مأساة الراهن
يصنع سعد القرش في روايته «المايسترو» معادلاً موضوعياً لواقع عربي سيء، يسير إلى المجهول، عبر استحضار مجموعةٍ من الشخصيات، وتداخلها معاً في سياقات الحكي، ليصبح؛ رغم اختلاف الخلفية الحكائية لكلّ منهم، مصيرهم جميعاً مرتبطاً بالمساقِ نفسه، فإما أنهم ينجون معاً، أو يهلكون معا، ورغم الصراعات النفسية الخاصة بكلٍ منهم، فإن تداخل الحياة مع الذكريات مع الأوجاع الصغرى والكبرى ومع حديث النفس، ذلك ما يصنع الأدبية الخاصة برواية “المايسترو”، وكأننا نتأمل مقولة عزالدين إسماعيل في كتابه “التفسير النفسي للأدب”، “إن النفس تصنع الأدب، وكذلك يصنع الأدب النفس. النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس (…) إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا”.
وزّع سعد القرش التناول النفسي بين شخصيات روايته “المايسترو” لتصبح شخصية “مصطفى” – المايسترو – هي الشخصية التي تحتل المساحة الأكبر في السرد، تليها شخصية “أنيل” ثم “نواف” ثم “تسو”، ورغم استحضار شخصية “هندية”، وشخصية “تبتية”، وشخصية خليجية منقوصة الجنسية، إلا أن المساحة الكبرى التي يتناولها السرد هي الواقع العربي بمجمله، ثم شخصية المايسترو (مصطفى) المصري الجنسية، وإن كان يتم التعريج على الواقعين الهندي والتبتي فهو غالباً ما يأتي في باب المقارنة من حيث العقائد، ومن حيث الحكمة التي احتوتها هذه البلدان.
ومع الوقت، وظهور وتراكم الثروة النفطية تحوّل أهالي هذه البلدان المعروفة تاريخياً بحكمتها، إلى العمل المضني والشاق في دول الخليج “القادر بماله على تحقيق كل شيء” وفق ما يقوله نواف، لكن المشكلة أنه لا يتحقق من كل شيء إلا مجال المتعة والشهوة للكبار وعلية القوم هناك، لتأتي المفارقة عندما يوجه (المايسترو) سؤاله إلى نواف:
– “هل صدّقت أن الخليج نزع حمالة صدرها؟!
يجيب نواف:
– الخليج قادر على كل شيء.
يقولها ويبتسم، فيسأله المايسترو:
– كل شيء؟
– نعم، كل شيء. الحمالة والصدر وصاحبته وصاحبها إذا لزم الأمر.
– تتكلم عن كيان خرافي لا يعجزه، بالمال، شيء؟”.
نلاحظ أن “المايسترو” يسأل عن الخليج قاصداً المياه بعدما تم إلقاء فتاة دون حمالة صدر في مياهه من أحد اليخوت كبيرة الحجم، بينما يرد نواف قاصداً الدول والمجتمعات والشعوب وحياتها، تتحول الواقعة هنا إلى واقعة «وعي»؛ يقول لوسيان جولدمان «أيّ واقعة اجتماعية هي أساساً واقعة وعي وكل وعي تمثيل لقطاع معين من الواقع»، ويهدف القرش هنا إلى تنبيه الوعي الجمعي لدى القراء إلى المآل الذي انتهت إليه الأمور في الدول العربية، فيغوص في عمق التجربة الإنسانية وتنوّعاتها، ويختار القطاعات التي يرغب في تناولها على نحو دقيق، وكل قطاع يختاره لديه عقدته الخاصة به ومشكلاته في مواجهة الواقع.
منذ البداية، نحن نشاهد أنيل وهو مدفوع برغبة الحصول على كرامته في وجه سيل الإهانات من الكفيل، إنه لم يفعل شيئاً إلا مجاراة الابن الصغير لسيده العربي – ونلاحظ مقدار ما في كلمة “سيد” من إشارات ودلالات – فيصنع قارباً من بقايا مخلفات خشبية، وما إن يحضر السيد الكبير ويشاهد القارب في الحديقة حتى ينتابه الغضب، ففي حقيقة الأمر هذا القارب يذّكِّره بماضٍ كانت فيه كل معيشة أهل الخليج مبنية على استخراج اللؤلؤ من المحار، ورغم القيمة الاقتصادية للؤلؤ إلا أن الواقع كان بائساً وشاقاً، واليوم بعد تبدل الأحوال، لا يريد هذا السيد ما يذكّره بهذا الواقع القديم، هو الآن يعيش واقعاً جديداً يستشعر معه أنه قادر على التحكم في مصائر الخلائق، من هنود وبنغال وتبتيين وغيرهم. وبعد العِشرةِ وطول الفترة التي قضاها ماني والد أنيل في خدمة السيد، يُطرد أنيل من كفالة سيده القديم، ليقول له:
– “من هناك تعرف الطريق، اخرج ولا تُرني وجهك. خذ قاربك إلى الجحيم وتسوّل لك أيّ سيد يكفلك. وأبوك باقٍ هنا، سنه أكبر من البحث عن سيد آخر، وهو مسؤول عنك، وإذا بلغني أنك ارتكبت خطأ، فستراني مرة أخرى، وأخيرة. الآن ودّع أباك، فلن تقابله بعد اليوم”.
مع ثراء ووفرة الواقع الاقتصادي الذي يعيشه السيد الخليجي نجد أن الناحية النفسية مأزومة، فهناك غيابٌ لوضوح الهدف، وعدم القدرة على تحقيق السعادة، خاصة في ظل الكم الكبير من التناقضات ما بين المسموح والممنوع، وما بين الرغبة والكبت، العديد من التناقضات التي تكتنف هذا المجتمع، والتي يمثل أعلاها ما حكاه مصطفى عن تجربته عندما ادعى أنه كفيفٌ فقادته المغامرة إلى رجُلٍ تعدى الستين لكنه لوطيٌّ، يرتدي ثياب النساء، ويصبح مصطفى في موقف المضطر للسكوت عما يراه – وهي مفارقات تعبيرية – والمشارك في الاستمتاع بانحراف المغامرة، حتى تقوده المغامرة إلى معاشرة زوجة هذا السيد.
ولكنه وفي زخم احتياجها لنداء الجسد تؤكد له أنها ليست كذلك، وأن ما جعلها تفعل هذا هو الإهمال والإهانة لإنسانيتها وتقديرها لاستشعار مراعاة هذا الرجل لها، تمنحه قلادتها التي تحمل مفارقة المعنى الدلالي بين الرفاهية والمال، لكنها جاءت هدية له وليدة نقص واحتياج نفسي، حيث تحمل كلمة “وتمت نعمة ربك”.
يتوجه سعد القرش على نحو خاص لقارئه في حكايته، مقدماً وبشكلٍ واضح – متجنباً الغموض من بين ثنايا الاعتماد على التشويق – مكتفياً بعجائبية الواقع وغرائبيته الذي يتحدث عنه، ليجد القارئ نفسه أمام منعطفات تأويلية واضحة لما يرغب أن يقوله المؤلف (راجع: أمبرتو إيكو: القارئ في الحكاية، ترجمة أنطوان أبوزيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 1996)، فمصطفى المايسترو هو بشكل أو بآخر اختزالٌ للشخصية المصرية، التي هي القائد والمحرك للمنطقة العربية، أو هي الشخصية المتحدثة بلسان «المؤلف الضمني» في الرواية (راجع حول المؤلف الضمني: فريدة إبراهيم بن موسى: زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية: دراسة نقدية، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2013م، الأردن، ص 31)، فما من سبب داخل ثنايا الرواية يدعوه للتسمية بالمايسترو، وهو لا علاقة له بمجال الموسيقى بل يعمل في حقل المحاماة، ولكنه يمتاز بمغامراته الكثيرة التي أفضت إلى نجاح علاقاته غير الشرعية مع النساء، مع مفارقة فشله في علاقته الشرعية عندما تزوّج، ثم في النهاية يحب أميركية تبدو غريبة الأطوار بالنسبة إليه، ورغم بداية علاقته معها بشكل غير شرعي، فإن الأمر ينتهي بهما زوجاً وزوجة، وما بين قراره الأخير بالسفر للإقامة مع زوجته الأميركية، تأتي استراحته على قارب بدائي مصنوع بيد هندي مع رفقة تشعر بامتهان كرامتها الإنسانية، ليتحدثوا فيها جميعاً عن همومهم وآلامهم، لكن الحال يتحول لحديث وحكاية عن مغامرات المايسترو مصطفى.
جوهر الإمتاع الأساسي في هذه الرواية هما عنصرا الوصف والأحداث، فالمفارقة – كما أشرت – بين وضع شخصيات بعينها في محاولة الهروب من واقع القيود المفروض على البسطاء والعامة في تلك الدولة الخليجية – التي لم يسمّها – لتصبح مثالاً لأيّ دولة خليجية، تحرم على مواطنيها – حتى في الطيران الخاص بها – شرب النبيذ وفق قوانين الطيران الدولي، بينما تتيح ذلك للأجنبي الغريب.
وفي المقابل يتمتع من لديه المال أو السلطة بممارسة كل ما هو ممنوع دون أن يكون في ذلك أيّ عقوبة، لكن وهو يمارس ذلك دون سعادة حقيقية، فزوجة الشخص الذي يمارس مجونه بالاستمتاع بمعاشرة الرجال له، يعامل هذه الزوجة أسوأ معاملة إنسانية ممكنة، وهي تخونه دون قدرة منها على مقاومة هذه الخيانة، وهكذا في تتالٍ يوضح أن هناك – طوال الوقت – عقوبة ممارسة نتيجة انقسام القيم والتعالي والغطرسة وعدم تشكيل المجتمع على أسس سليمة، وغيره مما يمكن أن يقال عن الواقع المأزوم الذي تعيشه المجتمعات العربية عامة، ثم الخليجية خاصة.
لكن الرواية لا تقف عند حدود الدولة الخليجية، وإن كانت هي مناط التركيز على مفارقاتها، فمع استحضار شخصية «المايسترو» الذي لا نعرف ما الذي جمعه من صداقة مع هؤلاء، ولا المصادفة التي قرروا على إثرها في هذا اليوم بالتحديد للخروج لممارسة شرب الخمر في ظلام الخليج، متوخين الحذر من أن يتم كشفهم من قبل اليخوت الكبيرة التي يمكن أن ترميهم بالرصاص ولا تبالي لأن صاحبها سيدفع الدية في النهاية، وهي دية تختلف من المسلم عن غير المسلم، وغيرها من القضايا التي نجح في استحضارها بشكل يضعها موضع التساؤل لدى المتلقي، دون أن نغفل بروز ووضوح المؤلف أمامنا لأنهُ «ناقد ذاتي اجتماعي من خلال نصه الروائي» كما ذهب إبراهيم خليل في كتابه “في نظرية الأدب وعلم النص”، الدار العربية للعلوم – ناشرون، منشورات الاختلاف الجزائر، 2010.
بيد أنه في وسط هذا الزخم الروائي الشيق والممتع يحق لنا أن نختلف مع المبدع سعد القرش في بضع نقاط، منها مثلاً واقعة تقبُّل أسرة مصطفى لمعاشرته في منزله لامرأة أميركية، وعدم رفضهم ذلك، رغم أن الأسرة هي نتاج بيئة ريفية، بل يحدث النقيض من والدته، عندما يقرر أن يتزوجها لا تعترض، بينما هي توافق على قبول استمرار العلاقة بينهما من دون أن يكون هناك رباط زواج.
مثل هذا الأمر يبدو غريباً على المجتمع المصري، ولا نستطيع تصور أنه قابل للتحقق في المجتمع المصري بهذه البساطة، رغم أنه أعطى زخماً للمُعطى السردي، حيث أوجد سيلاً من المقارنات والتدقيقات في قراءة التاريخ المصري القديم، واستقراء الصور والوقائع والمعاني، فضلاً عن الإشارة إلى ارتباط الحاضر الإنساني البسيط بالماضي المعاش، لكن تبقى بعض القيم والمعتقدات حاكمة في مثل هذه الأمور، كما أن النهاية التي جاءت على نحو لا يتناسب مع زخم الأحداث التي تم تقديمها، فبينما بدأت الحكاية وتفرّعت لنحو من التأمل في القيم والمعتقدات وكيفية معاملة المرأة المعاملة اللائقة والبحث عن الحقائق والغوص في التاريخ.
إلا أن النهاية جاءت بتحول المجموعة الهاربة من سطوة المدينة عليهم عبر قاربهم البدائي، والذين رفعوا مجدافه وتركوا التيار يحركهم فأوقعهم في طريق يخت ضخم يُقام فيه حفلُ مجون جماعي وانتهاك للأعراض، إلا أنهم في مواجهة ذلك لا يبدون أيّ ممانعة في سرقة مال صاحب هذا اليخت، وتنتهي الرواية بطريقة فانتازية بعيدة عن زخم الواقع المرّ الذي تناوله القرش، دون أن نغفل احتمالية الإشارة لثورة في هذه النهاية المتعلقة بنقر مجموعة كبيرة من الديوك أوتاداً شُدت إلى الإسفلت .
فالنهاية هنا رمزية لحتمية تبديل الأوضاع أو انهيار كل شيء فوق رؤوس أولئك المطمئنين لما هم فيه ولا يرغبون في تحريك الأمور نحو الصواب والطبيعي وما تتحرك وفقه سنّة الكون وطبيعة البشر، بيد أن النهاية جاءت سريعة ومقتضبة وصادمة على نحو حاد أوقف استطراد الحكي الممتع والمتشعب الدال عبر الشخصيات ومفترقاتها ومفارقاتها في فضاء نصي امتد لقرابة الثلاثمئة صفحة، لينهي مجريات الحكي مرةً واحدة.