لي هاروود..
منذ بدايته، امتاز شعر الشاعر البريطاني لي هاروود بالعلاقة الجدلية بين الانفتاح والانغلاق، والحاضر والماضي، والحركة والسكون، والداخل والخارج، وبين المكان والفضاء. لكن علاقته مع المكان والفضاء، متحركة دائماً، ويمكن تقسيمها غلى مرحلتين: جغرافية وذهنية. خلال المرحلة الأولى، الممتدة من الستينات حتى منتتصف السبعينات، التي يمكن أن نطلق عليها" فترة الانسلاخ عن المكان"، " أو " الفترة الأطلسية"، كما أطلق عليها، 1 غلب على الشاعر الاهتمام إلى درجة كبيرة بالأمكنة كجغرافيا، أكثر مما كونها أمكنة تخلية أم مجردة، على الرغم من أن هناك قصائد في هذه المرحلة كانت منفتحة على المجرد والمنظور التخيلي أو التصوري. والمقارنة بين قصائد الشاعر الاولى والمتأخرة، تتيح لنا تفحص التطور الذي حصل في علاقته بالمكان والفضاء، ارتباطاً مع تطور لغته الشعرية، خاصة في الثمانينيات فصاعداً، حين أصبحت قصائده منشغلة ذهنيا أكثر بالمكان والفضاء، وباتت لغته أكثر صقلاً، كما أصبحت، مساحة تحركه شعريا أكثر تنوعاً، وتعدداً، وعفوية أيضاً، متأثرا بما سمي بـ" المجال المفتوح"، كما عند شعراء مدرسة نيويورك، ومستفيداً تكنيكياً من الدادائية والسوريالية.
ولكن علينا، قبل كل شيء، أن نحدد ما نعنيه بالمكان والفضاء" ما دامت العلاقة بين المكان والفضاء تملك تاريخاً معقداً، وأحياناً متناقضاً، في النظرية الثقافية والاجتماعية أواخر القرن العشرين."2
بالنسبة للمفكر الفرنسي غاستن باشلار، المكان هو البيت " ركننا في هذا العالم... كوننا الأول... كون حقيقي بكل معنى الكلمة".3 فنحن نسكن حيزنا الحيوي، الذي هو البيت، بالتوافق مع كل ديالكتيكيات الحياة، وتصبح لنا جذور، يوماً بعد آخر، في ذلك" الركن من العالم". البيت ليس مجرد عليّات أو غرف تحمينا من الخارج، بل مكان للخيال والذاكرة، بالإضافة إلى كونه مكاناً واقعياً. نحن نعايش البيت واقعاً فعليا وافتراضيا، من خلال الأفكار والأحلام. ومن هنا، هو يرتبط بالذاكرة والوعي، والوجود المتخيل والحقيقي. يقول باشلار:
"البيت هو واحد من القوى الكبرى لتساوق أفكار ووذكريات وأحلام الجنس البشري. والعنصر الرابط في هذه العملية هو أحلام اليقظة. إن الماضين والحاضر، والمستقبل تمنح البيت ديناميات مختلفة، وهي غالباً ما ما تتداخل، وأحياناً تتعارض، مع الآخرين، محفزة الواحد بعد الآخر".4
ويرينا باشلار كيف أن الفضاء يشكل طريقة عيشنا، وفهمنا لأنفسنا والآخرين، لأن البيت هو ملجأ لنا من القوى الخارجية، بالإضافة إلى كونه فضاء للعقل. وأن نصف مكانا كـ" بيت"، هو اعتراف بعلاقته مع ذواتنا، ولكي نحقق شعورا متبادلا بالانتماء. ولكن في الوقت نفسه، فأن عيش الفضاء جسدياً يمكن أن يجعلنا نشعر بالجور. وهكذا، فإننا نتأثر إيجاباً وسلباً بمحيطنا، ونكتسب خصائص المكان( البيت).5
أما بالنسبة للمفكر الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر، فأن الفضاء هو نتاج اجتماعي، أو بناء اجتماعي معثد، وأن كل مجتمع بنتج فضاءه الخاص. وهو يقول في كتابه" إنتاج الفضاء"، بإن الفضاء الاجتماعي يُنتج ويعاد إنتاجه بالارتباط مع قوى الانتاج، ولكنه ليس شيئاً ضمن أشياء أخرى، وليس نتاجاً ضمن نتاجات أخرى، ولكنه يصنف الأشياء ويستوعب علاقاتها الداخلية وتزامنها، غير أن تمثلات الفضاء هذه مقيدة بعلاقات الانتاج، وبالنظام الذي تفرضه هذه العلاقات:
"الفضاء هو نتاج اجتماعي تهدده القوى الاجتماعية والسياسية( الدولة) التي تشكل خطرا على هذا الفضاء، وتسعى، ولكنها تفشل، في السيطرة عليه كلياً. إن الفضاء الاجتماعي يتكشف بخصوصياته إلى الدرجة التي لا يمكنها معها تمييزه عن الفضاء الذهني. والعامل ذاته الذي يُخضع الواقع المكاني باتجاه نوع من الاستقلالية غير المسيطر عليها، يسعى إلى الدفع بالفضاء الذهني إلى الارض، ثم يقيده ويستعبده". 6
وبالنسبة إلى لوفيفر، هناك تطور متواز بين هيمنة الرأسمالية في الغرب الحديث وإنتاج الفضاء المجرد. فالرأسمالية، مثل الفضاء المجرد، قد خلقت التجانس، والهرمية، والتشظي الاجتماعي.7
تحدد دورين ميسي في كتابها" من أجل الفضاء"، ثلاث خصائص للفضاء: أولا، إنه نتاج علاقة متبادلة، تتشكل خلال التفاعل، من اتساع الكرة الأرضية إلى صغرها.وثانياَ، إنه "ميدان لإمكانية وجود تعددية متزامنة معها". وهذا يعني، بالنسبة لها، عدم وجود فضاء من دون تعددية، ولا وجود لتعددية من دون فضاء. وثالثا، إن الفضاء هو دائماً في حالة تشكّل،" إنه لا ينتهي أبداً، لا يغلق أبداً، وإننا، ربما، نستطيع أن نتخيل الفضاء، كتزامن قصص ما... لحد الان".8
وهي تجادل أيضاً بأن هناك ارتباط بين المكاني( الفضائي) وتكوين المعنى، فاللغةا" تترجم دائماً الحركة وأمدها بلغة الفضاء"، وكلما تمت "عقلنة الوعي أكثر، كلما تجسدت المادة فضائياً أكثر". 9
تسعى ميسي، على أية حال، أن تطرح أفكاراً حول المحلي والعالمي، والمكان والفضاء، والملموس والمجرد. والفضائي ( المكاني) بالنسبة لها يمكن أن يكون ، مجرداً وملموساً في الآن نفسه، كما أن المكان يمكن أن يضم المادي والمفاهيمي( النظري).10
الأفكار التي تتناول المكان والفضاء، تناولها نقديا أيضاً أيان دافيدسون في كتابه" أفكار الفضاء في الشعر المعاصر"، ويشير فيه إلى أن الفضاء يعاش ويحوّل إلى مفاهيم معاً، أي أننا " نملك وجودأ مجسداً للفضاء، بالإضافة إلى المفهوم الذهني للفضاء". 11
وهو يجادل بأن" شعورنا أين نكون هو مزيج من تلك التجربة الفورية المتجسدة وفكرتنا عن موقعنا ضمن صورة أكبر، يحول إدراكنا من التجربة التي نواجهها ظاهراتياً ، إلى بنية اجتماعية وجغرافية أكبر، نحن جزء منها. 12
وعلى أية حال، هو يتفق مع ميسي بأن المكان والفضاء متداخلان، قائلاً ، بشكل مقنع، إنه لا يكفي أن نصف" الفضاء" بأنه "مفتوح"و " مجرد"، وأن نصف " المكان" بأنه" مغلق"، لأننا بذلك نقر بوجود تعارض بين الاثنين، وهو تعارض غير موجود.
ويعتقد دافيدسون بان كثيرا من الشعر المعاصر يركز على الحالات النفسية، والشعور، والمفاهيم الفكرية،، وأن المعنى الكامل لعبارة" المكان" في الشعر تتضمن ليس فقط المكان الجغرافي، والمحيط الطبيعي، ولكن أيضاَ تاريخ الحاضر الإنساني، وما قبله، وناسه، وأيضاً، كما في كل شعر، صوت مؤلف القصيدة.
قد توفر هذه الملاحظة الأخيرة مدخلا صحيحاً لفهم شعر لي هاروود في مرحلتيه الاساسيتين.
في قصيدته الشهيرة المبكرة" ما دامت عيناك زروقاوين"، التي نشرت عام 1965"، واعتبرت " علامة متميزة على كتابته الجديدة"13، تبدو تجربة الشاعر في تناوله للمكان تجربة حسية جداً.إنه يراكم أشياء صغيرة ليخلق مشاهد مرئية، ويبدو حساساً بوجوده في المكان، لكنه ليس بعد " جزء" من المكان،14
في المقطع الثاني من هذه القصيدة، بشكل خاص، يصف الشاعر أشياء حقيقية في مكان محدد( نهر تحت النافذة، قميص في أعلى الخزانة، مرآة...). وعلى الرغم من أن الشاعر يستخدم الاستعارة في السطرين الأخيرين، ويترك فراغين للتأمل، تخفق القصيدة في توسيع مداها خارج ذلك المكان المحدد، ما عدا السطر الأخير المفتوح على الفضائي، من خلال علامة الاستفهام:
عندما يكون النهر تحت نافذتك
بقدر ما حلمت به
تغيير قلق
وقميصك في أعلى الخزانة،
مرآة تواجه السقف والضوء في الخزانة
تُرك ليحترق طوال اليوم
أصفر باهت
يسبر الغرفة المظللة
ماذا كان؟
اللغة هنا بسيطة، وهي تستخدم لتشير لشيء في الخارج، كما لا نلحظ فيها تعبيراً وعراً، أو "انفجارا تعبيرياً"، أو خروجا عن الموضوع. ولكن الشاعر يستخدم فيها إسلوباً سيميز قصائده اللاحقة، فهو يضع الأشياء في مشاهد سينمائية تقريباَ، ويصف أشياء حقيقية في أماكن محددة، غير أنه يخفق في تجاوز ما هو مادي إلى خارج حدود المكان، ورفعه إلى مستوى العام. وربما يعود السبب جزئياً إلى عدم استقراره جغرافياً( كان في هذه الفترة يتنقل بين أمريكا واليونان وفرنسا). وهذا الانتقال" سبب له شعوراً شديداً بالضياع، وكذلك الرغبة في الاستقرار في بيت والإقامة بشكل لائق"، 16 وربما، ثانياً، بسبب تجربته الشعرية المحدودة أنذاك( كان في الثلاثين من عمره).
في المقاطع التالية من القصيدة، تنتقل الحركة من المكان المغلق( الغرفة) إلى مكان مفتوح حيث يتمشى وحيداً في غرف القصر، و" حيث الثريات تهتز بينما تعصف الرياح بالحدائق/ في الخارج/ والبحيرات ترتجف من مشهد متنزهين وحيدين( المجموعة الكاملة، ص 28). لكن القصر تقتحمه مجموعة من السائحين الذي يظهرون فجأة، ويختفون. وللهروب، ذهنيا وجسديا، من هذه الأماكن الحقيقية، تقودنا حركة القصيدة لندخل خيالياً أماكن أخرى:
أنت تعرف حتى في سكون قبلتي
أن تلك الأبواب تفتح في شقق أخرى
على الجانب الآخر من المدينة
راع يرعى
شياهه في قرية نعرفها
عاليا في الجبال الزلاقة تنحدر مثقلة بأزهار الصيف
ولكن عملية الانتقال من المكان ، لا تقود إلى تعميق دواخل الشاعر، ولا إلى رفع القصيدة إلى المستوى الذهني.. هناك إحساس ضعيف بالمكان، أضعف من أن يخلق استجابة قوية في عقولنا وأجسادنا، والمشاهد الموصوفة، المكتوبة بلغة بسيطة ومباشرة، لم تنجح في أن تفتح أمامنا بدائل واحتمالات لا متناهية. لم تخرج القصيدة من رأس الشاعر " المتأمل" في تلك التجربة "المرئية"، لتصبح عملية تخيل تجعل من سطح القصيدة" انعكاساً يرسل لنا صورة من بنيتها الخاصة. 17
ومع ذلك، فأن قصيدة" ما دامت عيناك زرقاوين"، بجملها المبثوثة في عدة قطع( كولاج)، وفراغات وجمل غير منتهية توحي بالوقتي غير المنجز بعد، تظل واحدة من أهم قصائد لي هاروود في هذه المرحلة، ومؤشرا على ما سينجزه في مرحلة لاحقة من تطوره الشعري.
في قصيدة" إلى جون في الجبال"، المنشورة في مجموعته" ما دامت عيناك زرقاوين"(1965-1966)، هناك أشياء محددة في مكان محدد: شمس، زهور ومروج، لكن ، في الوقت نفسه، وحوش تجول في الغابة، وهسيس أشجار صنوبر، ومن خلف كل شجيرة يطل رعب، ويهبط ثلج أسود. وهي تعكس الحالة النفسية والانفعالية للشاعر في مكان وزمن محددين:
تحت شمس جبلية
تتبعها أشباحي
الوحوش تنسلّ في الغابة
في رأسي
غابة بريئة هناك
زهزر جبلية ومروج
دوامة العشب وهسيس أشجار الصنوبر
عند كل شجيرة رعب
خلفي
ثلج أسود
أكثر سواداً من عينيك( المجموعة الكاملة، ص32 )
يظهر الجبل( الذي سيصبح ثيمة رئيسية في شعر هاروود المتأخر بعدما استقر في بريطانيا)، عنصرا خارجيا في هذه القصيدة، مجرد مكان جغرافي. وبالرغم من حسية هذا القصيدة، وصورها االمعبرة، إلا أنها تخفق أيضاً أن تجسد لنا حالة يتمازج فيها العقل والشعور، مما قد يساعد على رفع القصيدة من المستوى الخاص إلى المستوى العام، وتحفيزالقارىء للدخول إلى عالمها.
وربما سبب هذا الإخفاق متعلق برؤية الشاعر ولغته معا.فالمشاهد تبدو وقد تمركزت على ذاته، وتجربته المعاشة، كما أن التناقضات بين عناصر المكان( شمس جبلية وثلج أسود، وغابة وصحراء، وأزهار وصنوبر ذو هسيس)، بقيت منفصلة عن بعضها البعض داخل القصيدة. لم تكن هناك عملية ديالكتيكية ممكن أن توحد عناصر القصيدة، وبالتالي تمكّن القارئ أن" يتبين موضوعاً متماسكا منطقياً وراء الخطابات المتباينة".18
ثلج أسود
فيه بعض أزهار
يمكن أن تنمو داخلي
ليل يمكن لنهرك
أن يترك فيه قاعه
استيقاظ صحراء
هرم ممسوس
بشكل جديد
قبلتك تحمل مدناً هائلة ( المجموعة الكاملة، ص28)
إنها قصيدة مبنية من مواد غير مرتبطة ببعضها تحت تأثير شعراء مدرسة نيويورك، وخاصة جون آشبري، المهداة له القصيدة( ارتبط هاروود بعلاقة مثلية معه حين عاش في أميركا)، وأيضاً تحث تأثير تزارا دادا وبرخيس ، من دون أن يتكمن الشاعر من استخدام تكنيكهما بشكل فعال.
يقول هاروود عن هذا التأثير:
كان هناك تزارا دادا، بطريقته في "خض" اللغة، ومراكمة الأشياء، وهو أمر جديد علي. وكذلك، هناك بورخيس، الذي يكتب قصصاً تجرك جرا لعالمها، وتسحب البساط من تحت قدميك... ومن هنا، فأنك تظل تفكر فيها... ثم تنخرط دائماً في عملية كتابتها".19
لكن هاروود يعترف بأنه لم يستطع أن يستخدم هذه العملية في الكتابة بشكل مؤثر إلى أن قرأ آشبري في منتصف الستينات، 20 كما أن هناك الكثير من الكليشيات في القصيدة: ثلج أسود، صحراء، هرم، و" غابة في رأسي"( المجموعة الكاملة،ص32). ولا نتفق هنا مع الناقدة ميري هيوز -إدواردز، التي ترى أن استخدام هاروود للكليشة هو استخدام مقصود، مستشهدة بقول آشبري الذي يذكر فيه بأن" الكليشية قد تكرست بطريقة ما نتيجة كثرة الاستعمال، ومن هنا ينبغي احترام استخدامها".21
إن استخدام الكليشيه هو بالطبع شيء مألوف في الشعر المعاصر، بدرجات مختلفة، وتستخدم لكسر الخطاب البلاغي في الشعر السائد، وقد تستخدم بشكل مقصود كما تقول ميري هيوز -إدواردز، ولكن ليست هذه القضية في رأينا. المهم كيف يستخدم الشاعر هذه الكليشيه في موقف معين، في علاقتها مع الكلمات الأخرى في السياق ذاته، كي تصبح جزءا من تركيب القصيدة، وبذلك تساعد القارىء على التخيل، وتجعله يصبح جزءاً من القصيدة. وبهذه الطريقة يمكن تحرير الكليشيه من معانيها المتداولة نتيجة كثرة استخدامها إلى درجة الابتذال، ومنحها بعداً، او معنى مختلفاَ.
نحن لا نرى أن هاروود يستخدم الكليشيه بهذه الطريقة في القصيدة التي استشهدنا بها كمثال على قصائده في المرحلة الأولى، بالَاضافة إلى أن هناك فرقا كبيرا بين آشبري وهاروود فيما يتعلق برؤيتهما الشعرية، وطريقة كتابتهما. وهنا نتفق مع الناقد توني لوبز الذي يرى أن" آشبري هو أقل انخراطا شخصياً في قصائده، التي يبدو الكثير منها أنه لا ينقل أي نوع من تجارب شخصية( على عكس هاروود)، بل ينحو نحو التجريد". 22
وعلى أية حال، بدأ هاروود ، ابتداء من أواخر الستينات، يحاول أن" ينحو نحو التجريد"، في كثير من قصائده، التي كانت تتحرك بين الواقع والتأمل، والمحسوس والمجرد، والحاضر والماضي. وهذا واضح في قصيدته " النضوج"، المكتوبة عام 1968. مكان هذه القصيدة الريف، حيث" البساتين قديمة ومريضة، والجرارة بدأت عملها فوق التل". والزمن حُدّد أيضاً، " عندما جعل المطر المائل من المستحيل رؤية السياج الطويل المحيط بالمرج".
وتكشف القصيدة سريعا أنها ليست فقط حول المكان ووقائعه القاسية، ولكن أيضاً حول الوضع الإنساني، وتناقضات الحياة والطبيعة. عمّم الشاعر أفكاره منذ البداية، وبدا أنه مشغول أكثر بالعام:
حقاً، فشل العاشق الميت
والمطر المائل الآن يجعل من المستحيل
رؤية السياج الطويل الذي يحوّط المروج
لكن هذا يقودنا إلى لا مكان
خلال المشهد العرضي لمدن بعيدة
تولّد فكرة" الأمل"، وعشاءات حميمة
في المطعم الأفضل الذي كان مليئا فقط
بأبناء تلك المدينة، بلا أجانب
سواي وصديقي- حقيقة
غريبة ومع ذلك يمكن فهمها
يشعر القارىء أنه منخرط في هذه القصيدة، وجزءاَ من حركتها الديالكتيكية بين مكانين: الريف بظروفه القاسية، والمدن المتخلية، التي تستدعي فكرة الأمل، وحالة الوحدة في الوقت نفسه. لا يوجد في القصيدة بناء سائب، أو فراغات في جمل غير مكتملة، كما أن اللغة بسيطة وموحية، وتعمل للوصول أو استدعاء حالة ذهنية خاصة، عاكسة أو مسجلة أحداثاً ومواقف، ومثيرة نوعاً من الخيال أو التأمل. 23 وتنبع أهمية هذه القصيدة من عملية تحويل المكان الحسي من خلال صور بصرية تحيل إلى منظور ذهني:
عدة أشياء من" المعرفة االشائعة"
احتفظنا بها بعناية "للقلة"،
الذين كانوا يسعون لأكثر من الإثارة
لكن هؤلاء المتنفجين كانوا بطريقتهم الخاصة مرضاً
يتغذى على ذكريات مواسم الصيف الماضية
أكثر من حقائق الحاضر
لكن حتى تلك المواسم مشكوك فيها-
صور العشاق تم تكبيرها
فلم يعد بالإمكان
التعرف عليها
حتى المدينة نفسها كانت صورة وفكرة.( المجموعة الكاملة، ص 55)
لقد قدم هاروود هذه القصيدة باقتباس من ستيفي وينوود يقول فيه: " عندما اعود إلى البيت/ أخبرني كل شيء عنه"، التي يمكن أن تلخص يأس هاروود في هذه المرحلة، ابتداء من بداية الستينات حتى أواخرها، عندما كان يتنقل بين بريطانيا وأمريكا وفرنسا، من أجل أن يجد" مكاناً مناسبا"ً. إنها رحلة طويلة تميزت ليس فقط بعدم الاستقرار والتنوع، ولكن أيضاً بتكرار ما يدعوه هاروود بـ" بالإصرار" 24. الشعور بالضياع، وعدم تجذره في مكان، كانا ثيمتين أساسيتين في مجموعاته الشعرية الصادرة في تلك الفترة: "أتش. أم. أس. الثعلب الصغير"، و" الحجاب الأسوط الطويل"، و" بوستن، برايتون". ويسود في هذه المجموعات الشعور بالغربة، والحاجة للاستقرار.
ويرى الناقد نيك سيلبي، عن حق، أن شعرية هاروود في مجموعتيه "أتش. أم. أس. الثعلب الصغير" و" بوستن-برايتون"، في سبرها الديناميات الشعرية للغربة، هي ذات حدين: إنها في آن واحد سياسية وشخصية، إذ أن هاروود كان يحاول كشاعر، في قصائده خارج بريطانيا، أن يجد مكاناً لعاطفته وشعوره ضمن البنى السياسية التي كان يسعى إلى زعزعتها. 25
ويبدو أن كل الأمكنة بالنسبة لهاروود بقيت مجرد صور أو أفكار في رحلته الطويلة. الشعور بالغرية، وعدم الانتماء، في الوطن أو خارجه، يبرزان خاصة في قصيدته" " دمار المحطة الجنوبية، بوستن" ضمن مجموعته" بوستن -برايتون":
غرفة صغيرة
تطل على فناء ضيق
الموسيقى في الراديو
محارة تبقيك بعيدا
عن عراء المدينة، أي مدينة
"في الوطن أو بعيدا"
أنت أجنبي دائما
متحركا بينهما
هذه القصيدة ليست فقط عن غربة الشاعر في أرض أجنبية، كما يقول نيك سيلبي. فهو يعتقد بأن هذه القصيدة جاء نتيجة لابتعاد الشاعر " الثقافي" عن أميركا، مما سبب له شعورا معقداً بالخسارة، غلّفه بحادثة تدمير محطة بوستن الجنوبية، التي هي موضوع القصيدة. وهذه المحاججة تقود إلى استنتاج الناقد خطأ بأن" هاروود يوازن بين تحطم معلم بوستن( المحطة الجنوبية) وبين علاقته الشخصية. 25
ويضيف سيلبي:" هنا شعرية تبتهج بشعورها بالغربة. وهي لا تصدر من شعور بـالكشف الذاتي و الفحص الذاتي( العراء)، النابعين من امرئ يجد نفسه في" مدينة غريبة"، بل أن هذه الغربة تصبح لحظة عاطفية مفروضة في االقصيدة". 27
لكن "لحظة الغربة" هذه هي لحظة واحدة في القصيدة، وهي ليست مفروضة، كما يعتقد سيلبي. الثيمة الأساسية في القصيدة هي دمار مكان، كان يشكل معلماً من معالم بوستن، وهي ظاهرة متزايدة في المدن الحديثة، لا تنتج سوى إحساس حتمي بالغربة والاغتراب والعراء، والانقطاع عن التاريخ والتراث.ويبدو أن هاروود في قصيدته هذا يعكس، وإن بشكل لاواع، أفكار الفيلسوف الفرنسي لوفيفر حول العلاقة بين هيمنة الرأسمالية في الغرب الحديث وإنتاج" الفضاء المجرد":
" إن المكانية المتزايدة للحياة الحديثة المتمثلة بزيادة التجانس الكوني الثقافي( ظاهرة ماكدونالد)، ووسائل الاتصال، وأنظمة المراقبة، وحركة السكان، والحاجة إلى الاعتمادعلى" الغرباء البعيدين"، جعلت سكان الكرة الارضية ينقطعون عن تقاليدهم، وتاريخهم الأثني والمناطقي، وعن فهمهم للقاعدة المادية والتاريخية لحياتهم". 28
في مقطع آخر من القصيدة، نرى فيه أن المحطة وقد تهدم نصفها، يشير الشاعر بشكل واضح إلى أولئك" الآخرين البعيدين"، الذي يؤدون أعمالهم من ميناء دولي:
نصف محطة الجنوب سوّي بالأرض،
وتهاوت الأرصفة خلف المسارات
البواخر الأجنبية تشكو
نقص التسهيلات والظروف الخطرة-ماكينات ديزل وعامل تحويل واقف
الماكينات تدور
عند نهاية الرصيف .( المجموعة الكاملة، ص217)
تنقل القصيدة بنجاح مواد المكان إلى مستوى أعلى ، وهي تتحرك بين الفضاء والتجريد، بين المحسوس، وبين العام والخاص، من خلال ثلاث حركات: الحركة الأولى فيزيائية. مكان القصيدة هو محطة- محطة الجنوب ، برايتن- وهناك مستودع وباصات، ورافعة، وجرافة. ونحن نراقب مع الشاعر المكان الذي ستجري فيه عملية الهدم. وهناك وسيلتا الهدم : رافعة وجرافتان جاهزتان في المكان، وفي الوقت نفسه شاحنة وسيارات نقل تمر بلا اهتمام. وهنا، يعكس الشاعر التناقض الصارخ بين فعل التدمير ولا مبالاة الناس تجاه فقدان معلم من معالم مدينتهم. ولم يكن فعل التدمير هذا سوى جزء من عمل" الجبابرة، الاقوياء"، كما أن الفضاء المفتوح الذي تركته عملية الهدم يعكس الطريقة التي يعمل بها الرأسمال العالمي:
أمام المستودع، شاحنات وسيارات تمضي
ورافعة حمراء للهدم وجرافتان صفراوان
كل القوى الجبارة، الهائلة .( المجموعة الكاملة، ص217 )
تنفتح القصيدة فجأة في المقطع الثاني على مشهد آخر يبدو، بشكل خادع، وكأنه منقطع عن المشهد السابق.وتتضمن الحركة في المشهد الجديد علاقات متغيرة، إذا لم تكن ديالكتيكية، بين الخارج والداخل، والخاص والعام، والمحلي والعالمي. نرى هناك شاحنات وسيارت نقل تمضي بلامبالاة، بينما نرى المتكلم في القصيدة على الرصيف، وهو ياكل وجبة هامبرغر في مطعم" بلو دنر". لكنه كان يراقب عملية تدمير المحطة من قبل" كل القوى الجبارة". كان يشعر بالضياع والعجز، وهو يتساءل:" هل يدير المدينة الجبارون حصراً، أم أنا حصراً أدور في المدينة؟" ( المجموعة الكاملة، 217)
على الرصيف ضائعا وسط كل هذا،
غير قادرعلى فهم ماذا أفعل هنا
وانا آكل الهامبرغر
في" بلو دنر" عبر الشارع
انتهى الأمر كما يبدو-ا
هل يدير الجبارون المدينة" حصراً"، أم أنا "حصراً" أدور في المدينة؟
شكلت قصائد هاروود ابتداء من عام 1973 فصاعداً، حين حقق رغبته بايجاد مكان دائم، وحين " احب الريف"، نقطة فاصلة في تطوره الشعري، وفيها يخص علاقته بالمكان كجغرافيا، والفضاء كتجريد. لقد بدأ التفاعل مع المحيط، والعلاقة بين المكان والفضاء يتم في هذه المرحلة على مستوى من التصعيد يصهر فيه، عبر الصور البصرية القوية التأثير، ليس فقط المكان والفضاء، بل أيضاً الناس والحيوانات، والجحيم والفردوس، والجبال والتلال، كما نرى في قصيدته" كنيسة يريكون":
مبكراَ، في صباح أحد
الصقيع الثقيل
كسا الارض بياضا
عشب جليدي قشري
سماء زرقاء مبكرة بخطوط قرنفلية تنحدر للأسفل
وفي الأعلى خط من غيوم وردية قليلة
معلقة فوق المدينة
التلال والجبال جليّان
لكل هذه الأشياء (ربما)
السماء والجحيم والآلهة
في كل منا
الشمس تذيب الصقيع منتصف الصباح
لكن في التلال والبرك صقيع سميك
ثلج كثير على الجدران الشمالية
لمدرّج الجبال العاري. ( المجموعة الكاملة، 394)
من البداية تحدد هذه القصيدة مكانها( كاتدرائية)، وتبدأ أيضاً بزمان محدد( صباح أحد). ومن السطر الثاني، تتطور فجأة عبر استعارات مادية، تمزج المكان والزمان في عملية التصعيد، كما تبدو اللغة " متجسدة في لحظة عملية إنتاجها، وهي تتحرك من "الرأس" المتأمل عبر التجربة البصرية للعين(...) ويصبح الشكل الشعري واللغة وسليتين للخيال الذي يجعل سطح القصيدة "انعكاسا"، يبعث بصورة عملية البناء ذاتها". 29
هذا التناغم بين الشاعر والمكان أصبح عنصرا واضحاً في قصائد هاروود المتأخرة. هل وجد " مكانه اللائق" أو " مكانه الشعري" أحيراً؟ يبدو أن الأمر كذلك:
لا أريد مكاناً آخر
بل أن أكون هنا
سواء أكنت جاثماً على صخرة تقيني من الرياح
أو على غيمة ...
أو هابطأً من منحدر مهشماً...يتشربني
نفق الغابة المظلم
(ربما تقول أي شكل غريب من المتعة هذا)
لكن فقط أن أكون هنا
وليس في مكان آخر
الأمر بهذه البساطة، تقريباً.( المجموعة الكاملة، 348)
ينتظم كثيرا من قصائد هذه المرحلة، كما في" سسكس داونز"( المجموعة الكاملة، 314) و" أماكن سابقة، وأنت" "( المجموعة الكاملة، 325)، و "رحلة شتائية"( المحموعة الكاملة، 365)، توازن دقيق بين المكان، كغرافيا ومفهوم، وبين الماضي والحاضر، كما أن الشعور بالغربة، الذي انعكس في قصائده الأولى، قد حل محله شعور قوي بالانتماء، والحب، والسلام. تحقق الانسجام بين الشاعر وذاته والمكان، واختفت الأشباح:
أن تقع في حب الريف
ويستديم ذلك الحب،
وتكتب قصائد حب
برأس واحد، وعيون واحدة، وأصابع واحدة،
وجسد واحد
متنزها
بين حقول الحنطة في شهر تموز اللاهب
ىسكران برائحة البابونج
قصائد لا يمكن أن تفسرها أية كلمات
...................................
كما لو أني طوال حياتي
كنت أسعى للوصول لهذا،
طيشي المبكر صار خلفي الآن،
الاستقرار أخيرا
في هذا العمر.
.................................
لا أشباح هنا
كما لو أننا سنعيش للأبد
كل التاريخ وكل ذواتنا
تعيش معا في هذه اللحظة
في مكان واحد بلا رغبة أن تعيش في مكان آخر. ( المجموعة الكاملة،314).
الهوامش
1 Nick Selby, ‘Transatlantic Poetics in H.M.S. Little Fox and Boston-Brighton’, in The Salt Companion to Lee Harwood, ed.by Robert Sheppard(Cambridge: Salt Publishing, 2007), pp.85-103 (p. 85).
2 Ian Davidson, ‘Nowhere Else-The Later Poems’ in The Salt Companion To Lee HarWood’, pp.195-206(p.195).
3 Gaston Bachlard,The Poetics Of Space aesthetics, trans.by Maria Jolas,3rd edn (Boston: Beacon Press, 1994), p. 4.
4 Bachelard, P. 5.
5 Bachelard, P.6.
6 Henri Lefebvre, The production of space, trans.by Donald Nicholson-Smith, 3rd( Oxford & Cambridge …..) pp.26-7
7 Lefebvre , p.77.
8 Doreen Massey, For Sapce(London: Sage Publication. 2005), P. 9.
9 Massey, p. 24
10 Davidson, in The Salt Companion To Lee Harwood, pp.195-206 (p.195).
11 Ian Davidson, Ideas of Space In Contemporary Poetry( London: Palgrave Macmillan
)2007), p.33.
12 Davidson, Ideas of Space In Contemporary Poetry, p.33.
13 Geoff Ward, ‘Lee Harwood’s Guaranteed Fine Weather Suitcase’ in The Salt Companion To Lee HarWood, pp 35-53(p. 36).
14 Davidson, The Salt Companion To Lee HarWood, P: 199.
15 Lee Harwood: Collected poems (Exeter: Shearsman Books, 2004), p: 28.
16 Nick Selby, The Salt Companion To Lee HarWood, p. 85
17 The Salt Companion To Lee HarWood, p.200.
18 Robert Sheppard ,T he Salt Companion To Lee HarWood, p.10
19 Robert Sheppard, ‘So It Shifts: An Interview with Lee Harwood’, in The Salt Companion To Lee HarWood, pp.8-17(p. 10).
20 Sheppers, pp. 9-10.
21 Mari Hughes –Edwards, ‘…love and other obsessions’: the Poetry of Desire’, in The Salt Companion To Lee HarWood, pp. 127- 151(p. 128).
22 Tony Lopez, The White Room in the New York Schoolhouse, in The Salt Companion To Lee HarWood , pp.69-84(p. 79).
23 R.A. York,The Poem As Utterance (New York: Methuen, 1986), p. 1.
24 Selby, p.85.
25 Selpy, p. 86.
26 Selby, p. 87.
27 Selpy, p. 88.
28 Davidson, in The Salt Companion To Lee HarWood, p. 196.
29Davidson, P.200.
30 Davidson, P.200.