ماذا يريد العرب من حاضرهم؟
ستزيد دهشتنا إلى حدّ الكآبة؛ لأن المطالب والأفكار والشعارات التي رفعت سابقا هي هي ما زالت قائمة وملحة وتتمتع بالراهنية التي انطلقت منها، وستزيد كآبتنا عندما نعرف أن بعض مطالبنا اليوم أكثر تواضعا مما طرح سابقا نظرا للردة الشاملة التي ضربت الحياة العربية على جميع المستويات.
نحن نريد الوحدة القومية ذلك الشعار الخالد الذي رفعه العروبيون منذ مئة سنة ولكن ما حال الوحدة الوطنية في البلدان العربية التي رفعت الشعار؟ أليست الوحدة الوطنية شرطا مسبقا لوحدة قومية سليمة!؟
نريد تحرير فلسطين، أليس الشعار مثاليًا؟ وهذا الشعار بوصفه مطلبًا، ألا يتجاوز العربي بواقعه وإمكانياته، ومن ثم تتحول مطالبه -نظرا للتجريد والمثالية- إلى أمان؟ ألا يتحول لا شعوريا من العقل المعرفي إلى العقل الشعوري، ويتحكم به التفكير الرغائبي ومنهجه؟ ومن سيحرر فلسطين إذا كانت الذات نفسها مستعبدة وتتطلب التحرر كحاجة حيوية ووجودية وكشرط لتحرير غيرها.
باختصار يريد العرب الاستجابة لطموحاتهم بتحقيق النهضة العربية، واستئناف المشروع النهضوي الذي يستلهم عصر النهضة الأوروبية (الإنسانية ومركزية الإنسان وكرامته) وعصر التنوير(العقل والتقدم والحرية)؛ أي المشروع الحضاري العربي الذي طالما تحدثنا فيه.
ولكن هل يوجد تصور توافقي وشمولي يناسب العرب بغض النظر عن التباينات التي أشرنا إليها؟
لو وجد هذا التصور لقطعنا نصف المسافة في تحقيق الذات؛ ولكن بتباين الاتجاهات والتيارات الفكرية والسياسية على صعيد البنى المعرفية والمرجعيات والالتزامات الأيديولوجية سيبقى النهوض العربي مشروعًا قيد التداول وفي عالم الإمكان؛ أي موجودا بالقوة لا أكثر ولا أقل.
هنا تتجاوز الحرية والديمقراطية ذاتها، فهي الغاية والوسيلة للنهوض والتحرر وتحرير الأنساق المعرفية والاجتماعية من هيمنة النسق السياسي المتحكم بها الذي تلاعب ويتلاعب بها، ملغيا شخصيتها ودورها في النهوض والتقدم بحلول وأفكار خلاقة ردًّا على المشاكل والمطالب المطروحة، ولم يعد بإمكان تلك الأنساق الاتساق مع ذاتها والاستقلال، وأصبحت عالة على النسق السياسي الذي يتدخل بكل كبيرة وصغيرة، كما أصبح الحلّ والخروج من المأزق بيد صاحب المفتاح السحري السياسي ونسقه المعرفي! ولكن إذا علمنا أن هذا النسق كان وما زال مأزومًا ويعاني من علل وأزمات بنيوية أقلها أزمات التبعية والشرعية والسيادة، فكيف لهذا العليل أن يداوي ويشفي الآخرين؟!
ولكن من الضروري الانتباه إلى مفارقة ذات علاقة بموضوعنا وحديثنا عن النسق السياسي العليل وهي التباين القائم بين مستويات السيطرة من جهة، والهيمنة من جهة أخرى، وأعني بالسيطرة؛ قدرة الدولة بأدواتها وأجهزتها الأمنية على الضبط والتحكم السافر والمباشر بالشعب. وتحقق الدولة العربية البوليسية ذات الديمقراطية الشكلية والزائفة نجاحات منقطعة النظير، لكنّها لا تحقق النجاح نفسه على صعيد الهيمنة، أي السيطرة على قلوب الناس وعقولهم وإشعارهم بالرضا والولاء لها ولرموزها، والمفارقة الفرعية الناتجة عن المفارقة الكبرى أن تلك النظم بتحالفها مع القوى السلفية والدينية لإكسابها شرعية زائفة تنازلت طوعا عن هيمنتها على المجتمع لصالح تلك القوى التي خطفته باتجاه الماضوية والنكوص والتشدد، واكتشفنا واكتشفت بعد فوات الأوان خطيئتها الكبيرة وخسارتها الفادحة وحجم التواطؤ بين الطرفين، ولم يعد بإمكانها السير قدما في برامجها وسياساتها الليبرالية الجديدة التي تتطلب مستوى من التحرر والانفتاح، ومشاركة المرأة والتعليم العصري دون الاصطدام والمواجهة مع تلك القوى الظلامية، وكثيرا ما استسلمت تلك الأنظمة لمطالب تلك القوى الفاشية الدينية خوفا على شرعيتها وتركت المجتمع لمصيره المجهول.
إن الخطوة الأولى للعبور من هذا النفق والانتقال من ظلام النكوص والتشدد إلى نور العقل والحرية وما تتمظهر به تلك القيم بالمواطنة وحقوق الإنسان والحرية هو كسر هذا التحالف غير المقدس بين الدين والسياسة، بين السلطة والقوى الدينية، والبديل الديمقراطي الصعب خير من التحالف المشبوه والمدمر حتمًا لمكانة الدولة وهيبتها، كما أن مصلحة النظام أيّ نظام تكمن بالتقدم إلى الأمام وليس العودة إلى الوراء، والأهم إدراك قوى التقدم أنها تمتلك الإمكانية والقواسم المشتركة التي تؤهلها لتشكيل جبهة تنوير واسعة المدى للعودة إلى المجتمع وتخليصه من قوى السلفية والتقليد والرجعية.
لكن تلك القوى اليسارية والليبرالية الأصلية -وليست الجديدة التي لا تعرف من الليبرالية إلا الخصخصة وبيع ممتلكات الشعب وإطلاق العنان للاستغلال والسوق بحجة قدرته على تصحيح مساره تلقائيا- بحاجة للتجدّد والتغيّر؛ لتتمكن من الإبداع وخلق شرعيتها وحقها بالتواجد في الفضاء العام، واجتراح الحلول المناسبة للشعب والمنسجمة مع حركة التاريخ، فلا جدوى ولا فائدة من حلول تجاوزها العصر ولا تحاور العالم في تاريخيته الراهنة.
وإذا أردنا أن نخطو خطوة عملية للأمام وباتجاه الواقعية لزم ذلك أن نعيد تعريف العمل المشترك وترتيبه ونتجاوز الأشكال الفوقية التقليدية والمنقولة من تجارب خارجية ذات خصوصية معينة، تلك الأشكال المعنية بالتغيير والتحوّل كمفهوم المثقف العضوي والطليعي والجبهة الوطنية، فمهام التغيير وعمق الأزمة واتساعها يتطلب انخراط شعب وليس مجرد طبقة ذات مصلحة بالتغيير، فكل الطبقات معنية به ويتجاوز قدرة أو مصلحة طليعة ثورية، فلم يعد للتنظيم الحديدي السري الماسوني أيّ أهمية في ظل التقدم وتطور وسائل الاتصال والديمقراطية والوعي الاجتماعي للفرد بفضل التعليم والثقافة والتجربة التي ألغت الوصاية والأبوية والرسولية.
إن ما يحتاجه التغيير والانتقال إلى المجتمع الجديد هو حركة شعب حر واثق من نفسه؛ أي أنه يمتلك الإرادة والمشروع لتغيير الوضع المشين الغارق بالظلامية والطائفية والاستغلال والاستبداد، وفي سياق حركته يمكنه التعلم من تجربته وتصحيح مساره بل وفتح المجال لعدوى القدوة أمام الآخرين، فالديمقراطية والمواطنة ممارسة وعملية وليست نموذجًا جاهزًا يتطلب التطبيق.
ولكن وبعد تجارب عديدة في العالم الثالث لا تترك الإصلاحات التقدمية لأريحية الحاكم ولا لضمانته الشخصية؛ فسرعان ما تمّ الخروج عليها والارتداد عنها والعودة إلى ما سبق، ويرتد المجتمع من المواطنة الشاملة والمساواة الاجتماعية والقانونية إلى العصبيات المحلية والهويات الفرعية، وعادة ما يرافق ذلك تصفية المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية، فالمطلوب تحصين منجزات الشعب بالمواطنة والديمقراطية بالنص القانوني وبدون استثناءات تتيح للانتهازيين والمتربصين الرجعيين النفاذ والتحكم بمفاصل الدولة والسلطة والشعب، فضمانة استمرار دولة المواطنة التي هي نفسها أداة تحققها الذاتي تتطلب التمييز بين الدولة وهيئتها الإدارية؛ السلطة أو الحكومة، أمّا الدولة العربية التي لم تتمظهر حاليا إلا بسلطتها وقمعها فقد ابتلعت السلطة التنفيذية فيها السلطات الأخرى وأصبح النائب في البرلمان (العربي) نائبًا للحكومة وليس للشعب.
ستزيد دهشتنا إلى حدّ الكآبة؛ لأن المطالب والأفكار والشعارات التي رفعت سابقا هي هي ما زالت قائمة وملحة وتتمتع بالراهنية التي انطلقت منها، وستزيد كآبتنا عندما نعرف أن بعض مطالبنا اليوم أكثر تواضعا مما طرح سابقا نظرا للردة الشاملة التي ضربت الحياة العربية على جميع المستويات. نحن نريد الوحدة القومية ذلك الشعار الخالد الذي رفعه العروبيون منذ مئة سنة
لن يكون العرب قادرين على مقاربة علاقاتهم بالعالم الخارجي قبل ترميم بيتهم الداخلي، وفهم أنفسهم فهما صحيحا ويتطلب ذلك إنقاذ جامعة الدول العربية من مصيرها المحتوم إذا استمر العمل العربي المشترك ومؤسسة القمة بهذا الترهل والانحطاط، فهي المعنية بمخاطبة العالم الخارجي باسم العرب دولا وشعوبا، كما تتطلب مقاربة المستقبل سياسيا وفكريا تصفية حساب العربي المعاصر مع التراث ومقاربة علاقته مع ماضيه وحاضره للنظر إلى المستقبل نظرة سوية لا ترهقها أزمات الحاضر ولا أثقال الماضي الذي ما زالت أعباؤه تثقل كاهل العرب، كما لا يزال الحاضر الذي تريّث عصيّا على الاقتلاع بفعل قوى التقليد والسلفية التي نجحت في تتريث الحاضر وجعلته امتدادا للماضي الذي استطاع من هذه النافذة إعادة إنتاج نفسه.
وعلى هذا الأساس عندما يطرح دور الثقافة العربية في عالم اليوم عالم العولمة الثقافية يفهم ضمنيا من السياق العام الثقافة العربية الكلاسيكية ومنجزات الحضارة العربية؛ علما أن المشاركة الفعلية في العولمة الثقافية تعني المشاركة في إنتاج ثقافي عصري مسيطر على تاريخه وتراثه الذي يمثل تاريخه وليس ماهيته، ولكن نظرا لانحسار مساهمة العرب بالعلم والثقافة وتدني نوعية المنتوج العلمي والثقافي العربي أصبحت بضاعتهم في السوق الثقافية العالمية نافلة لا مطلوبة ولا متنافسا عليها، مما ولّد نوعا من البارانويا الثقافية التي ترى في ذلك نوعا من التآمر على العرب بالأحادية الثقافية بعيدا عن الشراكة الحقيقية، ويتحمل النسق السياسي مسؤولية كبيرة عمّا آلت إليه أوضاع الثقافة والفكر؛ فقد أشغل هذا النسق الفكر العربي بموضوعات وإشكالات تعود بشكل أو بآخر لنطاق السياسة والأيديولوجيا أو التراث الماضي الذي هو في التحليل الأخير موقف سياسي جوهره موقف العربي المعاصر من ذاته ومن حاضره الذي فرض هذا الاهتمام وأراد تصفية حسابه مع واقعه القائم بطريقة غير مباشرة لكنها مكشوفة من القوى المعادية والخصوم الثقافيين والطبقيين.
مظهر آخر للأزمة يتمثل بالمفارقة بين الثقافة والسياسة، فالثقافة العربية -على فرض أنها فاعلة عالميا وعربيا؛ أي تحقق الإشباع الروحي للعرب ولديها ما تقوله للعالم ولا تعاني الأزمة- تفتقر لحامل سياسي موحد ومتماسك، فما زالت النزاعات البينية قائمة وتعطل أيّ عمل إيجابي فيه مصلحة للعرب أجمعين، ولنا في انتخابات أمين عام منظمة اليونسكو الأخيرة دليل وبرهان على ما آلت إليه الأمور، وعليه فالإشكال كان ولا زال يتعلق بضرورة توفر حامل سياسي عربي موحد يمتلك مشروعا وإرادة لإقناع العالم بجدارته وحقه بالمشاركة بالثقافة العالمية جنبا إلى جنب ثقافات أخرى عريقة وصاعدة تصالحت مع العصر وتبنت قيم الحداثة والتنوير الأوروبي الغربي التي تجاوزت ذاتها الخصوصية، وأصبحت قيما كونية لا يماري فيها أحد، وتتعلق بالحرية والديمقراطية والعقلانية.
لكن كيف نريد للعالم الاعتراف بنا وبأننا جزء لا يتجزأ منه ونحن نتغنى بالخصوصية والانعزال؟ وتجد الدول المضيفة للاجئين في أوروبا كألمانيا صعوبة بالغة في دمج هؤلاء بوصفهم مواطنين، ويريد بعضهم التمتع بكامل حقوق المواطنة دون تقديم أيّ واجبات أو التوافق مع القيم الكونية، بل حمل بعضهم مظاهر التخلف والتعصب من بلدانهم وقذفها في وجه الغرب، كمنع الاختلاط في المدارس الإسلامية وحرمان النساء من التحرر وارتكاب ما يعرف بجرائم الشرف.
ماذا نريد من الغرب؟
نريد منه التخلّي عن المركزية الغربية لتحقيق المشاركة والمساواة، بل وتحمل قسطه من المشاكل العالمية كل حسب طاقته ومسؤوليته، وأنه بداية الحضارة ونهايتها، ولكن بأيّ ثمن وبأيّ سياق يمكن للغرب الثقافي التخلي عن مركزيته؟
يمكن للغرب التخلي عن مركزيته -بغض النظر عن موقف اليمين والفاشية في الغرب وموقفهم المبدئي من العرب والمسلمين السلبي الذي لا يخضع للمساومة- بحالة واحدة وهي الاعتراف بريادة الغرب وشرف بناء الحداثة والتنوير، وإعفاء الآخرين في دول العالم من إعادة التجربة التاريخية الدامية التي تحملها الغرب والطبقة البرجوازية الصاعدة والطبقات الشعبية الكادحة في استكمال مشروع التنوير وحمايته، وهذا لا ينفي أو يغفل انحطاط الشرق وتدمير بناه المجتمعية ثمنا للصعود الغربي، لكن في المقابل فقد دفعت الطبقات الشعبية في دول الغرب الثمن نفسه وأكثر بغض النظر عن تبرجز الطبقة الكادحة في مرحلة لاحقة.
لقد أردنا للغرب الاعتراف بنا، وسمح الغرب لنا بذلك؛ بل سمحنا لأنفسنا وسوغنا الاستغراب وندّدنا بالاستشراق ووضعناه كله في سلة واحدة بغض النظر عن التمايزات، واعتبرناه نشاطًا مغرضًا متحيزًا ضد العرب والمسلمين لمخالفته المثالية والخرافة والتفسير الرغائبي القديم والجديد، وأنكرنا علية الانخراط بقضايا الفكر والثقافة والدين على اعتبار أن أهل مكة أدرى بشعابها، أما نحن فقد روّجنا لانتصاراتنا بنجاحات الأجانب من أصول عربية وإسلامية، رغم اعتزازهم بهويتهم الجديدة، وألمهم الممضّ من الإجحاف والتنكر لمنجزاتهم وحضورهم الثقافي والفكري والعلمي، فلا يوجد مجال أو فضاء يتسع للمثقف أو المبدع أو العالِم العربي إلى جانب السياسي المستبد الذي يشغل الفضاء العام ويحتكر كل شيء فيه.
ماذا نريد من الغرب؟
أن يتخلى عن وصمنا ووصم ثقافتنا بالتأخر والتخلف، وأن يتوقف عن استحضار قاموس الاستشراق السياسي الأوروبي القديم (الحديث) والأنثروبولوجيا وليدة الاستعمار بجوهرتنا وجوهرة ثقافتنا بنقيضه كونها شرقية أو سامية أو عربية أو إسلامية؛ أي ثقافة تنطوي على الثبات واللاتاريخية على عكس ما تتصف به ثقافته من مركزية وديناميكية وجدلية وتاريخية، أما في الاستشراق المعاصر (خبراء المناطق الأميركان)، فقد صنفت الثقافة العربية بأنها ثقافة راكدة لا تاريخية وتقليدية مقابل ثقافة الغرب الحداثية، وأخطر ما في هذه السردية أن الثقافة التقليدية بحكم ركودها لا تمتلك الديناميات الداخلية التي تدفعها للتغير مما يتطلب التدخل الخارجي لتفجير صراعاتها الداخلية ودفعها للتغير أي تسويغ الاستعمار والامبريالية والاحتلال ولنا في التدخل الأميركي في العراق خير دليل بحجة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط!
ولكن ألم نمارس الآليات والحيل الفكرية نفسها بتجاوز تاريخية الغرب وجوهرته بما تجاوزه العصر؟ مرة بالغرب المطلق ومرة بالمسيحية وأخرى بالصليبية ومرة بالاستعمار. ألا نحتاج لعمل مشترك لنسف الصور النمطية المتبادلة لتحقيق اعتراف متبادل لمصلحة الطرفين وتجاوز الصيغ الماكرة والمحتالة للحوار والتعاون القائمة حاليا، والانخراط بعمل حقيقي بناء وشراكة بعيدة المدى وعميقة قائمة على وحدة المثل الإنسانية أولا والمصالح المتبادلة ثانيا؟