مأزق النوع البشري

السبت 2017/04/01
لوحة: بين غاريسون

لم يعد المنطق التقليدي وعلوم الاجتماع والتاريخ كافية لتحليل تلك الزلازل، لأن خبراتها محصورة في سلوك التجمعات البشرية المتماسكة، والتي تفككت إلى حد كبير مع اتساع وسائل الاتصال والإغراءات، التي أصبحت قريبة بدرجة مهيّجة وصاعقة.

قد يتطلب الأمر منصة متفرج محايد على الحياة في هذا الكوكب، لا يفرّق بين الأسود والقردة والأرانب والثعالب والبقر والبشر، وما تراكم عميقا في غريزة البقاء على مدى ملايين السنين.

قطيع البافلو وخلية النحل ومملكة النمل وخلايا التجمعات البشرية، هي التي تختزن العناصر الحاسمة في غريزة بقاء النوع، وهي التي تعرف، إذا كانت متماسكة، ما الذي عليها فعله من أجل البقاء، بينما لا يعرف أيّ من أفرادها ما الذي يفعله.

قبل ثورة الاتصالات وهجمة الإغراءات القريبة، كانت الغريزة التي راكمها النوع البشري ملائمة لتوازن الحياة على هذا الكوكب، وبضمنها المنافسة بين القرى والشعوب المتجاورة. بل إن الحروب والصراعات كانت ضرورية لحفظ النوع وتطوير قدراته وفق قانون البقاء للأصلح، شأنها شأن جميع النباتات والحيوانات التي تتطور بالاستجابة والقدرة على التأقلم مع الظروف الجديدة.

جميع الكائنات لا تستطيع تغيير إحداثيات وبوصلة غريزة البقاء، فجأة خلال وقت قصير، ومنها غريزة بقاء النوع البشري المحفوظة في كيان النوع والجماعات سواء كانت عائلة أو قبيلة أو قرية أو مدينة أو أمّة.

كانت هناك هياكل هرمية ومرجعيات كثيرة تضبط إيقاع سلوك تلك التجمعات وفق معايير تدافع بها عن نفسها، حتى لو عبر تضحيات من قبل الأفراد، يتم تقديرها عاليا من أجل استمرارها في حماية الجماعة.

فجأة تلقت حياة التجمعات البشرية جرعة قد تكون قاتلة من الفردية الشعبوية المنفلتة والخطيرة على استقرار نسيج الجماعة، بعد ثورة الاتصالات والإغراءات الهائلة القريبة إلى درجة مهيّجة ومثيرة للتذمر والغضب.

قبل عشرات السنين لم يكن يخيّل لإنسان فقير أن يصبح غنيا دون معجزة كبيرة. وكانت الأحلام والطموحات منضبطة ضمن معايير صارمة. أما اليوم فقد أصبح مليارات الفقراء والمهمّشين يشعرون أنهم يمكن يغرقوا في ثراء فاحش بسهولة في أيّ لحظة، لأنّ شخصا في نفس الشارع أو الحي المجاور ربح اليانصيب أو أصبح لاعب كرة قدم أو ممثلا أو بطلا لفضيحة تحولت إلى نعمة أو أوقع مليونيرا أو مليونيرة في غرامة أو جاء بفكرة تبدو بسيطة تحولت منجما للثروة.

لو عدنا 30 عاما سنجد أن جميع أفراد أيّ كتلة صغيرة من تلك التجمعات يلتزمون بضوابط محكمة ويحرصون جميعا على المربع الذي يحتلونه في ذلك النسيج الاجتماعي المنضبط، بل إن هامش التمرد محسوب أيضا من أجل دور محدد في حفظ غريزة النوع ومربوط بحبل قصير إلى محور الجماعة.

اليوم أصبح الجائع في بقاع العالم النائية يحلم بأفخم القصور واليخوت في العالم وبأجمل عارضات الأزياء ويشعر عميقا أن ذلك ممكن في أيّ لحظة، بل هو حقه الطبيعي لأنه أفضل من بعض الأثرياء ويستطيع أن يفعل ما فعلوه للحصول عليها. ذلك الإحساس أصبح يخرج جيوشا من الغاضبين على قوانين الجماعة.

قبل عشرات السنين، لو عرضنا ثروة طائلة على معظم سكان العالم دون سبب مقبول اجتماعيا، فإن معظمهم سيرفضها، لأنهم لن يستطيعوا تبريرها في اليوم التالي، وسيرفضهم المجتمع والعائلة، وهو ما يهدد دورهم المطمئن في نسيج المجتمع، الذي لا يمكن استبداله حتى لو سافر إلى بلد آخر، لأن الأسئلة القاسية ستطارده في كل مكان.

فجأة انهارت معظم المنصّات التي كانت تضبط معايير سلوك التجمعات البشرية وتشحذ بوصلتها إلى خيارات البقاء وضاعت بين منصات لا حصر لها، تزدحم بهتافات الانتهازيين الصاخبة، بعد أن أصبح القطيع البشري سهل القياد بانفجار الإغراءات التي لم يسبق لها مثيل في درجة الإحساس بإمكانية الحصول عليها بسهولة رغم أنها بعيدة عن غالبية الأفراد.

انقلبت جميع الأهرامات الرّاسخة في غريزة بقاء النوع البشري بعد أن اجتاحتها جيوش المتسلّقين والأصوات الانتهازية المتاجرة بالعرق والدين والعصبيات الطائفية والأيديولوجية، مهما كانت الأسلحة والأثمان.

تمزّق نسيج التجمعات البشرية، الذي من المرجّح أن يزداد انهيارا، هو الذي مكّن معسكر الهامشيين والغاضبين والعنصريين والجهلة من دحر معسكر المتعلمين والأذكياء والخبراء والمتخصصين والعلماء والمثقفين ورجال الأعمال والمؤسسات في بريطانيا، ليدفعوا لإسقاط أول أحجار الدومينو وإطلاق شرارة حرف مسار التاريخ.

ثم انتخب نظرائهم في الولايات المتحدة دونالد ترامب رئيسا لأقوى بلد في العالم ليفتحوا أبواب الغضب والشعبوية والانعزالية والعنصرية على مصراعيها وينذروا بسقوط أحجار دومينو أخرى، ربما في فرنسا وألمانيا وهولندا وبقاع أخرى كثيرة من العالم.

وفِي ظاهرة لا تختلف كثيرا، تمكّن الغضب المحتقن من استقطاب أعداد هائلة إلى معسكرات الظلام مثل تنظيم داعش وبوكو حرام والعصابات العرقية والطائفية الأخرى. وقد نشهد ظواهر أخرى أشد خطورة في البلدان المتقدمة والفقيرة.

النوع البشري في مأزق شديد بعد تضاعف عدد المنابر ملايين المرات واتساع إغراءات الأضواء البرّاقة التي تشتت انتباه الأفراد والجماعات البشرية.

معظم البشر أصبحوا يتفرجون على ذات ملايين الإغراءات المعروضة على جميع سكان العالم، الأمر الذي يفاقم هجمات الانتهازيين على المنصات الجديدة البرّاقة، ليقودوا من تعطلت مجساتهم بسبب تلك التغييرات النوعية الكبيرة، التي لن تتمكن البشرية من هضم سيلها الجارف.

لا أريد أن أجرح الرصيد العجيب لكلمة ثورة. لكن جميع الثورات العاصفة، التي أنهت حقبا من الظلم، مزقت في الوقت نفسه بوصلة الاستقرار الخفية للمجتمعات، من الثورة الفرنسية إلى الروسية والصينية والإيرانية، وصولا إلى ثوراتنا القديمة والجديدة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا والإغراءات.

الخطير أن إعادة الجموع الغاضبة المنحدرة إلى الهاوية دون مكابح، يكاد يكون مستحيلا، فأيّ محاولة لإقالة ترامب من قبل المؤسسات، على سبيل المثال، قد تفجّر حربا أهلية بعدما أصبح المخلص المنتظر للغاضبين والعنصريين والهامشيين. أما إذا تم ترك ترامب ليكمل ولايته فقد يعمق شرخا لا يمكن إصلاحه ويواصل تغذية النار بالحطب إلى أن يصبح إخمادها مستحيلا.

يقول العلماء إن التلوث أصبح يجعل نسبة ضئيلة من النحل تفقد بوصلتها ولا تتمكن من العودة إلى خلاياها، وهو ما يهدد مستقبل الزراعة بسبب دورها في تلقيح النباتات. ويبدو أن تشويش هجمة الإغراءات ينذر بخلل كبير وأخطر في بوصلة غريزة الأفراد والجماعات البشرية.

قد يقول البعض إن التجمعات البشرية قادرة على التأقلم مع التغيّرات والتحدّيات الجديدة، لكن التغيرات المقبلة حتما، أسرع بملايين المرات من قدرتها على التأقلم، أي أنها تطارد هدفا يزداد ابتعادا بسرعة خارقة.

وسوف تصب تطورات التكنولوجيا المزيد من الزيت على نار الأزمة حين تحيل الروبوتات والأتمتة معظم البشرية على التقاعد فتنضم جيوش أخرى من العاطلين إلى جموع الغاضبين.

خلاصة القول إن مأزق النوع البشري أكبر من جميع التفاصيل التي ذكرناها وقد تكون البشرية مقبلة على أزمة عالمية كبرى، قد تتفجر من خلال أيّ زلزال كبير مثل انهيار في أسوِاق المال يطفئ كل الأنوار ويؤدي إلى نهاية معظم سكان العالم، ليبدأ الناجون في البقاع النائية رحلة جديدة عبر انتخاب طبيعي لعناصر جديدة في غريزة البقاء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.