لِيلِيت
وظفت الكثير من الأدبيات شخصية ليليت في بنيتها، واستخدمها الكثير من الأدباء رمزا للغواية التي تزيح المرء عن مساره الصحيح، ولذلك يجعلها الأديب دافيد فريشمان محورا رئيسا في قصته، بداية من عتبة العنوان، وهو ما يجعل للشخصية حضورا وظيفيا ضمن البنية الحكائية للنص، حيث اعتمد عليها الكاتب لتمرير رؤيته الأيديولوجية التي تدور حول ضرورة تقليص نفوذ الكهنة اليهود وتحديد سلطتهم في نطاق الدور الأخلاقي فقط، والدعوة إلى انفتاح الحياة اليهودية على آفاق المعرفة العقلانية والأخذ بمقومات الحضارة الغربية.
ودافيد فريشمان (1859-1922) هو أديب يهودي من أصل بولندي، اتخذ موقفا معاديا للصهيونية ورافضا للانصياع لأيديولوجيتها، بخلاف السائد حينها، حتى سماه المعاصرون له “الأديب الذي لا يشبهنا”، وعاش فترات طويلة وحيدا ومنعزلا لهذا السبب. وقد اتسمت أعماله بالحداثة والتجديد، فاعتبره النقاد من المجددين الأوائل في فن القصة العبرية الحديثة. واهتم في قصصه بالبعد النفسي للشخصيات وابتعد عن النزعة الالتزامية في الأدب بعد أن ناصر نظرية الفن للفن وآمن بقوة الأدب في تأثيره على حياة الفرد وإحياء روحه.
تدور قصته “ليليت” حول الفتى “رأوبين باحور” أحد كتبة التوراة في إحدى بلدات بولندا، والذي زهد في الدنيا وانصرف عن متعها، وتفرغ لنسخ أسفار التوراة وتفسيرها، ثم يحدث التحول في مسار الأحداث بظهور فتاة تُدعى “رفقة” تُحدّثه لمرة واحدة فقط، يتبدل بعدها حال الفتى وعلاقته بالآخرين، وتبدأ الغواية التي يقاومها طويلا بالعبادة، إلى أن يحدث التغيير المرتبط بلحظة تنويرية تتضمن استيقاظا مفاجئا للوعي ورفضا تاما للخضوع لقهر المجتمع الديني اليهودي ورجاله المتزمتين. فيقرر الفتى في النهاية التخلص مما يحاصره من تابوهات اجتماعية ودينية وأخلاقية، ويتبنى خيار الاندماج بين الآخرين بعد ما ملأت روحه مشاعر الحنين إلى الحياة ومتعها، وهي نهاية تمثل لحظة انتصار رغبته الداخلية على أوهام القداسة المجتمعية.
فتحولت غواية “ليليت” في القصة إلى دعوة ضمنية من الكاتب إلى ضرورة تخلص الفرد اليهودي من تعاليم الشريعة اليهودية الصارمة ومن نفوذ رجالها المتزمتين، وانتصاره لمشاعره الداخلية وتحقيق خلاصه الفردي بعيدا عن أيّ توجه ديني أو معتقد أيديولوجي. وهو ما يتوافق مع أفكاره عموما والتي تمحورت حول معارضته لتعصب المؤسسة الدينية الربانية وتأثيرها السلبي على حياة الطائفة اليهودية في أوروبا.
وبذلك تلخص القصة رؤية فريشمان التي تتركز حول الاعتقاد في الخلاص الفردي لليهودي الذي لن يتحقق إلا بإحياء النفس وإزالة ما يثقل عليها من جمود، فقد آمن أن إحياء النفس أفضل من مساعي الاستيطان، وأن الخلاص يتحقق لليهودي عن طريق تغذية روحه بالفنون المختلفة وبانفتاحه على مقومات الحياة الغربية الحديثة، خلافا لما رددته الأدبيات الصهيونية التي ارتأت الاستيطان خلاصا لليهودي وحثته على الهجرة إلى فلسطين.
القصة
لِيلِيت
من قديم الزمان، في بتشيزوكا، إحدى بلدات بولندا، عاش أحد كتَبَة التوراة [1]؛ فتًى صغيرٌ ورقيقٌ للغاية، بسيطٌ وصالحٌ وتقي، كان يسكنُ غرفةً صغيرةً أعلى إحدى البنايات، منعزلًا عن أباطيل هذا العالم، ومبتعدًا عن إغراءاته، وكان يقضي كامل وقته في نسخ أسفار التوراة والتفيلين والمزوزا [2]. كان هذا الفتى يُدعى السيد رأوبين باحور؛ السيد حيث كان يبجِّله كل من حوله، وباحور أي “مختار” حيث أعلن يومًا ما “تشتهي نفسي نسخ التوراة ولا تشتهي الزواج!”، خشية أن تلهيه المرأة عن العبادة.
أفَلَت الشمس مودِّعةً عنان السماء وبزغ القمر منيرًا غيمتها، لكنه لم يعِ ولم يرَ، فكان كل ما يهمُّه أن يواصل -بطهارته المعهودة- نسْخَ الحروفِ المستديرةِ بزخارفِها الرائعة، وكأنه يريد أن يُسهِمَ بعملِه المتواضعِ هذا في مساعدةِ العظماء على تحقيق الخلاصِ لكل اليهود، ففي رأيه كل فردٍ من بني إسرائيل، مهما كان بسيطًا، عليه المحاولة ولو بالقليل في هذه المهمَّة الجليلة، وبين كل إصحاحٍ وآخر ينسخه، كان رأوبين يغتسل كثيرًا وكثيرًا حرصًا على طهارته؛ فكانت تلك طريقته في تحمُّل المنفى. حقًّا! نير العبودية ثقيل والمنفى قاسٍ والخطايا تتزايد، فلم يعد هناك قوَّة لمزيدٍ من الاحتمال، ومن يدري! فربما تسهم محاولته البسيطة تلك في إنهاء كل هذا.
كانت عيناه ضيِّقتين للغاية، تلمعان أحيانًا ببريق وهَّاج من النور، فتتبدَّل ملامح وجهه ويصبح وسيمًا على غير عادته، وكان يظل جالسًا يكتب لساعاتٍ طويلة، بجسده الهزيل النحيل، وبنيانه المجعَّد اليابس من كثرة الصيام والتقشُّف، وبوجهه النحيف الباهت الذي تبدو عليه آثار الشحوب.
كان يُروى في بتشيزوكا حكايات عن الكرامات التي آتاها والمعجزات التي قام بها، فعندما كان رضيعًا لفَّه أبوه -خادم المعبد القديم- بالطاليت [3] وأحضره إلى الحاخام بونيم، أشهر حاخامات حسيدية [4] بتشيزوكا، فتحسَّسه الحاخام الكفيف بأصابعه الناعمة فتهلَّل وجهه فرحًا، ثم قال “وعاء رباني” [5]، وبعدها صمت ولم يُضِفْ شيئًا، وعندما بلغ السابعة من عمره وبدأ في إدراك شكل الحروف، صنع لأبيه المزوزا الأولى، وببلوغه سن الثانية عشرة وتسعة أشهر، صنع لنفسه التفيلين وكان فريدًا من نوعه.
وذات يوم أحضر الأب للحاخام بونيم ما نسخه ابنه من أسفار التوراة، لكنه لم يجده فترك له الكتب بحجرته ورحل، وعندما وصل بونيم تحسَّس الحروف بأصابعه الرقيقة، كجزار يمرر أصابعه على نصل سكين حاد، وأدرك في التو من هو كاتب هذه الحروف، وتمتم لنفسه إن لهذه الحروف رائحةً خاصة، وبعد مرور سنوات، عندما بلغ الفتى الثامنة عشرة من عمره كتب أول نسخة كاملة من التوراة، ولكنه بعد وفاة والده لم يجد من يرسلها إلى الحاخام بونيم، فزاره الأخير بنفسه وطلب منه نسخة التوراة ودفع مقابلها دنانير من الذهب.
ومنذ ذلك الوقت ذاع صيته في الأنحاء وبدأ الجميع يرتادون حجرته طالبين ما يصنع من تفيلين ومزوزا وأسفار للتوراة، ومن يبتسم له الحظ منهم وينال مزوزا من صنع يد السيد رأوبين باحور، كان يظن بأن خطاياه قد غُفِرَت، ومن يُقدَّر له الحصول على تفيلين منسوخ بخط يده، كان يتوهَّم بأنه سينال حظًّا من الآخرة، أما من ينجح في الحصول على نسخة من كتب التوراة التي نسخها رأوبين، أعظم كتبة زمانه، كان يتأكَّد من أنه قد بُنيَ له قصرٌ في الجنة، ورغم تزاحم الناس على بابه للحصول على مبتغاهم، فلم يكن يتمكَّن إلا من تلبية الضئيل جدًّا من احتياجاتهم لانهماكه الدائم في الكتابة ليلًا ونهارًا.
ومع ذلك كله كان هناك من يرثون لحاله ويشفقون عليه سرًّا؛ لأنه يعيش بلا زوجة، وقد تجرَّأ بعضهم وجهر بما في نفسه أمام الحاخام بونيم، الذي تبسَّم ضاحكًا وقال لهم: دعوه لشأنه، أيها الطائشون، أتظنون أنه يعيش بلا امرأة، هذا محال، فربما يعيش مع الشخينا [6] نفسها، ومنذ ذلك الحين لم ينبس أحدهم ببنت شفة.
مرَّت الأيام ومضت السنون.
***
وفي الثالثة ليلًا، بزغ نجم في عنان السماء، وحيدًا ومنعزلًا ولامعًا، وهو النجم ذاته الذي بزغ ولمع في السماء ذاتها منذ آلاف السنين، وسيظل يبزغ ويلمع لآلاف أخرى من السنين، وفي تلك الأثناء، ومن داخل إحدى الحجرات يراقبه شخص ما من لحم ودم، يضحك أحيانًا ويبكي أحيانًا، يشعر أحيانًا أن السماوات والأرض مطوياتٌ بيمينه، وأحيانًا أخرى تضيق عليه الأرض بما رحبت، في وقتٍ ما يشعر أن قلبه على وشك الانفطار من فرط الوجد والرضى، وفي أوقات أخرى يشعر بأسى شديد يساوره، وذلك كله دون أن يعرف سببًا لسعادته أو لأساه.
وعلى كلٍّ سيواريه التراب في النهاية بعد أن يقبروه، بأتراحه وأفراحه على السواء، في حفرة رطبة بأعماق الأرض، حيث يتحلَّل ويصبح غبارًا منثورًا، وحينها سيظل يبزغ في أعالي السماء النجم الوحيد ذاته ويلمع لآلاف أخرى من السنين، دون أن يعي أحد إلى الأبد ما عاناه هذا الإنسان وما آلمه، ودون أن يدرك أحد ما حمله بداخله من عبء، وما اعتمل في نفسه من صراع… يبزغ نجمٌ باردٌ في وسط السماء ليلًا ويلمع.
***
وذات يوم صيفي حار ومرهق، تشبه حرارته ذلك القيظ الرطب الثقيل الذي يشتد ليلة السبت ويستمر إلى اليوم التالي داخل حمامات الاغتسال العمومية، تلبَّدت الغيوم المكفهرَّة وتراكمت السحب المظلمة، وأخذت تمضي بسرعة ثابتة بطيَّات السماء وكأنها تتجه نحو هدف محدَّد تعرفه جيدًا، فبدت السماء بفعل هذه السحب الغائمة، كامرأة حزينة ترتدي ثوب الحداد، ولكن السيد رأوبين باحور لم يلاحظها ولم يرَها، بل ظل جالسًا كعادته، مطرق الرأس ومنحني الظهر وملتحفًا بالطاليت، أمام طاولته، ممسكًا الريشة بيده ومنهمكًا فيما ينسخ من حروف، غافلًا عن شهوات جسده.
وفي تلك اللحظة توالت طرقات خفيفة تدقُّ بابه على استحياء، لكنه لم يسمعها من فرط تجرُّده، وحينها انفتح الباب بتؤدة، وفاضت الحجرة بنورها الذي لم يره رأوبين، بل شعر بتغيير يحدث حوله ويحاوطه من الداخل ومن الخارج، لكنه لم يدرك كنهه. ارتبك قليلًا، وكأن ذبابة أزعجت صفوه فنجح في إبعادها عن محيطه بتلويحة حاسمة من يده، وسرعان ما تمالك نفسه وأبعد عن ذهنه شتات الفكر الذي انتابه للحظات، وعاود الانغماس في عمله؛ حيث كان عليه آنذاك الانتهاء من كتابة حروف الفقرة “ولا تطوفوا وراء قلوبكم وأعينكم” [7]، ونسخ تيجانها.
فإذا بصوت بشري يباغته من الخلف، وبعد سعال خفيف استمرَّ لبرهة، تحدَّثَ أخيرًا؛ فارتجف السيد رأوبين بشدة، وأخذ يردِّد “يا إلهي، إنه صوت امرأة، وصوت المرأة عورة”…
لم يلتفت السيد رأوبين إلى الخلف، بل ظل جالسًا في مكانه موجهًا السؤال إلى من تقف وراءه “من؟”، وكان يقصد بسؤاله “من هناك؟”، أو “من جاء؟”، لكنه فضَّل أن يختصره في كلمة واحدة فقط هي “من؟”، فعقيدته تأمره بألا يطيل الحديث مع امرأة، فوصله الرد “أنا رفقة، ابنة الجزار”…
كان صوتها رخيمًا للغاية، رنانًا ومضطربًا، صوت فتاة رقيقة ومدلَّلة، تبدو في سن صغيرة، فاستشاط السيد رأوبين غضبًا واكتست ملامحه بالظلمة، وقال “ماذا؟”.
أجابته الفتاة “أرسلتني أمي بهذا الريش، فقد ذبحنا إوزةً اليوم في بيتنا، وها هو ريشها، فربما يرغب فيه كاتبنا”.
رد قائلًا: “اتركيه…”.
واصلت قائلة “وقد أمرتني ألا أسألك قط عن النقود، فأبي سيكون بالمعبد عصرًا، وهناك سيأخذ النقود من الكاتب”.
قال “هناك…”. مشيرًا إلى حافة النافذة دون أن ينظر إليها.
ذهبت الفتاة لتضع الريش على حافة النافذة، وحينما اقتربت منها سقط ظلُّها على ورقات التوراة الموجودة على الطاولة، وأخذ يتراقص بين حروف فقراتها، بينما كان السيد رأوبين يجلس منحني الظهر مسندًا جبهته براحة يده، فهرعت الفتاة مغادرة.
تنفَّس رأوبين الصعداء، وكأن همًّا قد أزيل من فوق كاهله، وللوهلة الأولى لم يعرف ما يجب عليه أن يفعله الآن، ولكن سرعان ما عرف، فقام وذهب للتطهُّر.
وبعد بضع ساعات نسي تمامًا كل ما حدث، وعاد الصفاء إلى ذهنه مرة أخرى وحلَّت السكينة على نفسه، وأخذت سرائره تطرب وكأنها تشدو على نغم الكمان وقنْع البوق، ومن وراء الحقول المترامية والغابات البعيدة وصل إلى مسامعه نقر الدفوف، ولم يدرِ رأوبين سر سعادته المفاجئة، وظنَّ أنها من فعل تطهُّره بالمكيفّا [8]، فجلس بشوق عارم على طاولته وأخذ يكتب لساعات متواصلة. كانت نيته خالصة لله، فأضفى نور التوراة وحروفها على وجهه حُسنًا فريدًا، فأشرقت ملامحه الرقيقة ولمعت عيناه الضيقتان، وبدا الحدث كله كأن لم يكن، فلم يراوده ثانيةً ولم يخطر حتى على باله.
مرَّت الأيام ومضت الليالي.
وفي الهزيع الأخير من الليل بزغ نجمٌ وسط أعالي السماء، وأطلَّ على الحجرة الضيقة أعلى البناية، كان النجم وحيدًا وباردًا ولامعًا.
مرَّ نحو ثلاثة أسابيع.
وبنهاية الأسبوع الثالث، في ليلة هادئة غريبة، بهتت سماؤها بين الظلمة والنور، كانت المدينة كلها تغطُّ في نومٍ عميق، بينما يعلو السماء قمرٌ شاحبٌ وواهن، وقد أعلنت دقات الساعة بصوتها الأجش القادم من أحد المنازل المظلمة، الثالثة بعد منتصف الليل. استيقظ كلبٌ عجوز كان يرقد خلف أحد الجدران المتداعية وبدأ يحكُّ ظهرَه بمخالب قدميه الأماميتين اليمنى ثم اليسرى، ونفض جسده بقوة وأخذ ينبح نباحًا قصيرًا، وفجأة افترش الأرض وعاد إلى وضعه السابق، بعد أن أخفى وجهه بين قدميه وعاود النوم مرة أخرى.
وفي تلك الأثناء كان السيد رأوبين باحور يرقد هو الآخر في فراشه يغطُّ في نومٍ عميقٍ متواصلٍ لا تتخلَّله أحلام ولا تؤرِّقه وساوس، لكنَّه استيقظ على حين غرَّة، وكأن يدًا قوية أطاحته بضربة منها وأيقظته من سباته، فظل جالسًا في فراشه وقلبه يخفق خفقات عنيفة متلاحقة يعلو صوتها في أذنيه كدقَّات الجرس، ثم خفَّت الدقات رويدًا رويدًا حتى هدأت تمامًا، حينئذٍ فاجأته فكرة غريبة عجيبة: أليس رائعًا أن يكون اسمها رفقة [9]، فحروفه تتضمَّن الراء والباء، وأن يكون اسمه رأوبين، الذي يتضمَّن كذلك حرفي الراء والباء؟ أليس الأمر مدهشًا؟ وبعد لحظات معدودة أراح رأسه على الفراش ووقع ثانيةً في سباتٍ عميق.
وبعد مرور ساعة واحدة استيقظ ثانيةً، وفي البداية لم يتذكَّر شيئًا مما حدث، ولكنه سرعان ما بدأ يتذكَّر بوضوح كل ما قد كان، فخيَّم عليه فزعٌ شديد وانتابه همٌّ ثقيل، حينئذٍ استجمع قوَّته وقفز من فراشه، ثم أصلح وضع اليارمولكا [10] التي يعتمرها وغسل يديه سريعًا، حتى ارتجفت أوصاله فجأة من شدة البرودة، ففكر مليًّا: أليس هذا هو ألم التفكير في الخطيئة؟ بلى، إنه حقًّا كذلك! كيف يمكن أن يحيا الإنسان بعد مثل هذه الوساوس؟!
وغداة اليوم التالي أصبح كالشبح وظلَّ كالأبكم لا يتحدَّث أبدًا، شعر وكأن جسده هو بؤرة الرذيلة وتمنَّى لو بإمكانه أن يبصق على جسده من شدة الاشمئزاز حتى ترتاح نفسه وينفرج ضيقه، وفكَّر فيما يمكن أن يفعله الآن؟! فقام وتطهَّر لسبع مرات في اليوم ذاته، ثم ثقشَّف تمامًا وصام عن الطعام، وجاهد، قولًا وفعلًا، كي يبعد عن ذهنه التفكير في تلك الفتاة، ولكن شيئًا من هذا كله لم يفده.
وفي ذلك اليوم لم يتجرَّأ على الاقتراب من طاولته الطاهرة التي ترك عليها كتاب التوراة مفتوحًا على سفر التثنية؛ حيث كان عليه إتمام نَسْخ حروفه، ولكنه رأى أن نفسه لم تعد تصلح لتلك المهمة المقدسة، فقضى يومه كله في الصلاة بالمعبد الكبير، يتضرَّع إلى الله ويتطهَّر ثم يقوم إلى الصلاة، وبعدها يجلس ليقرأ في كتاب الزوهار [11]، أو ليتلو فقراتٍ من سفر المزامير، وفي الليل لم يذهب إلى النوم خشية أن يراوده التفكير بالفتاة ثانيةً، وحينها -لا سمح الله- لن يخلِّصه شفيعٌ ولن تنفعه توبة.
وعلى مدار الأيام التالية لم يقوَ على الاقتراب من الطاولة، بل كان يقف أمامها للحظات مشوَّش الذهن، يفكِّر في شيء ما لا يدري كنهه.
وفقط في اليوم الخامس، وبعد أن أتمَّ قراءة التوراة حلَّت عليه السكينة، ولم يفهم كيف عادت إليه بغتةً مثلما لم يفهم كيف غادرته من قبل، فظلَّ واقفًا يفكِّر دون أن يعي على الإطلاق ما يشغل فكره، وعادت أنغام الكمان تطرب أذنيه من مسافة بعيدة، وشعر بسعادة مفاجئة تغمره، وكأنه قد دُعي إلى حفلة عُرس، فاطمأنَّ قلبه، وعاد ليقترب من طاولته للمرة الأولى منذ أيام طويلة، ثم كتب الحرف الأول، ففاضت مشاعره بالبهجة وامّحت الواقعة من ذاكرته، وكأنما مرَّر عليها أحدهم إسفنجة مبللة، فأزال كل أثر لها.
واصل رأوبين الكتابة وهو في كامل طهارته لعدة أيام، وفاضت عليه السكينة، فأصبح كالطفل الذي ولد من جديد، ولم يعد هناك ما يعكِّر صفوه أو يثقل كاهله، وفي تلك الأثناء طلب منه الحاخام بونيم نسخة جديدة من كتاب التوراة، فأقبل على الكتابة من جديد بفرح وسرور.
ومرَّت الأيام والليالي.
ولكن في النهاية، وبعد مرور أسبوعين، حدث تغيير مفاجئ، فقد توقَّف رأوبين عن عمله وجلس متكاسلًا يحلِّق طويلًا في الغيوم، تداهمه أشواقٌ غامضةٌ ومبهمةٌ إلى شيء ما بعيدٍ وغائبٍ لا يعلمه، فأصبح سريع البكاء تسيل دموعه دون أسباب واضحة، ودون قصدٍ نظر تجاه النافذة، فوقع بصره على الريش الموضوع على حافتها كما تركته ابنة الجزار من قبل، لكنه لم يتذكَّر على الإطلاق من أحضره إلى بيته، فقام بلا وعي وأخفاه داخل سقيفة الحجرة ولم يدرِ لماذا أقدم على هذا الفعل.
وفي اليوم التالي حلَّت ليلة عيد الغفران [12]، ووقع له حادثٌ غريب، حيث ذهب في الثانية عصرًا إلى المعبد الكبير، وبينما هو راكعٌ يتلو صلاة الاعتراف متمتمًا بخطاياه الكثيرة التي اقترفها “ارتكبت الخطايا، ضاجعت آرامية ومصرية، ضاجعت جارية مملوكة، ضاجعت فتاة مخطوبة”، ودون أيّ مقدِّمات، تردَّد في ذهنه فجأة صوت امرأة ناعم للغاية، كان الصوت مضطربًا ولكنه كان رنَّانًا ومدلَّلًا ورقيقًا، وقد بدا له الصوت حينها حقيقيًّا للغاية وكأنه يسمعه من جديد، فذكَّره الصوت الذي يدوِّي بمسامعه بصوت رنين الجرس الفضِّي الذي كان معلَّقًا بعجلات عربة أحد النبلاء حينما مرَّت من أمامه عندما كان طفلًا، وبعد لحظات ارتعد جسده لذةً وارتبك للغاية بعد أن أدرك فجور نفسه.
وفي يوم العيد نفسه لم يحس رأوبين ببهجته، والغريب أن هذا الأمر لم يشعره بالذنب مثلما حدث بالمرة السابقة عندما استيقظ فزعًا من نومه، فقد كلَّ فجأة من الإحساس بالخطيئة وتكرار التوبة، وملَّ من كل تلك الوساوس التي تحاصره، فأصابته اللامبالاة حيال كل ما يؤرِّقه، ووقع في همٍّ ثقيل، وبعد أيام زال ما في صدره من ضيق ولم يعد يتذكَّر شيئًا مما حدث.
ثم وقع له حادث ثالث بعد ذلك، فقد خرج من بيته مع غروب الشمس ذاهبًا إلى المعبد، يمشي الهوينى على جانب الطريق، ويسير، مطأطئ الرأس خافض العينين، بخطوات محسوبة، وكل شيء يبدو أنه يسير كعادته، وفجأةً مرَّ به ظل ما لم يدرِ اتجاهه، أجاء عن يمينه أم عن يساره؟ أجاء من أمامه أم من خلفه؟ وحينها راوده شعور مفاجئ بأنه قد يكون ظل ابنة الجزار، وأنها ربما تكون هي من مرَّت أمامه الآن، رغم أنه لم يعد يتذكَّر حتى اسمها، وقد شغله هذا الهاجس لدقائق قليلة، وسرعان ما نسي كل شيء وواصل صلاته وتطهُّره، ثم عاد إلى بيته ليكمل الكتابة.
دائمًا ما يسقط الثلج نقيًّا من السماء، فيتدحرج وتحمله الرياح العاتية، ثم تتناقله العواصف. كان الثلج نقيًّا وصافيًا، ناصع البياض، طاهرًا كجناح ملاك، ولكن الرياح علقت به، وتسبَّبت في سقوطه، ليداس بالأقدام ويصبح طينًا ممقوتًا. من يمكن أن يدينه؟ ومن يمكن أن يحاكمه على هذا التحوُّل؟ فالرياح العاتية هي ما حملته والعواصف هي ما تناقلته، ثم داسته أقدام الدواب والخيول وأطاحته أقدام البشر، فعكَّرت طهارته وجعلته كالقمامة المثيرة للاشمئزاز. كذلك الإنسان، يسقط ويتحوَّل، فمن يمكنه أن يحاكم الرياح والعواصف؟ لقد كان كالملاك المنزَّل من السماء نقيًّا وطاهرًا.
***
وفي ظهر عيد الشجرة [13]، ذهب إلى منزل السيد رأوبين ذلك الفتي الذي يقوم بخدمته من وقت إلى آخر، ووضع على الطاولة أصنافًا عديدة من الفاكهة، ثم فرك يديه الحمراوين ليدفئهما من برودة الطقس بالخارج، وقال “سعر التمر ديناران، أما الزبيب والتين فدينار واحد لكل منهما، وظل معي ديناران أنفقتهما في شراء الخروب؛ إذن مجمل ما أنفقته في شراء الفواكه هو ستة دنانير عدًّا ونقدًا، وبقي فقط أربعة دنانير سأتركها لك على الطاولة”.
وقبل أن يغادره أضاف قائلًا “لن أعود ثانية اليوم، سأذهب إلى العُرس، فالجزار سيزوِّج ابنته اليوم، سيزوِّج رفقة”، قال جملته سريعًا ثم همَّ بالانصراف.
سمع رأوبين حديثه لكنه لم يعِ ما قاله، وحينما بدأ يدرك فحوى الكلام لم يتأثَّر على الإطلاق ولم يبدِ انطباعًا خاصًّا، حتى أنه نسي الحديث برمَّته بعد لحظات، وعاد مغتبطًا إلى طاولته، فرأى ما عليها من ثمار طازجة، فغسل يديه وجفَّفهما جيدًا، وأصلح من وضع اليارمولكا وتلا دعاء تناول الفاكهة، وبدأ يأكل بنهم، فأشرقت عيناه وانفرجت أساريره.
ولكن بحلول الليل شعر بأرق شديد، ولم يفهم ما أصابه، فكان نومه في تلك الليلة متقطِّعًا ومضطربًا وقلقًا، ينام ثم يستيقظ دون سبب، ويعاود النوم ثم يستيقظ ثانية.
وعندما استيقظ في الصباح كان منهك القوى ومرهق الجسد، ولكن سرعان ما زال تعبه بعد أن ذهب إلى التطهر بالمكيفا، فعاوده النشاط والهدوء، وصفت روحه من جديد، فجلس بسعادة وبهجة يكمل الكتابة، لكن هذا لم يدم طويلًا؛ ففي المساء هاجمه الإنهاك واشتدت أعراضه، وانقبض صدره بحزن مفاجئ، فشحذ ذهنه محاولًا أن يعرف ما يشغله، وجاهد نفسه محاولًا أن يفهم ما يحزنها، ولكنه لم يعِ شيئًا على الإطلاق.
هدأت نفسه بمرور الأيام، ولم يعد السخط يعتمل بداخله، ولكن سرعان ما عاد الشر وكان أقوى من ذي قبل، فعاوده الأرق والحزن، ولكنه لم يعرف لهما سببًا واضحًا، وتمنَّى فقط لو يعرف! فقد كان يضطر أحيانًا إلى ترك ما يكتبه ويتوقَّف عن العمل لساعات طويلة، يبدو فيها وكأنه يحلم بشيء لا يعرفه، وكان يسير في غرفته الضيقة غاديًا رائحًا حتى ينهكه التعب فيجلس على فراشه، وقد أخذ منه الإعياء مأخذًا. رويدًا رويدًا، شحب وجهه ووهن جسده وكأن مرضًا قد ألمَّ به، فاضطر إلى ترك عمله تمامًا وتوقَّف عن الكتابة لأيام وأسابيع، وإذا سأله أحدهم عن أحواله، كان دائمًا ما يردُّ بغضبٍ شديدٍ وبثورةٍ عارمة، دون أن يجيب عن تساؤلاته.
وفي يوم ما، مرَّ عليه كلمح البصر، فهم كل شيء وأدرك سبب ما حدث له، ولكنه لم يفكِّر قط في التوبة، ولم يصُم أو يتقشَّف، ولم يحاول أن يجاهد نفسه أو يتغلَّب على شهواته.
وبعدها تغيَّر حاله تمامًا، فقد أصابه حزن جمّ، وكان يبكي كثيرًا كالطفل نهارًا، وفي الليل كان يجلس أمام طاولته ويتلو متمايلًا فقراتٍ من المزامير، بصوت مرتفع وبترتيل منغَّم، فبدا ترتيله للمزامير كصيحات شخص شبَّت فيه النيران يستغيث طلبًا للمساعدة وطمعًا في النجاة “لإمام المغنين مزمور لداود عندما جاء إليه ناثان النبي بعد ما دخل إلى بتشبع. اغسلني كثيرًا من إثمي ومن خطيَّتي.. طهِّرني. لأني عارفٌ بمعاصيَّ، وخطيتي أمامي دائمًا. إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت… طهِّرني بالزوفا فأطَّهَّر، اغسلني فأَبيضُّ أكثر من الثلج. أسمِعني سرورًا وفرحًا، فتبتهج عظامٌ سحقتها. استر وجهك عن خطاياي، وامح ُكل آثامي. قلبًا نقيًّا اخلَق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّد في داخلي. لا تطرحني من قُدَّام وجهك -يا رب السماوات والأرض- وروحك القدوس لا تنزعه مني. رد لي بهجة خلاصك…” [14].
كان يرفع صوته ويصيح عاليًا من حين إلى آخر حتى تجمهر الرجال والنساء والأطفال حول بيته، فذرفت أعينهم الدموع وهم يستمعون إلى ترتيله. كانت صيحاته أعلى من زئير حيوانات الغابة المفترسة التي يصيبها الصياد برصاصة مباغتة، وكان بكاؤه أقوى من نحيب إنسان يتمرَّغ في التراب من فرط الألم.
وفي تلك الأثناء، بزغت نجوم ساطعة وباردة في السماء الصافية، تتطلَّع بجمود في الثلج الأبيض، تومض وتلمع في صمت.
كان رأوبين يشعر أحيانًا بلامبالاة تامة حيال كل شيء، فيمكث في فراشه لأيام طويلة لا يتزحزح ولا يتحرَّك ولا يترك مكانه، يكتنفه هدوءٌ بائسٌ ومخيف. إلا أنه في أحد الأيام نهض فجأة، وهبَّت داخله روح التمرُّد والعناد، وتملَّكته روح العصيان والمقاومة، ورفض أن يتجاهل كل ما يحدث له.
وحينها فجاءته مشاعر مبهمة وغامضة، وأحسَّ أنه قد سُلِب كل شيء، ولكنه لم يعرف بأيدي من؟ وفجأة عرف: جميعهم، بتشيزوكا، واليهود فيها، وفي جميع الأنحاء، وحتى الحاخام بونيم نفسه، قد سلبوه كل شيء، وهنا صرخت دواخله: لتمُت نفسي مع الفلسطينيين [15]! لتمُت نفسي مع الفلسطينيين.
فانتابه شعور بالتشفي، وأخذ يردِّد: نير العبودية ثقيل إلى هذا الحد، فلتكن رجاءً أثقل من هذا، والمنفى قاسٍ، فلتتفضَّل وتقسو أكثر وأكثر، ولم يعد هناك قوَّة لمزيد من الاحتمال، إذن فليحدث ما يحدث، وليعانوا طويلًا. الخطايا تتزايد، فما أطيب ذلك حقًّا!! علت الموسيقى بداخله فأصبح أكثر طربًا، وتملَّكته رغبة ملحَّة في تنفيذ انتقام غامض ومبهم.
أذنب الجميع في حقِّه؛ إله إسرائيل مذنب، والتوراة المقدسة مذنبة، الكل مذنبون، السماوات والأرض مذنبتان، الجميع مذنبون، وهكذا تشتَّت ذهنه وارتبكت أفكاره، وباغته الإعياء، فارتخت يداه ووهنت روحه وفقد كل عزيمته.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتلوَّى على شفتيه ابتسامة غريبة وحادة، وأصبحت عيناه الضيقتان أدقَّ حجمًا، وسكنتا في محجريهما تطلان بخبث شديد، وفي مقابل هذا التغيُّر الخارجي، استردَّت روحه سكينتها وعاد إلى كتابة أسفار التوراة والمزوزا والتفيلين ليلًا ونهارًا.
انقضى الشتاء وحلَّ الصيف، ثم توالت الأيام وانقضى الشتاء وحلَّ صيفٌ جديد، والسيد رأوبين باحور يواصل كتابته وينسخ بنشاط وهمَّة أسفار التوراة وأشرطة التفيلين ورقوق المزوزا.
وفي أحد أيام عيد الحانوكا [16]، وقع حادث مخيف وغريب، أثار حفيظة المدينة كلها التي اهتاج أبناؤها غضبًا عقب اكتشافه، فقد عثروا صدفة على إحدى المزوزات في منزل السيد موشيه كبلان ووجدوا أنها تحمل اسم ليليت بدلًا من اسم الرب، تقصَّوا الأمر إلى أن اكتشفوا أنها كانت من صنع السيد رأوبين باحور، وحينها بدؤوا في فحص مزيد من المزوزات واتضح لهم أن كل المزوزات التي صنعها رأوبين على مدار العام تحمل اسم ليليت بدلًا من اسم الرب، فقاموا بفحص الإصحاحات المنسوخة في أشرطة التفيلين ووجدوا الاسم المخيف ذاته، ثم بدؤوا في فحص أسفار التوراة المكتوبة حديثًا، والتي لم يفتحوها بعد للقراءة أو للتعلُّم، فاكتشفوا الشيء نفسه.
هلع كل أبناء الطائفة، ولم يجدوا ما يصفون به ذعرهم الشديد، فقد انحبست الكلمات على شفاههم قبل أن ينطقوها، وأحنى الجميع رؤوسهم وكأنهم يخشون النظر بعضهم إلى بعض، وفي بداية الأمر أصبحوا جميعًا في هرجٍ ومرج، وبعدها استولى عليهم الذعر مما قد يحلُّ عليهم من عقاب إلهي، وأخيرًا باتوا في حزنٍ شديد.
***
وعندما مثُل رأوبين باحور أمام الحاخام بونيم كان هادئًا للغاية وصامتًا تمامًا، يتصرَّف كشخص فعل ما ينبغي عليه أن يفعل، ولا يفهم مطلقًا سبب غضب الآخرين عليه، حتى أخذ يردِّد داخله “لن ترضى عنك الناس أبدًا مهما فعلت”. صار وجهه أكثر سمنة وأشد غلظة عن ذي قبل، كما تشعَّث شعره الذهبي وأصبحت لحيته غير مشذبة. ضاقت عيناه وفقدت لمعانها، وصار بصره ضعيفًا، وارتسمت على شفتيه الدقيقتين ابتسامة غريبة وفرحة لم تفارقهما أبدًا، بينما سكنت على وجهه إشراقة نابعة من انشراح صدره وطيب نفسه، وعندما رآه حاخام المدينة والقضاة الربانيون ورؤساء الطائفة وسدنة المعبد وعامة الشعب ممن شهدوا هذا الموقف الجليل، لاحظوا جميعًا كيف أصبح رأوبين شخصًا غليظًا ضخم الجثة، فتملَّكهم الفزع الشديد.
صوَّب الحاخام بونيم نظراته العمياء تجاهه، وبدأ يستجوبه، وسأله بصوت خنقته الدموع “لماذا فعلت هذا؟”، فأجابه رأوبين بهدوء، وردَّ بكلمات متقطِّعة كمن يكابد العناء ليجد التعبير المناسب، ومع ذلك لم تفارق الابتسامة الصفراء شفتيه أثناء الكلام، فقال “انظر سيدي، الأمر بسيط، سأحكي لك كل شيء. جاءتْ من حيث لا أدري ودخلت إلى بيتي وتركت الريش ثم خرجتْ، أليس الأمر بسيطًا، أتفهم سيدي! ثم سقط الثلج على الأرض، أليس الأمر بسيطًا للغاية، أتفهم سيدي! كنت أنسخ التوراة وأسير على الصراط المستقيم، وفجأة لاحظت أن الحروف الأولى من اسم ‘ليليت’ تعني ‘دائمًا تمتلك المرأة ناصية الأمور‘ [17]، أليس الأمر بسيطًا، أتفهم سيدي! فكتبتُ الاسم وسأظل أكتبه…”.
“منْ تلك التي جاءتْ إليك؟ وعن أي ريش تتحدَّث؟”.
استمع إليه رأوبين بهدوء تام، وقطب جبينه للحظات كمن يجاهد ليجد كلماتٍ تعبِّر عما يريد قوله، ثم أجابه بتريُّث والابتسامة الشعواء لم تترك بعد شفتيه، فقال متلعثمًا “انظر سيدي، الأمر بسيط، سأحكي لك كل شيء، جاءتْ من حيث لا أدري ودخلت إليَّ ثم خرجت ثانيةً، أليس الأمر بسيطًا، أتفهمني سيدي! وسمعتُ أنها قد تزوَّجت بعد أن تركت لي الريش، فماذا يمكنني أن أفعل؟ فلم أمتلك سوى الريش، فأخذته وكتبت به. أواضحٌ كلامي، أتفهمني سيدي! ثم سقط الثلج صباح أحد الأيام، أليس الأمر بسيطًا، وحروف الاسم «ليليت» شكَّلت الجملة «دائمًا ما..»”.
“ولكن، ألم تخشَ الله قط؟”.
فأجابه بعد لحظات “بلى سيدي. ألم أفعل ذلك كله بسبب مخافة الله وحده! فالأمر بسيط، جاءت من حيث لا أدري ودخلتْ إلى بيتي، ثم تزوَّجت، فلم يبقَ لديَّ خيارٌ آخر سوى كتابة اسمها “ليليت” وحروفه التي تعني «دائمًا ما تمتلك المرأة ناصية الأمور»”.
“يا إلهي! ماذا تقول؟!”.
“ألا تفهم كلامي! الأمر بسيط للغاية، دخلتْ وخرجت ثم تزوجت. أحضرت إليَّ الريش، الأمر بسيط كما ترى، وكنت أمامها قليل الحيلة. كان اسمها «ليليت» وحروفه تعني «دائمًا ما تمتلك المرأة ناصية الأمور»”.
غادره الجميع في النهاية، بعد أن لاحظوا لوثة عقله، فظلَّ يضحك ضحكة غريبة، وأشرقت عيناه ببريق لامع وكست ملامحه لذة شديدة.
وفي اليوم الثالث ذهب الجميع، وكأنَّهم في جنازة مهيبة، ليقوموا بدفن تلك الأوراق الباطلة. شارك كل أبناء المدينة، صغيرًا وكبيرًا، في مراسم تلك الجنازة، وتلا سادن المعبد قدَّاس الترحُّم [18]، بينما سقط الثلج وغطَّى سطح الأرض، وكان نقيًّا ناصع البياض يتلألأ كالبلور.
ولم يعد أحد يلتفت إلى رأوبين باحور، الذي ظل طوال الوقت تائهًا يجلس أمام طاولته يكتب ويكتب، ورغم أنه لم تعد بحوزته أي رقاقة أو ورقة، فإنه كان يستغلُّ كل فراغ بكل قصاصة تقع في يده فيسرع بالكتابة على كل زاوية منها: ليليت.. ليليت.. ليليت.
***
وفي الثالثة ليلًا بزغ نجمٌ في عنان السماء، وحيدًا ومنعزلًا ولامعًا، فمنذ آلاف السنين كان قد بزغ النجم ذاته ولمع في السماء ذاتها، وسيظلُّ يبزغ ويلمع لآلاف أخرى من السنين، وخلال تلك السنين يعيش الإنسان ويموت، يضحك ويبكي، يتمتَّع ويعاني، يُغوى ويقاوِم، ولا يدرك أبدًا حقيقة نفسه، ومن سيعي إلى أبد الآبدين ذلك الألم الذي كان يشعر به؟ يبزغ نجمٌ في عنان السماء ليلًا ويلمع!
هوامش الترجمة:
[1] الكاتب: ناسخ الكتب الدينية، وهو الشخص الذي ينسخ التوراة والتفيلين والمزوزا، ويكون متشدِّدًا في كل ما يخصُّ الدين، ومبتعدًا عن رفاهية العيش التي قد تمنعه من الكتابة، ويسمَّى بالعبرية “سوفير ستام”، وهي اختصار الحروف الأولى من الكلمات العبرية “سفري توراة، تفيلين، مزوزوت”.
[2] المزوزا: تميمة الباب، وهي صندوق صغير مستطيل الشكل يعلق في زاوية دار كل يهودي، ويحتوي على رقٍّ من الجلد مكتوب داخله إصحاحات من سفر التثنية. أما التفيلين: تميمة الصلاة، وهي شريطان من الجلد أحدهما يوضع على الرأس والآخر حول اليد اليسرى مكتوب بهما فقرتان من سفر الخروج وفقرتان من سفر التثنية.
[3] الطاليت: شال الصلاة، وهو قطعة قماش مستطيلة الشكل منسوجة من القطن أو الصوف أو الحرير، وفي كل طرف منها عقدة من ثمانية أهداب، أربعة باللون الأبيض وأربعة باللون الأزرق.
[4] الحسيدية: حركة دينية اجتماعية نشأت بين يهود جنوب بولندا في القرن الثامن عشر بزعامة “بعل شيم طوف”، ثم انتشرت مراكزها في بلدان مختلفة من أوروبا الشرقية، وقد قام الفكر الحسيدي على الأفكار الصوفية القبّالية، وعلى الاهتمام بالخلاص الذاتي عن طريق تخلُّص الفرد اليهودي من أزماته، لذلك تعلي من قيم المحبة والمعروف والسعادة. والكلمة مشتقة من المفردة العبرية “حسيد” بمعنى “تقي وورع”.
[5] وعاء أو إناء: كلمة كانت تشير في البداية إلى الآنية التي تُستخدَم في الطقوس الدينية بالمعبد، ثم أصبحت تشير في فترة متأخرة، كما ورد بمرويات عدة بالفولكلور اليهودي، إلى الأشخاص ذوي المكانة الدينية العالية، مثل الربانيين والجاؤونيم وعلماء القبالا وكتبة التوراة، وكذلك سدنة المعابد وجباة الكنيس.
[6] الشخينا: كلمة عبرية تعني “السكينة”، وتشير في المرويات الدينية اليهودية إلى التجلي الإلهي أو حلول الإله في الإنسان والعالم، ويقال إنها كانت في الأصل إلهة كنعانية قديمة عبدها اليهود في مملكة يهوذا الجنوبية. ويروي التلمود أنها تتلبَّس اليهودي حينما ينفِّذ التعاليم الدينية، وأنها قد تتجسَّد في الأشخاص المتديِّنين والأماكن المقدسة، ويرمز لها آنذاك بالضوء الذي يعم المكان، وقد ورد عنها في عدة أساطير يهودية أنها تتجوَّل في الأرض وتضاجع اليهود من دارسي الشريعة والمحافظين على تعاليم التوراة، خاصة عندما يبتعدون -من أجل دراستهم الدينية- عن زوجاتهم، وبذلك يحظى دارس الشريعة اليهودية بالعيش مع امرأتين، ولكنها تترك مضجعهم إلى ليليت، التي تظهر لهم في صورة نار متأجِّجة، إذا ما انصرفوا عن العبادة أو أساؤوا إلى زوجاتهم.
[7] سفر العدد (15: 39)
[8] المكيفا: المغطس، بركة من الماء يغطس فيها اليهودي من أجل التطهُّر من الدنس، وهو من موجبات الطهارة في الديانة اليهودية.
[9] حرف الفاء في الاسم رفقة يقابل حرف الباء الذي بنطق v في وسط الاسم بالعبرية.
[10] اليارمولكا: غطاء رأس صغير دائري الشكل يرتديه اليهود المتدينون أثناء الصلاة، وهي كلمة يديشية يقابلها بالعبرية الكيبّا.
[11] الزوهار: من أهم كتب التراث القبّالي، يُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوحاي في القرن الثاني الميلادي، ويتضمَّن شروحًا وتعليقاتٍ صوفية مكتوبة بالآرامية حول عدة قضايا بالعهد القديم مثل أسرار الخلق وبداية الكون وطبيعة الإله ومفهوم الخلاص، وقد احتلَّ الكتاب مكانة بارزة وسط يهود أوروبا أثناء ازدهار القبّالا في القرن السادس عشر، وهي كلمة عبرية تعني “الإشراق” أو “الضياء”.
[12] عيد الغفران: يحل في اليوم العاشر من شهر أكتوبر، وهو اليوم الأخير من أيام التوبة التي تبدأ بعيد رأس السنة العبرية وتنتهي بيوم الغفران، وهو يوم صيام تحرُم فيه خمسة أشياء: الأكل والشرب والاستحمام والانتعال والجماع، ويصلي اليهودي فيه خمس صلوات ويعترف بالذنوب عدة مرات من مساء يوم الغفران حتى نهايته. وحسب التراث الحاخامي فإن يوم الغفران هو اليوم الذي نزل فيه موسى من جبل سيناء للمرة الثانية ومعه لوحا الشريعة؛ حيث أعلن أن الرب غفر لهم خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي.
[13] عيد الشجرة: يحل في الخامس عشر من شهر فبراير أو شباط، لذلك يسمى “طو بشباط”، وهو عيد خاص في ذاته، لأنه لا يُحتفل به خارج إسرائيل، وهو يوم تكثر فيه زراعة الأشجار وتناول ثمار الفاكهة.
[14] يسمى الإصحاح 51 من سفر المزامير بمزمور التوبة، يتلوه اليهودي حتى يتطهَّر من خطيئته وينال التوبة.
[15] الجملة التي ردَّدها شمشون في سفر القضاة (16: 30)، والتي صارت مقولة شهيرة في التراث الشعبي تأخذ الصيغة “عليَّ وعلى أعدائي”.
[16] عيد الحانوكا: يحل في الخامس والعشرين من نوفمبر ويستمر طيلة ثمانية أيام، ويسمَّى كذلك عيد “الأنوار” أو “التدشين”، وفيه يُحرم على اليهودي الحداد والصيام؛ بينما تتلى فيه التسابيح والصلوات وتُقاد فيه الشموع، وهو ذكرى انتصار الحشماونائيم على اليونانيين وتدشين هيكل سليمان من جديد 164 ق.م.
[17] لأن الحروف الأولى من الجملة العبرية “لعولام يش لإيشّا يد تكيفا” تكوِّن الاسم “ليليت”.
[18] قداس الترحم أو القَديش: إحدى الصلوات اليهودية التي كانت تُتلى قديمًا بالآرامية بعد انتهاء اليهودي من دراسة الأجادا (القصص الدينية)، ثم أصبحت تتلى مؤخرًا أثناء الحداد على الميت.