ماذا‭ ‬يكتب‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الدم

الثلاثاء 2016/03/01

كتب “ناطور”‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭ ‬المسرحي‭ ‬والسينمائي‭ ‬والتشكيلي،‭ ‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬له‭ ‬حوالي‭ ‬أربعين‭ ‬كتابا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬رواية‭ ‬وقصص‭ ‬قصيرة‭ ‬ودراسات‭ ‬وكتب‭ ‬للأطفال‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬المسرحيات‭. ‬وخمس‭ ‬ترجمات‭ ‬عن‭ ‬العبرية‭. ‬من‭ ‬أهم‭ ‬كتبه‭ ‬ثلاثيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬“ذاكرة،‭ ‬سفر‭ ‬على‭ ‬سفر،‭ ‬انتظار”‭.

كما‭ ‬أصدر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والمقالات‭ ‬التي‭ ‬بحثت‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬الشفوي‭ ‬لنكبة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭.‬

النص‭ ‬المنشور‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬مقال‭ ‬كتبه‭ ‬الراحل‭ ‬وخص‭ ‬به‭ ‬“الجديد”‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكاتب‭ ‬أوس‭ ‬داوود‭ ‬يعقوب،‭ ‬ويدور‭ ‬حول‭ ‬“ماذا‭ ‬يكتب‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭.. ‬لحظة‭ ‬الدم”‭.‬

ماذا‭ ‬يكتب‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الدم؟‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يسبق‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭: ‬هل‭ ‬ينتظر‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬الدم‭ ‬ويختفي؟‭ ‬تاريخنا‭ ‬العربي‭ ‬دموي،‭ ‬وسيظل‭ ‬هكذا‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬قول‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬“السيف‭ ‬أصدق‭ ‬إنباء‭ ‬من‭ ‬الكتب”،‭ ‬دستورًا‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬ومصدر‭ ‬وحي‭ ‬وانتصار‭ ‬على‭ ‬عمورية‭. ‬ولو‭ ‬انتظرنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الدم‭ ‬لما‭ ‬كتبنا‭ ‬رواية‭ ‬ولا‭ ‬وصفنا‭ ‬حالة‭. ‬والمأساة‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬نحن‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب،‭ ‬أننا‭ ‬لسنا‭ ‬مرفهين‭ ‬بحيث‭ ‬نكتب‭ ‬عن‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحدث‭ ‬ولا‭ ‬نملك‭ ‬الوقت‭ ‬والخيال‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬واقع‭ ‬دموي‭ ‬متخيّل‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬العنف‭ ‬والموت‭ ‬الواقعيين،‭ ‬والواقعيين‭ ‬جدًا‭ ‬جدًا‭.

أتمنى‭ ‬لو‭ ‬أنني‭ ‬أستطيع‭ ‬الكتابة‭ ‬روائيًا‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬ووصف‭ ‬حالة‭ ‬عربية‭ ‬إنسانية‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الإشارات‭ ‬والرموز‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬عنوان‭ ‬عربي‭. ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬دكتاتور‭ ‬بلا‭ ‬هوية‭ ‬محددة‭ ‬إلا‭ ‬صفة‭ ‬القمع‭ ‬والقتل‭ ‬ولا‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة‭ ‬دكتاتور‭ ‬عربي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬على‭ ‬عرشه‭ ‬أو‭ ‬استبدل‭ ‬بآخر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬اللعينة‭ ‬الأخيرة‭ ‬أو‭ ‬قبلها‭ ‬وأخشى‭ ‬مما‭ ‬بعدها‭.
في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬تشدني‭ ‬الكتابة‭ ‬نحو‭ ‬اختزال‭ ‬عناصر‭ ‬الدكتاتور‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بشخص‭ ‬محدد‭ ‬فتفقد‭ ‬الكتابة‭ ‬بعدها‭ ‬الإنساني‭ ‬المطلق‭ ‬والكوني‭. ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬اغتصاب‭ ‬الواقع‭ ‬للكتابة‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬التسجيلية‭ ‬أو‭ ‬التوثيقية‭ ‬التي‭ ‬تكتسب‭ ‬شرعيتها‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬لغتها‭ ‬وصياغتها‭ ‬وعمق‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬الدامي‭.‬

أنا‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أكتب‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أقرأ‭. ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الدم‭ ‬يحق‭ ‬للروائي‭ ‬أيضًا‭ ‬ألا‭ ‬يكتب‭. ‬هو‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الدموي،‭ ‬إلى‭ ‬معايشته‭ ‬بمشاعره‭ ‬وأحاسيسه‭ ‬وإلى‭ ‬وقت‭ ‬وجهد‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الزاوية‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬واقعه‭. ‬يحق‭ ‬له‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬يتأنّى‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬لكي‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬ووجدانه‭ ‬ايقاع‭ ‬الكتابة‭.

فالزمن‭ ‬الدموي‭ ‬له‭ ‬إيقاع‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬زمن‭ ‬آخر‭. ‬هو‭ ‬صاخب‭ ‬وصارخ‭ ‬وهمجي‭ ‬وفوضوي‭ ‬والكتابة‭ ‬فن‭ ‬السلاسة‭ ‬وتتابع‭ ‬الصور‭ ‬والمشاهد‭ ‬بمنطق‭ ‬وانتظام‭ ‬وضرورة‭.
في‭ ‬زمن‭ ‬الدم‭ ‬يحق‭ ‬للروائي‭ ‬أن‭ ‬يعفي‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬لكي‭ ‬يتجند‭ ‬بجسده‭ ‬وروحه‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬لوقف‭ ‬الزمن‭ ‬الدموي‭. ‬عليه‭ ‬ألا‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬اضطراريًا‭ ‬بل‭ ‬اختياريا‭ ‬بإرادته‭ ‬وقراره‭. ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يساق‭ ‬إلى‭ ‬المعركة،‭ ‬بل‭ ‬يندفع‭ ‬إليها،‭ ‬وبهذا‭ ‬يغني‭ ‬تجربته‭ ‬ويشحن‭ ‬مشاعره‭ ‬ويرهف‭ ‬أحاسيسه‭ ‬وعندما‭ ‬تحين‭ ‬لحظة‭ ‬الكتابة‭ ‬يندفع‭ ‬إليها‭ ‬أو‭ ‬تدفعه‭ ‬هي‭ ‬كشلال‭ ‬أو‭ ‬كنبع‭ ‬منفجر‭.‬ الكتابة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الدم‭ ‬أولًا‭ ‬لوقف‭ ‬شلال‭ ‬الدم،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬عناصر‭ ‬الرواية‭.‬
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.