ليليت وحواء
استيقظت البشرية على حضور امرأة أولى في وعيها البدائي، تجسدت في كافة الأديان والثقافات والأساطير، بوصفها حواء، المرأة المخلوقة من ضلع الرجل، هذا الضلع الناقص الذي اكتمل بوجودها، والذي لم يُخلق من مادة أخرى، معزياً للفكر حالة التبعية والعبودية والخضوع، لهذا المخلوق الذي خُلِقت منه امرأة حنون، وفيّة، مخلصة، مضحية، تهتم بالأطفال.
لكن البطريركية الذكورية المتعالية، وبحركة سلطوية إقصائية، أبعدت ليليت المرأة التي سبقت بحضورها وتجسدها حواء، الزوجة الأولى لآدم وفق سفر التكوين. وهذا الإقصاء لم يأت عن عبث، بل كان مرحلة مارس معها الصعود الذكوري في المجتمعات المتحولة من نظام اقتصادي أمومي إلى نظام يسيطر فيه الرجل بسلطته الراجحة عن طريق إخضاع المعادل المؤنث لوجوده، وكما في كل بدء في البدء خلقت ليليت كما خلق آدم من التراب نفسه.
تمثّل أسطورة ليليت الجزء المحرّم من النفس الأنثوية، امرأة مستقلة وفاعلة جنسياً، ترفض الأمومة، وترفض الخضوع للرجل، معلنة مساواتها معه. قدها المجتمع البطريركي أمثولة للمرأة الشهوانية، وقاتلة الأطفال. بناء على هذا الفكر تم بناء صورة مزورة للمرأة الباحثة عن حريتها، من باب شيطنتها.
شكّل هذا التناقض للصورة الأنثوية وجهين متنافرين، يمتلكان مشاعر عدائية، وإسقاط أحكام، وتقييم، من المرأة نفسها تجاه المرأة، بين حالة الراهبة والقديسة. ومن جانب المخيال البطريركي الذي يُعادي المرأة ليليت علانية، ويشتهيها سراً.
هذا التناقض جعل الفكر البطريركي ينهض في أوج سلطته على تطويع المرأة، بكسب فئات واسعة من النساء إلى صفه، بتعزيز تربيته الذكورية داخل مجتمع النساء، وإقناعها عبر عشرات الآلاف من السنين بأن الصورة المثالية للمرأة كما يعلنها هو، وكما يصدرها هو، وإن الجانب الآخر للمرأة المنفصل عنها والكامن في صوتها الداخلي هو جانب ساقط، يحاكمها على كل نأمة فيه مجتمع مسير بفكر ذكوري إقصائي مريض يعيش ويتنفس فيه هواء الفكر الفاسد كلا الطرفين.
فبات الهاجس الأول والأخير للمرأة إرضاء الرجل في سريره أولاً، وإرضاؤه في جميع رغباته، ابتداء من تملكه لها في عقد القران مقابل مهر أو عقد نكاح كما يسمى، يعني لغوياً الرفس بالقدم، والتعامل معها كملكية خاصة مثلها كمثل المفروشات. مضافاً لذلك تحفيز شعور التنافسي مع المرأة ليليت، بإثارة الغيرة والحسد وإطلاق الأحكام، كي تعادي المرأة نظيرها المشيطن وهما، معا، صورتان بائستان للمخلوق نفسه.
تبدأ المرأة حواء بإبداء فروض الطاعة والخنوع للرجل، وتبدأ بفقد ثقتها بنفسها مقابل تحقيق ما هو مستحيل، أي ملكية الآخر الرجل والسعي في ماراثون للحفاظ عليه من المرأة ليليت، والتي بشكل أو بآخر تكرست منذ بدايات التربية، فتلعب دور الضحية، ويمارس الرجل دور الجلاد، فيجلدها بكرمه أو بخله عليها بالمشاعر، لتعيد محاولة إرضائه كلما تغيرت مشاعره نحوها، مقصية نفسها من حضورها الإنساني. وتتملّص المرأة ليليت من حكم الرجل الذي يعاديها بسلاحه الأخطر شبيهتها المرأة المستكينة، لتدخل المعركة الموروثة عبر الأجيال في “حريم السلطان”.
قرون لا تحصى عدداً مرت، ولم تتغير هذه الصورة، فالتربية مضافاً إليها تقاليد المجتمع، ماتزال، في مجتمعات الشرق، تكرّس حالة الخضوع وتنهي طموح المرأة عند عتبة الزواج، من دون أن تتمكن غالباً من تلقين أبنائها معرفة متمردة تليق بالكائن الإنساني عبر رحلته الفردية القصيرة. منذ نعومة أظافر الفتاة تُربى لتصبح زوجة فاضلة ضمن المفهوم الفكري السائد للمرأة الفاضلة، وبذلك تشكل المرأة الطموحة مصدر قلق للمجتمع الذكوري، وهذا ما يبقي الصراع مفتوحاً على كل الاحتمالات، ولكن أيضاً على ما هو مأساوي في مصائر العلاقة بين الجنسين.
لم يقتصر هذا الصراع، إذن، على تناقضات الصورة الأنثوية بين ليليت وحواء، بل تعداه ليصبح صراعاً بين حواء وحواء، حيث يعمل الإعلان المرئي في عصرنا على تكريس حالة البرمجة للصورة المثالية في الفكر المجتمعي محاولاً بذلك الترويج للسلع، من خلال جسد المرأة كأيقونة مثالية، علماً أن الرجل لا يلعب الدور نفسه في الترويج من خلال جسده إلا فيما ندر.