ليس للناقد من يكاتبه

مقاربة في “رائحة المعنى” لمحمد صابر عبيد
الخميس 2021/04/01
لوحة: فؤاد حمدي

يخرج د. محمد صابر عبيد في أغلب مقالات كتابه “رائحة المعنى” بأجزائه الأربعة عن حدود النص الأدبي الذي كان دوما ملعبه الأثير في ممارساته النقدية التي أنتجت عشرات الكتب والدراسات، إنها حسب قوله “مقالات حرة تعكس حاجة ذاتية لقول ما لا يتحمله الشعر، ولا تستدعيه الدراسة النقدية المعمقة ذات الطبيعة الأكاديمية القائمة على الفحص والنظر المنهجي والتحليل والتأويل” (ص ص7 – 8). لينفتح في تأملاته الثقافية الحرة على نصوص العالم غير اللغوية بمختلف أصنافها المادية والمعنوية مثل (السينما/الأمن الذاتي/الصورة/المرايا/الألوان/مفاتيح البيانو/الأرشيف/الألقاب/التمثال/الحب/التفاحة/الديك/الخوف/ الباب/المأدبة الهاتف/الأمل/السفر/الرائحة..).

ويبدو لي أنه قد وصل مرحلة من التشبع والتخمة في الممارسة النقدية داخل النصوص، فخرج منها باحثا عن مغامرة جديدة في نصوص أخرى أغلبها يقع خارج اللغة ، تلبي المرحلة الجديدة من تجربته الحياتية والفكرية، التي أراه فيها متأملا يستمتع بالتأويل وشمِّ المعنى، لا ناقدا ينشغل بالتنظير والتطبيق والبحث عن صيد ثمين، وأجده – هنا – قارئا بمزاجية مترفة، مسترخيا حدّ النعاس في اختيار الموضوعات وتوصيفها بما يشبه لغة الحالم، وبحرية أكبر في التعبير مما كانت عليه حريته في أيامه النقدية الماضية التي كان فيها أحيانا ملتزما بالممارسة النقدية كتابة أو إشرافا أو مشورة أو تدريسا، أو تحضيرا لمشروع، ولاعتبارات عديدة تفرضها عليه مهمة وصفه بالناقد والأستاذ في آن واحد، وهو تحت ضغط الانتساب الأكاديمي وليس الانتماء لأنه لم يكن في يوم ما منتميا تقليديا للأكاديمية إلا بقدر التسمية، فضلا عن ضغط الالتزامات الثقافية التي تستوجبها علاقاته الواسعة مع الجهات الأدبية الفردية والجماعية والمؤسساتية المحلية والعربية.

وإن كان محمد قد تحرّر (بالكامل) من قيد الانتساب الأكاديمي بعد التقاعد، فإنه أيضا يبدو على وشك التحرر من الالتزامات الثقافية الأخرى، أو في الأقل ابتعد عنها بمسافة ليست كالسابق، وهو على عتبة الوصول إلى التوصيف الجديد له كونه “القارئ المتأمل بترف” من وجهة نظري ، أو “اللاعب باللغة والمعنى” كما يزعم، وأؤكد هنا على توصيف تأملاته تحت شبه الجملة “بترف” لأن أغلب ما أنتخبه  من موضوعات في كتابه “رائحة المعنى”، يعد في خانة الاهتمام المترف والهامشي الذي تشاركه فيه نخبة ثقافية منتقاة تستمتع بـ”رائحة المعنى” وليس المعنى نفسه، ولا تعد تلك الموضوعات من “الضروري المركزي” الذي يمكن أن يكون محور اهتمام جمهور كبير وعام من القراء ممن ينتظرون باهتمام هذا الهدف الثاني من الكتابة، وممن يريدون من يعلمهم المعنى نفسه لهذا العالم وعلاماته المعنوية والمادية المركزية غير مبالين برائحة المعنى وحافاته، فما الذي يمكن أن يدفع ذلك الجمهور العام إلى الاهتمام بقراءة مقال تأملي مثلا عن “الباب” (ص 9/ج2) ، أو “لوحة مفاتيح البيانو” (ص114/ج4)، لكن ذلك الهدف الثاني ليس في سجل الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها محمد صابر وهو من صرح أكثر من مرة أن النقد والكتابة لديه كلاهما مجرد لعبة يستمتع بممارستها ليشعر بالبهجة، كما صرّح بأنه غير مؤهل ليكون معلما للآخرين “لم أكن معلما ناجحا على مدى أربعين سنة خدمة في التعليم” (ص169/ج 4).

وغير مجبر على أن يكون تحت هذا التوصيف الافتراضي حتى لو كانت له مسيرة طويلة في سلك التعليمين الثانوي والجامعي، فهو بمرونته النفسية والثقافية لا يستطيع منع الآخرين من تصديق تلك الافتراضات مثلما لا يمنع نفسه من الشك بصحتها، والاشتغال التطبيقي بعيدا عن تنظيراتها، وما اشتغالاته الـتأملية في كتابه هذا سوى التطبيق بأعلى درجاته لفكرة اللعب التي يحتال بها – بلاغيا – علينا لنصدقها كي يتخلص من مسؤولية دوره “ناقدا” و”معلما” و”أستاذا” وما تستوجبه تلك المسميات من فروض جدية ومهام ثقيلة يقع جانب كبير منها خارج طاقته المزاجية ومساحات حريته الشخصية شبه المقدسة لديه، ولا أحسب أن محمدا غير قادر على القيام بذلك كله لو أراد أو لو كانت الفروض السابقة وأدوارها ضمن طقوسه النرجسية المبجلة، وإنما هو غير راغب بفكرة الرضوخ لها لما فيها من القيود الكثيرة وإلى الحد الذي  يتعارض مع حريته ومزاجيته وشغفه بـ”حياة المتعة” أو كما يصفها “حياة أكثر نورا وبهجة وتأثيرا” (ص 8/ج 1) وليست “حياة التعب والنكد” التي ترافق تلك التوصيفات لاسيما في البيئة العراقية المختنقة بحياة الواجبات والفروض، المستلبة لخصوصيات الذات.

----

حتى وهو يلعب في فضاء الكتابة كما يريد منّا أن نصدقه، فإنه ليس لاعبا هاويا، وإنما هو محترف بإتقان ومهنية عالية جدا فالكتابة لديه “معادلة تحتاج إلى قدر من الوعي والموهبة والفهم والإدراك والحساسية وإجادة أصول اللعب في الحالين.. الكتابة تحتاج  مساحة كبيرة من الوقت والتأمل والمراجعة والتفكير وإعادة الصياغة وتسخير الإمكانيات الكتابية كلها” (ص ص 34 – 35/ج 4).

ومقولة اللعب التي يتبناها في الكتابة والنقد، وأكد عليها بإصرار كبير مؤخرا في محاضرة، جرت في اتحاد الأدباء والكتاب بنينوى بتاريخ 16 / 1/ 2021، بل أقسم على صدقه في مقولته تلك وأنا من الشاهدين على القسم وليس الصدق نفسه لأني أنظر إليه كما نظرت العرب إلى أعذب الشعر، أجد ما ينقض تلك المقولة أيضا، ويتفق مع رؤيتنا لها بوصفها مجرد حيلة بلاغية، في تصريحه بالكتاب عن مكانة النقد التي لا يمكن أن يكتسبها إذا كان مجرد لعب باللغة والمعنى من أجل المتعة فحسب، يقول محمد صابر “ينبغي أن تتهشم السلطات كلها في حضرة النقد حين يرتفع هذا النقد إلى مقامه الحضاري القادر على قيادة الأمم، فمستقبل الشعوب كما يقولون مرهون بتحضر نقادها وحداثتهم ومعرفيتهم وعدالتهم الفنية والجمالية، لا سبيل إلى حضارة بوسعها أن تنتمي بقوة وكفاءة وجدارة لنادي الحضارة العالمية من غير مكانة متألقة ساطعة لنقادها” (ص 54/ ج 2)، كما يؤكد أهمية النقد وطابعه الاحترافي البعيد تماما عن اللعب في مقال آخر عن “النقد وما أدراك ما النقد !/إلى مهرجي الدراهم الزائفة”، يضع فيه محمد صابر مواصفات “النقاد” أو كما يسميهم خلف الأحمر بـ”العلماء”، التي تنطبق على من نجد لديهم “منهجية الدرس النقدي وأكاديميته ومعرفيته ورصانته، على الرغم من مجاهرة الكثير من النقاد الحداثيين المعاصرين بشعرية الممارسة النقدية وإبداعيتها واستقلالية خطابها الأدبي، وهم محقون من وجهة نظرنا الحق كله، فما بين ظل العلمية ومشارف الإبداعية يولد الخطاب النقدي الأصيل بأعلى كفاءة وأقوم أسلوب وأوضح لغة وأجمل صياغة وأبلغ رسالة” (ص ص 21 – 22/ ج1)، فإذا لم يكن محمد صابر من هذا النوع من النقاد الفرسان وهو جدير بذلك وشاهده منجزه ، أو لم يرتض أن يكون كذلك لسبب مزاجي أو لآخر كعادته في الانفلات من أي تحديد فإنه سيقف أمام الخيار الثاني من عنوان مقاله وأعني صنف “مهرجي الدراهم الزائفة”.

حتى فكرة كونه معلما فاشلا كما يصرح في مقاله “المعلم” (ص163/ ج4)، أجدها بوحا ضمنيا ليس بالتنازل المجاني عن تلك المهنة العظيمة تحت لافتة التواضع التي ارتسم عليها ذلك التصريح وأراد تمريره علينا، وإنما الاعتراف بالفشل في حمل صفة المعلم نابع من كونه أكبر من هذه الصفة المؤسساتية، وإنما هو معلم بالمعنى الأوسع لها كما في المعنى المصري الشعبي، أو لنقل هو سعى دوما  ليمتلك “رائحة” معنى “المعلم”، والرائحة لا تحدها حدود ولا تدركها بصيرة أو بصر، أو قراءة عادية، وأجده يلتقي تماما مع صفة المعلم التي تخلى عنها، عندما يرى المعلم بوصفه من يقوم “بمهمة حضارية طليعية تنويرية لا يمكن أن يقوم بها سواه …فلا تبدأ الحضارة إلا من عتبة المعلم” (ص 163/ج 4)، وبذلك يلتقي المعلمون مع النقاد بوصفهم أيضا “قادة الفكر التنويري النهضوي الذين يحررون العقل الوطني والقومي من براثن الرجعية والسبات والأمية والعمى والجهل والتعصب والدراهم المزيفة” (ص 26/ج1)، وهذا الأمر يؤكد لنا أن فكرة النقد بوصفه لعبة للمتعة كما يزعم محمد صابر لا يمكن أن يصدقها عاقل يقرأ كلامه السابق عن مكانة المعلم والناقد، فيستطيع استثناءه من النجاح في أداء دورهما.

تلك كانت حصيلة أولى لقراءتي في كتابه المتعدد الأجزاء “رائحة المعنى”، وأحسب أن ما دونته في قارورة هذه الكلمات لم يكن سوى روائح لمعان عديدة أخرى، تعبّقت بها قراءتي وأنا أسير بين الصفحات.. ولعلي أكون ممن كان الناقد يكاتبه، في هذه المرحلة النخبوية من تجربته،  كما في مقاله “يقين الوهم” (ص 93/ج4) وتناصا مع رواية ماركيز “ليس للكولونيل من يكاتبه” التي استشهد بها في المقال وانبنت الفكرة عليها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.