومات الغريبة. لبثت محاولا فكّ بعض تلك الرّموز المبهمة، حتّى تجلّى لي وجه كافكا بنظرات حائرة وملامح واجمة.
كان هيمنجواي يصطاد غير بعيد عن الشّاطئ لمّا انهمك كافكا في تحريك الجمرات في صمت وحيرة.
تكلّم عون الاستقبال من مكبّر للصّوت معلنا موعد إقفال المكتبة. وضعت الكتاب جانبا على أن أعود لتصفّحه في وقت لاحق. هممت بالمغادرة، وكلمّا اقتربت من باب الخروج الرّئيسي تعلو الصّرخات ويعمّ الهرج. لم أجد تفسيرا لذلك بيد أنّني لاحظت تيبّس جلدي. هزلت يداي وصارت أطول من المعتاد واتّسعت عيناي بشكل سريع. بعد دقائق قليلة كنتُ حشرة ضخمة تتهدهد في سيرها أمام المكتبة المطلّة على شارع المحكمة.
كافكا ينظر إلى أمواج البحر المتكسّرة على الجرف الصّخريّ أين لاح قارب هيمنجواي مبشّرا بصيد وفير.