ماذا يتبقى من مايو 68؟
ولئن استعد أنصار الفريق الأول للاحتفال بخمسينية مايو 68 من خلال معارض فنية وعروض مسرحية وسهرات موسيقية وندوات فكرية، فإن المؤرخين والمفكرين وعلماء الاجتماع لا ينظرون إلى تلك اللحظة الفارقة إلا كما ينظر إلى مرحلة جاوزت الذكرى بمعناها النوستالجي ودخلت طي وقائع التاريخ. ومن ثَمّ دعا بعضهم إلى ضرورة تفكيك سردية مايو 68 التي استأثر بكتابتها المنتصرون كرومان غوبيل ودانيال كوهين بنديت، وإعادة تسييسها لمحو صورة الكرنفال المتعيّ التي ألصقت بها، كما قال كريستيان لافال أستاذ علم الاجتماع بجامعة نانتير في ختام ندوة انعقدت يوم 24 مارس المنقضي، بحضور عدد من الباحثين وحافظي الأرشيف وقدماء هذه الجامعة الذين عاشوا تلك الأحداث منذ شرارتها الأولى. هذا التفكيك نفسه دعا إليه آخرون ولكن عبر تجاوز السردية الرسمية التي تداولتها قلة استأثرت بالحدث وتبعاته، والإنصات إلى أصوات العامة ممن شهدوا تلك الأحداث ولم يسمع شهادتهم أحد، وهو ما قام به جمع من الباحثين تحت إشراف أوليفي فيليول، وصوفي بيرو، وكميل ماسكلي، وإيزابيل لوصوميي في حصيلة ضمها كتاب بعنوان "أن يغير المرء العالم ويغير نفسه"، إلى جانب مسعى مماثل نهضت به مجموعة من الصحافيين الاستقصائيين بتنسيق من كريستيل دورموا راجرامانان، وبوريس غوبي، وإريك نوفو، وصدر في كتاب عنوانه "مايو 68 بألسنة من عاشوه".
والكتابان يشتركان في تفكيك صورة مغلوطة عن أحداث مايو 68، لأنها غالبا ما وصفت بكونها حركة باريسية، طالبية، ويسارية، وغالبا ما جاء ذلك الوصف المحرّف عن طريق نفر من القدامى كان لهم حظ الحضور والكلام في مواقع السلطة، بوجهيها السياسي والإعلامي، ليوهموا الناس بأنهم كانوا يشكلون "جيلا"، كما فعل سيرج جولي، الطالب الماوي الذي أصبح فيما بعد مديرا لجريدة "ليبيراسيون"، حيث صرح عام 1978 قائلا: "كلما تقدم العمر بجيلنا، صار يفرض نفسه، ويشغل مناصب نفوذ، ويؤثث مواقع في السلم التراتبي، ويمسك بالساحة والصحف، ويؤلف الكتب وينشرها ويعلق عليها". وهو خطاب مثير لسخرية أغلب المغمورين الذين تمّ استجوابهم.
أما الفيلسوف وعالم الاجتماع جان بيير لوغوف فقد حذّر من الوقوع فيما يسميه "تثبيت صورة" دون فهم الترجّح الذي حصل في نصف قرن، إما بالحكم على مايو 68 بعبارات تضعه موضع ردة وانحطاط قياسا بالزمن الماضي الجميل افتراضا، أو باعتباره زمنا يرجع إلى ما قبل التاريخ لا يملك ما يقوله لحاضر لا يني يتغير، فقد كان مايو 68 خليطا من المتعية والاحتجاج والمطالب السياسية وحتى النيهيلية. في كتابه "فرنسا الأمس. سردية عالَم مراهق. من الخمسينات إلى مايو 68"، حاول أن يضع تلك الأحداث في إطارها التاريخي، ليذكّر بأن ما سبقها ليس شرا كله. صحيح أن الماضي كان طافحا بتسلط لا يحتمل، ومعاملة قاسية في المؤسسات التعليمية، وقيم أخلاقية موروثة من القرن التاسع عشر ، إضافة إلى تغييب وضع المرأة، واستعمال العنف، وعدم الرفق بالحيوان، ولكنه لم يكن فاقدا للإنسانية، إذ كان ثمة روابط تكافل وتضامن، وإجماع على الحس السليم، وعلاقات اجتماعية حرة، ولكن الوهم الحداثي يلح على اعتبار ذلك الماضي نوعا من زمن ظلامي غابر، واعتبار الحاضر مثل عالم جديد خال من كل العيوب، والحال أن التاريخ يظل ذا حدّين، وأن التطورات ليست كلها مرادفا للتقدم، لأن المسألة رهينة تصورنا للوضع الإنساني والحياة في المجتمع. وفي رأيه أن الملمح الجديد تاريخيا في مايو 68 هو بروز الشباب كقوة سياسية واجتماعية، استطاعت أن تنقل أفكارها إلى اليسار بخاصة ثم إلى المجتمع بعامة، وبهذا المعنى شكل مايو 68 ثورة ثقافية استطاعت أن تحمل إلى السلطة فئات اجتماعية جديدة، وتنقل القضية الاجتماعية إلى المسائل الثقافية والمجتمعية، مقحمة بذلك تصدعات جديدة في الشرائح الشعبية. فولادة "الشعب المراهق"، بعبارة عالم الاجتماع بول يونّي، لا تنفصل عن امتداد الدراسة التي تطيل تلك المرحلة الانتقالية بين الطفولة والكهولة، في ظرف شهدت فيه فرنسا ازدهارا اقتصاديا غير مسبوق جعل ذلك الجيل يتحدث عن "أخلاق السعادة"، وعن ضرورة الحصول على تلك السعادة "الآن وهنا" (وهو أحد شعارات الطلبة المتظاهرين)، وضرورة التمتع بكل شيء حالاّ، ومن ضمن تلك الأشياء الحرية الجنسية بالنسبة إليهم، والحياة الكريمة بالنسبة إلى الشغالين. وكان لالتقاء المطالب الشبابية بمطالب العمال أثر كبير في توسيع دائرة الاحتجاجات، دون أن تبلغ مبلغ الثورة، فقد ظل مايو 68 "ثورة لا وجود لها" بعبارة ريمون آرون، و"ثورة خيال" بعبارة جان بول سارتر.
ويؤكد لوغوف، في ظل التظاهرات العمالية والطلابية التي تشهدها فرنسا حاليا، أن ملامح مايو 68 لا تزال حاضرة، تتبدى بالتوازي مع طوباوية مجتمع شفاف، وتثمين لكل ما يأتي من الأسفل (أي من الطبقات الشعبية)، والارتياب من المؤسسات، وتشبيح السلطة. كما يلح على ضرورة التمييز بين مايو 68 ودلالته الاجتماعية التاريخية كحدث، وبين ما أسماه "الإرث المستحيل". والمشكل في رأيه ليس "مايو"، فلا جدال أن تلك اللحظة التاريخية طرحت مسألة غايات التقدم وعارضت النزعة الأخلاقية والأبوية والسلطة والمؤسسات المتآكلة، وإنما السؤال الذي يلح عليه هو "الإرث المستحيل" التي يتضمن مراجعة راديكالية لرموز السلطة، وجعل الاستقلالية الذاتية أمرا مطلقا؛ ذلك الإرث الذي تناقلته الأجيال ومرّ بثقافة مضادة منتهِكة انتهت بدورها إلى امتثالية اجتماعية جديدة؛ وتلك اليسارية الثقافية المتأتية من مايو 68 التي ستعوض الأزمة التي عاشها اليسار عام 1981، والحال أنه وصل إلى السطلة. فبدل أن يقوم المنتصرون في 1968 و1981 بثورة عنيفة، قاموا بثورة ثقافية سلمية، هنا والآن، في الأذهان والعقليات، عن طريق البيداغوجيا ونضال جمعيات حقوق الإنسان. أما المناوئون فقد جعلوا من مايو 68 أصل البلاء، فانتقلنا من أسطرة المنتصرين إلى منطق تاريخي شديد السواد، دون التمييز بين المكتسبات والانحرافات.
ومن بين من عاش تلك الأحداث وكتب عنها في حينها المفكر وعالم الاجتماع إدغار موران، ووصفها بـكونها " 1789 اجتماعية شبابية". ويعتقد أن من بين ثورات طلابية كثيرة حدثت في تلك المرحلة من تاريخ العالم، هي الوحيدة التي لم تستقطب طلبة المدارس فقط وإنما أيضا جانبا كبيرا من الفنانين والمثقفين والطبقات العاملة. وهي وحدها التي فاضت على الجامعة لتجتاح حقول المجتمع كله وتخلق أزمة سياسية كبرى. وفي رأيه أن مايو 68 كان حدثا معقدا، خليطا من الصدفة والضرورة (في إشارة الظرف الجامعي العالمي لا سيما في جامعة بيركلي الأمريكية) استشرت عدواه بسهولة بسبب النظام الديغولي المتعنت الذي خنق الجدل السياسي. ويذكر مروان تأثير المثقفين الذين كانوا على صلة قريبة بطلابهم، مثلما يذكر حادثة وقعت في السوربون، عندما توصل دانيال كوهين بانديت إلى كسب تحالف الفصائل الماوية والتروتسكية، التي حثت بدورها الطبقات العمالية على الانضمام إلى الحركة. ورغم الحشود التي عمّت البلاد، وتصادم المتظاهرين مع قوات الأمن، منيت الثورة بالفشل في وقت وجيز. والسبب في رأي موران أن الثورة هي الأسطورة القصوى، في تصور الماويين والتروتسكيين، لحركة عفوية شلت النظام الاجتماعي لا محالة، ولكنها لم تكن تريد أو تستطيع أن تحل محله. لقد كانت التطلعات إلى حياة أخرى، حرة وأكثر تضامنا، ذات مضمون ثوري، ولكن كانت تعوزها شروط الثورة، فما فعله المتظاهرون (كإقامة الحواجز واستحضار الثورة الفرنسية) لم يكن سوى مسرحةٍ للثورة والعنف.
بعد نهاية الأحداث، رأى بعضهم أنها انتفاضة ادعى اليمين إفشالها، وادعى اليسار المتطرف أنها لم تكن سوى تدريب عامّ استعدادا للثورة الحقيقية القادمة، والحال كما يقول موران "أننا نخطئ إذا اعتبرناها حلقة ثورية كلاسيكية، فما هي سوى ثغرة تحت خط عَوم النظام الاجتماعي، تسللت عبرها قيم وتطلعات وأفكار جديدة نادت بتغيير حضارتنا تغييرا جذريا."
ويضيف موران قائلا: "مع مايو لا شيء تغير، وكل شيء تغير. النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي عاد إلى طبيعته منذ شهر يونيو، ولكن المسار الذي انطلق سوف يبلبل روح العصر والحساسيات." ويقصد ما ظهر عقب ذلك التاريخ، وأبرزه صعود ما سمّي باليسارية التي كان لها مكانة هامة لدى الشبيبة المثقفة منذ منتصف السبعينات، تلك الشبيبة المتألفة من تروتسكيين ومايويين كانوا غالبا ما يتحمسون لمقولات سارتر وموريس كلافيل، ويترددون على المصانع لتوعية العمال وتحريضهم على المطالبة بحقوقهم كاملة. وخلافا لإيطاليا وألمانيا، لم تنشأ في فرنسا مجموعات إرهابية. ولئن شهدت الماركسية اللينينية انهيارا مفاجئا في فرنسا عام 1977 مع حلقة "عصابة الأربعة" التي شوهت الأسطورة الماوية، وفضيحة نظام هوشي منه في فيتنام الذي كشف عن وجهه الاستبدادي، وبداية رواج رسائل المنشقين السوفييت، فإن فضل مايو 68 يتجلى في الدينامية الاجتماعية العميقة التي تولدت عنه، ونعني بها تفتح المرأة، ظهور ثقافة الاختلاف، حب التجربة فردية كانت أم جماعية، ظهور وعي إيكولوجي، ووضع التقدم العلمي موضع مساءلة.
بعد نصف قرن لا تزال تلك الثغرة مفتوحة، بل إن المشكل الحضاري الذي أثاره مايو 68 ازداد تصلبا، وتجلى ذلك في نبذ حضارة تدعي إمتاع البشر بالعيش السعيد ولكنها لا تستطيع أن تلبي تطلعاتهم العميقة. كما أن الليبرالية الجديدة، التي استفادت من سقوط الشيوعية، ومن العولمة، هي في الواقع أيديولوجية جديدة تخفي تحت حسابها الواقع البشري الحقيقي. ولا سبيل للتصدي لها إلا باستخلاص ما يمكن استخلاصه من مايو 68، دون اللجوء إلى ثورة ماركسية لينينية.