ما بعد القوة الأخلاقية
ليس لأحد مهما اشتط بمعاداة العرب أن ينفي واقعة اسمها «العرب»، إذ يكفي أن يشعر كائن ما بأنه ينتمي إلى إثنية ما، حتى تكون الإثنية هذه ذات وجود ما وحتى لو كان وجود في الوعي فقط، لكنه وجود.
العرب واقعة إثنية تاريخية ثقافية، أي أنها واقعة موضوعية فالعروق وهي ظاهرة موجودة ما قبل وجود الأمة غير قابلة للنكران، وليس الإتنوس أو الرس بعد في حالة الخام أمة أو قومية.
فالعربي يطلق على الجزء الأكبر من السكان العائشين في منطقة تمتد من المحيط إلى الخليج وتتكلم اللغة العربية وبحدود جغرافية واضحة باسم العرب.
وهناك أقوام داخل هذه المنطقة تميز نفسها عن العرب بإثنية مختلفة، كالأمازيغ والكرد والأرمن والشركس، وهي إذ تميز نفسها عن العرب تحدد العرب عن طريق نفي انتسابها للعرب.
وفي لحظة ما من التاريخ العباسي عبرت الشعوبية عن تحديد الأقوام عبر السلب، فجرى الحديث عن الفرس والعرب وهما أهم أقوام وإثنيات الدولة العباسية الإسلامية.
وسأفترض أيضاً أن سلب فئة من المثقفين عن أنفسهم صفة العرب وحديثهم عن انتماء إثني يعود إلى ما قبل الفتح الإسلامي كالانتماء الفينيقي أو الآرامي أو الفرعوني كافٍ لتأكيد وجود العرب إثنية موضوعية بدليل أن هذا البعض من المثقفين عبر تأكيده الانتماء إلى إثنية غير عربية يؤكد وجود إثنية عربية مختلفة عن الإثنيات التي يفترض الانتماء لها.
وليس لأحد أن ينكر أن الشاعرين بانتمائهم إلى العرب هم أكثرية. كما ليس لأحد أن يدحض واقعة وجود لغة فصيحة تحمل صفة العرب-اللغة العربية. واللهجات هي الأخرى لهجات عربية.
نجن الآن لم نفعل سوى أننا أكدنا وجود العرب الموضوعي، بوصفهم قوماً ذوي لغة.
وسائل يسأل ما الذي يحملك على تأكيد ما لا يحتاج إلى دليل؟ هناك سببان: السبب الأول تأسيس ما سأذهب إليه، والسبب الثاني أن هناك نافين حتى لواقعة العربي بوصفه إثنية كبيرة وتسكن مساحاتٍ واسعة من آسيا وإفريقيا.
الآن وقد دللنا على ما لا يحتاج إلى دليل صار من السهل علينا أن ننتقل إلى العروبة، هذا المصطلح الفكرة المشتق من العرب.
غير أني أسارع إلى القول بأن اشتقاق العروبة من العرب لا يفضي إلى القول إن العرب والعروبة أمر واحد.
الفرق بين العرب والعروبة فرق بين وجود يعينه الإتنوس واللغة دون أن يقود ذلك إلى وعي بهوية انتماء أساسية، وهو العرب وبين وجود اشتقق من الوجود الأول ليطرح ما يجب أن يكون خالقا لهوية انتماء كلية موعيّ بها.
ولأن الأمر على هذا النحو فالعرب واقعة بشرية قديمة فيما العروبة وعي جديد. وهذا هو الذي يفسر جدة الكلمة بوصفها مصدراً.
تنتمي العروبة إلى مرحلة وعي نخبة عربية مثقفة بأن للعرب حقاً مسلوباً في دولة متعددة الأقوام. وزيادة في الدقة فإن الوعي القومي العربي وإن لم يتخذ من مصطلح العروبة تعبيراً له إلا أن هذا الوعي ينتمي إلى نهاية القرن التاسع عشر، وبخاصة بعد انقلاب الاتحاد والترقي على السلطان العثماني عبدالحميد، حتى ليمكن القول إن القومية التركية المتعصبة والشوفينية أسهمت إسهاماً كبيراً في نشأة الوعي القومي العربي الذي عبر عنه فيما بعد مصطلح العروبة.
أجل لقد جاء وعي النخبة العربية -الشامية بشكل خاص- في مرحلة انحطاط الدولة العثمانية ومحاولة إصلاحها.
إن الرابطة العثمانية وقد بدأت تضعف ويضعف أساسها الإسلامي، وظهور النزعة الطورانية وخطابها العنصري، وحضور أوروبا اقتصادياً وثقافياً، وتكوّن المثقف العربي في علاقة مع هذا كله هو الذي أنتج الشعور بالانتماء القومي لقوم كانوا لمرحلة طويلة جزءًا من إمبراطورية متعددة الأقوام إسلامية وحاصلة على هوية عثمانية.
لقد انتشرت النزعة القومية لدى كل الأقوام التي تشكلت منها الإمبراطورية العثمانية في وقت واحد. وليس صحيحاً أبداً أن النزعة القومية العربية هي نزعة مثقفين مسيحيين فقط أسهموا في ما بعد بنشرها في أوساط المثقفين المسيحيين.
وإذا كانت النزعة القومية العربية نزعة مسيحيين فكيف نفسر النزعة القومية التركية وأصحابها من المسلمين؟
لقد ضمت الجمعيات العربية مثقفي الشرق من كل الأديان والطوائف وإذا اعتبرنا مؤتمر باريس عام 1913 محطة مهمة جداً في تكثيف أهداف الحركة القومية العربية ومنحها الملامح والأسس لها آنذاك، فإن هذا المؤتمر قد ضم عدداً من مسلمي الشام مساوياً لمسيحييها. لقد جاء الخطاب القومي العربي الذي كثفته خطب المؤتمرين وقرارات المؤتمر معبراً عن مضمون وعي النخبة بمصالح العرب بوصفهم أمة ولأول مرة في التاريخ ولكنها أمة في إطار الدولة العثمانية، حيث لم تكن هناك دعوة للانفصال في هذه المرحلة عن الإمبراطورية، وحسبنا أن نورد قرارات المؤتمر العربي الأول لندرك أن مستوى الوعي القومي آنذاك لم يتجاوز حدود مطالب خاصة بالعرب داخل الدولة العثمانية.
• إن الإصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة.
•المهم أن يكون مضموناً للعرب التمتع بحقوقهم السياسية، وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكاً فعلياً.
•يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة لا مركزية تنظر في حاجاتها وعاداتها.
انتشرت النزعة القومية لدى كل الأقوام التي تشكلت منها الإمبراطورية العثمانية في وقت واحد. وليس صحيحاً أبداً أن النزعة القومية العربية هي نزعة مثقفين مسيحيين فقط
•مطالبة المؤتمر بتنفيذ وتطبيق مطالب ولاية بيروت بتوسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب.
•اللغة العربية يجب أن تكون معتبرة في مجلس النواب العثماني، ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية.
•تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف والأحيان التي تدعو للاستثناء الأقصى.
•يتمنى المؤتمر من الحكومة السنية العثمانية أن تكفل لمتصرفية لبنان وسائل ماليتها.
• يصادق المؤتمر ويظهر ميله لمطالب الأرمن العثمانيين القائمة على اللامركزية.
• سيجري تبليغ هذه القرارات للحكومة العثمانية السنية.
• وتبلغ أيضاً هذه القرارات للحكومات المتحابة مع الدولة العثمانية.
• يشكر المؤتمر الحكومة الفرنسوية فشكراً جزيلاً لترحابها الكريم بضيوفها.
هذه اللحظة من تاريخ الوعي القومي لحظة غموض الهوية وتعددها، فالعربي عثماني وإسلامي وعربي.
الأمة العثمانية رابطة دولة والأمة الإسلامية رابطة دينية والأمة العربية هي العرب رابطة جنسية، حيث الأولى رابطة أقوام متعددة شأنها شأن الرابطة الإسلامية فيما الرابطة العربية-الجنسية خاصة بقوم.
عبر وعي الأمة العربية رابطة جنسية سيوضع أساس العروبة كما سنرى لاحقاً. حتى أن الحدود الجغرافية لسكنى العرب لم يكن لدى أغلب المفكرين القوميين أكثر من حدود بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية.
الزهراوي وحده الذي رأى حدود الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، فصاحب كتاب «ثورة العرب الكبرى” أسعد داغر حدد حدود العرب في كتابه «البلاد العربية” ببلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية التي تضم الحجاز واليمن وعسير ونجد وحضرموت وعمان وقطر والبحرين والكويت وبادية الشام.
وهناك من يعتقد أن الكواكبي مؤسس للفكرة القومية قبل مثقفي باريس، بل هناك من يرى فيه مؤسساً لفكرة العروبة.
والحق أن وعي الكواكبي أقرب إلى الوعي الشعوبي العباسي منه إلى الوعي القومي، بل إن مفهوم الأمة لديه ظل غامضاً، فمرة يشير إلى معنى الجماعة، ومرة إلى معنى الرابطة الإسلامية. ولهذا فإن الفكرة التي طرحها الكواكبي هي «الإسلامية”، ففي الإسلامية لا يشكل العرب لديه أمة واحدة، ولم يصدر عنه ما يشير إلى ضرورة قيام دولة عربية موحدة. بل إن قيمة العرب لا تعدو أهميتهم الإسلامية وأرستقراطية الدولة المسلمة بوصفهم مسلمين أصلاء ولغتهم لغة القرآن.
بل إن الجزء الذي يحول عليه الكواكبي –ويقصد- الجزء من العرب الذي لم ينسب، أي عرب الجزيرة لم يكونوا إلا الأكثر تخلفاً آنذاك.
وإن يقترح الكواكبي أن يكون الخليفة عربياً ومن قريش فهذا بعد ليس وعياً قومياً أبداً إنه ببساطة شخص يكره الترك ويحب العرب، الذين يجب أن يكونوا سادة الدولة الإسلامية التي دعا إليها في” أمّ القرى”.
ينتهي عصر النهضة العربية بأمّ الكوارث في كل تاريخ الكوارث العربية، فكارثة هزيمة الدولة الطورانية -ذات الإهاب العثماني الشكلي- واقتسام تركة الرجل المريض، كارثة وقوع المنطقة كلها -واستثناءات بسيطة- تحت نير الاستعمار الغربي ورسم حدود تجزئة سياسية لمنطقة لم تعرف منذ ما قبل التاريخ الإسلامي، حدود التجزئة هي الكارثة التي أودت بإمكانية كانت متوافرة لقيام دولة أمة عربية.
في مرحلة ما بين الحربين يستعيد الفكر العربي مرة أخرى أطاريح النهضة العربية في شرط تاريخي مختلف. زوال الدولة العثمانية ذات الرابطة الإسلامية، وخضوع المنطقة مجزأة للاستعمار الغربي، وبدء تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين برعاية بريطانية وغربية كاملة.
في الصراع ضد الاستعمار يتعمق الشعور القومي العام، وفي الصراع مع الصهيونية يبرز الخطر على آمال العرب في الدولة الأمة، وبعد ربع قرن من مؤتمر باريس يعقد مؤتمر بلودان عام 1937 تحضره نخبة بلاد الشام والعراق، ويبرز في هذا المؤتمر مصطلح الأمة العربية دون لبس، ودون تشويش من أيّ هوية أخرى.
وكانت أغراض المؤتمر هي إنقاذ فلسطين من الصهيونية، وتحرير الأقطار العربية الخاضعة للاستعمار، وتوحيد الأقطار العربية، وهنا يظهر المؤتمر فكرة القومية العربية بجلاء.
أخذت العروبة لأول مرة معانيها آنذاك، هناك أمة عربية تنزع نحو وحدتها القومية، أي قيام دولة عربية ديمقراطية والوقوف ضد أي نوع من أنواع السيطرة والاحتلال الخارجيين، فالرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة التي تجمع العرب بمعزل عن انتمائهم الديني.
ومن المفيد هنا أن نشير إلى أنه قبل انعقاد المؤتمر بلودان عام 1937 عقد مؤتمر في القدس عام 1931 والذي ضم النخبة العربية آنذاك وأعضاء الجمعية العربية الفتاة وحزب العهد، واتفقوا على ميثاق قومي عربي أهم بنوده هي أن البلاد العربية وحدة تامة لا تتجزأ، وكل ما يطرأ عليها من أنواع التجزئة لا تقره الأمة ولا تعترف به، وتوجه جميع الجهود في كل قطر من الأقطار العربية إلى جهة واحدة هي استقلالها التام موحدة، ومقاومة كل فكرة تقتصر على العمل للسياسات المحلية والإقليمية. والأمة العربية ترفض وتقاوم بكل قواها الاستعمار لأنه يتنافى بكل أشكاله وصيغه كل التنافي مع كرامة الأمة العربية وغالبيتها العظمى.
أخذت صيغة الأحزاب السياسية من جهة وأصبحت منطلقاً أساسياً لمفكرين يعلنون انتماءهم للعروبة دفاعاً عن العرب، وشيئاً فشيئاً أخذت طابعاً شبه مقدس
المفكر القومي صار عروبياً وأكثر وضوحاً في هذه المرحلة بل إن خطابه معاصرٌ لنا بامتياز، وإن من يقرأ ما قاله نبيه العظمة في مؤتمر بلودان عام 1937 يظن أن القائل يعيش بين ظهرانينا الآن. فلنستمع إليه قائلاً «فقد اتسعت الآفاق التي يعيش فيها العرب، وأصبح السواد الأعظم منهم يشعر أن له فوق وطنه القطري الصغير، وطناً عربياً شاملاً تجمع بين أبنائه روابط اللغة الواحدة والجهاد والتاريخ والثقافة والآلام والآمال والمصالح المادية والمعنوية المشتركة، لتكون منهم جميعاً أمة تامة تطمح أن تعيش في ظل دولة متحدة تحفظ كيانها وتؤمّن مصالحها وتحقق لها ما تطلبه من أمن ورفاه وطمأنينة».
والحق أن العروبة آنذاك لم تكن أكثر من هذا أبداً.. وغدت مصطلحاً متداولاً بهذا المعنى. وصار من المألوف قراءة عناوين مقالات تبدأ بالعروبة، ففي عام 1928 يكتب الريحاني روح العروبة، ويدافع شكيب أرسلان عن العروبة بوصفها قديمة قدم تاريخ العرب، ناهيك عن ساطع الحصري والمازني ورئيف فوزي وعفلق.
أما بعد الحرب العالمية الثانية فإن العروبة صارت الفكرة الدالة على حركات قومية أخذت صيغة الأحزاب السياسية من جهة وأصبحت منطلقاً أساسياً لمفكرين يعلنون انتماءهم للعروبة دفاعاً عن العرب، وشيئاً فشيئاً أخذت طابعاً شبه مقدس يمكن ببساطة للعروبي أن يقسم بها دليلاً على صدقه.
لقد انتشرت حركة البعث التي صارت حزب البعث العربي الاشتراكي في كل أنحاء الوطن العربي وكان لانتشاره الفضل في انتشار فكرة العروبة، وقس على ذلك انتشار حركة القوميين العرب في بلاد الشام والعراق وبعض دول الخليج واليمن. وانتصار عبدالناصر لفكرة العروبة أعطى العروبة حقلاً أوسع في بنيتها حيث صار هو بطلها. ولقد صارت العروبة فكرة أقرب إلى البداهة من جهة وأداة تقويم للعرب من جهة أخرى من حيث قربهم أو بعدهم من فكرة العروبة حتى أنك لن تجد إلا نادراً جداً من يستطيع أن يعلن أنه ضد العروبة. حتى أشد السُلط المعادية للعروبة كانت تعلن أنها تنطلق من العروبة ومصالح العرب وأهداف العرب.
على المستوى المضموني لم يكن هناك إثراء ملحوظ لفكرة العروبة لكنها صارت عقيدة بالمعنى الأيديولوجي للكلمة. ويعلن نبيه أمين (مارس عام 1947) «عقيدتي العروبة بأوسع معانيها»، « لماذا؟ العروبة أساس صالح للتقدم البشري قادرة على خلق جزء من حضارة العالم»، «دفعت العروبة في القرون الوسطى نبراس العلم»، «عقيدتنا العروبة، وحدة صالحة حية فعالة».
وهذا ما هو موجود في عقيدة البعث فالعروبة رسالة حضارية، والعروبة وحدة عربية والعروبة إنسانية.. إلخ.
يقول ميشيل عفلق «إن فهمنا للعروبة يختلف كثيراً عن المفاهيم التقليدية.. ليس في تعريفنا للعروبة أيّ جمود أو تحجر، واعتزاز بالنسب والأصل، مفهومنا بعيد عن مفهوم القومية النازية.. العروبة هي إنسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة».
والملاحظ في الخطاب القومي العربي أن فكرة العروبة وفكرة القومية العربية مترادفتان إلى حد كبير. والقارئ لـ”في سبيل البعث” يجد هذا واضحاً، وحسبك الاطلاع على «قوميتنا المتحررة أمام التفرقة الدينية والعنصرية»، في هذا الكتاب لتدرك صحة قولنا.
العروبة بوصفها أيديولوجيا حركة سياسية أصبحت وعياً شائعاً وبخاصة بعد وحدة 1958، هدد الناصريون والبعث والقوميون العرب أنظمة عربية كثيرة، وعلى الرغم من الانفصال الذي حدث عام 1961، غير أن العروبة تحولت إلى أيديولوجيا رسمية وشبه رسمية لدول كثيرة منها العراق وسوريا ومصر والجزائر وليبيا واليمن.. ولأغلبية ساحقة بفضل الناصرية.
ولما كانت الممارسة هي معيار التقويم، فالممارسة تحملنا على تأكيد أو نفي ما نعتقد به، فإن أخطر ما واجه فكرة العروبة ليس أعداء العروبة، بل ممارسة العروبيين أنفسهم.
فالتجربة المؤلمة بين البعث وعبدالناصر بعد الفشل في إنجاز الوحدة الثلاثية، مصر-العراق-سوريا، والصراعات على السلطة جعلت صورة العروبة أقل ضياءً، فيما الخلافات العراقية-السورية جعلت من صورة العروبة كالحة. لقد صارت ممارسة العروبيين حجة لدى مناهضي العروبة سلطاً وأفراداً.
لقد أنذر حزيران 67 بعالم مختلف في المدى البعيد. صحيح أن الهزيمة لم تلغ قوة فكرة العروبة بمؤتمر الخرطوم لكنها بدت وكأنها هزيمة للعروبة. وبعد تشرين 73 برزت أهمية التضامن العربي، وراحت المنطقة تبرز انتصار أهداف حرب حزيران. وكان لموت عبدالناصر الأثر الكبير في ظهور حالة الإحباط من العروبة، لا سيما أن جوهر السياسية الساداتية كانت تقوم على إحداث قطيعة مع الناصرية وما تعنيه بالنسبة إلى العروبة. وقد حدثت القطيعة كما شاء.
لا أريد أن اذكر لكم التاريخ المعروف وحسبي أن أقول لكم إن عوامل كثيرة أسهمت في ركود العروبة بوصفها وعياً بالمصير:
• التسوية مع العدو.
• الدخول الأميركي بقوة في تحديد معالم المنطقة.
• غياب السوق المشتركة.
• استقرار نظام سلطوي قمعي بامتياز لم يشهد له تاريخ العرب مثيلاً وهو ذو أهداف سلطوية ضيقة فقط.
• انتشار التيار الأصولي أيديولوجيا كخلاص.
• زوال القوة الأخلاقية لفكرة العروبة التي كانت تلجم أنظمة سياسية وأفراداً من أن يظهروا عداءهم للمصير المشترك، وأنانيتهم العاجزة، إذ أن فكرة العروبة وقد سبتت ولم تعد قوى سياسية جماهيرية فاعلة تتحرك من وحيها، فقدت قوتها الأخلاقية، وأبرزت فقدان الحياء المطلق لدى السُلط العربية.
وهكذا تواجه العروبة نفياً متعدد الأوجه:
• نفي أيديولوجي من المتصالحين مع العدوّ باسم الواقعية والعقلانية، متحالف مع نفي ليبرالي جديد باسم العولمة.
• نفي أيديولوجي سلطوي يبحث عن تاريخ ما قبل الإسلام لتأكيد تاريخية المنطقة التي يحكمها واستقلالها القديم باسم الأمر الواقع، الأمن الخاص والمعبر عنها أولاً.
• نفي أيديولوجي أصولي إسلامي وباسم فشل العروبة بوصفها وعياً غربياً مستورداً وباسم العودة إلى الأصل.
• نفي أيديولوجي وعملي غربي يشكل استمراراً للنفي الذي بدأ في القرن التاسع عشر ولن ينتهي أبداً.
لوحة: نهاد الترك
وهذا يعني أن تعدد أشكال النفي لفكرة العروبة لتدل على خطورة هذه الفكرة من أن تستيقظ مرة أخرى في إهاب جديد.
من وحي ذلك يطرح السؤال لماذا العروبة الآن! العروبة الآن وفي كل آن وعي بالمصير الواحد بل إن التقدم التاريخي الذي لا ينفصل عن الدولة-الأمة مستحيل دون العروبة. ففي شرط التكتلات العالمية الكبرى العروبة أساس لظهور اتحاد منطقة واسعة من هذا العالم.
أجل ها نحن الآن في حال ركود تاريخي، وما زالت العروبة هي الدرئية الأولى لرمي رصاص الخارج والسُلط والمثقفين التائبين، حتى أن شخصاً كان قومياً نسيت اسمه قد كتب كتاباً سماه «وداع العروبة”، وقد كتب مرة عنه في زاوية الكتاب الرديء للناقد ولكني أعتقد أن ما كتبه لم ينشر.
لا نريد هنا أن نبعث فكرة العروبة بشحمها ولحمها، لكني مازلت معتقداً أن حضورها في الوعي أمر في غاية الأهمية. وأن مستقبل العرب حيث يكون فيه الإنسان حرا قويا غير ممكن إلا في إطار شكل ما من أشكال الدولة-الأمة الديمقراطية، ولا يمكننا أن نطرح هذا الأمر بمعزل عن فكرة العروبة.
ها أنا أطرح الآن العروبة كما أراها وكما أريدها أن تكون:
أولاً: العروبة تحتاج إلى اسم جغرافي تنتسب إليه لا إلى اسم إتنوس، بحيث تصبح وعياً بالهوية لدى سكان منطقة جغرافية ذات اسم منتمين إلى طوائف ومذاهب وأديان وإثنيات. وببساطة فالسؤال هو التالي: كيف لي أن أجعل من السني والشيعي والكردي والأمازيغي واللبناني والسوري والشمري والقببي.. إلخ قادرين على القول إنهم عروبيون، وإن الكردي يستطيع القول لك بكل بساطة واطمئنان إنه سوري أو عراقي، لكنه من المستحيل أن يقول لك أنا عربي، وإن قال ذلك سيكون محمولاً على هذا القول.
إن الاسم الجغرافي يعني المساواة حتى ولو كانت على مستوى الوعي بالانتماء.
ساكن أميركا العربي والصيني والأفريقي والأسكتلندي والأسباني.. والمسلم والمسيحي والبوذي واليهود يقول لك أنا أميركي، لقد انتسب إلى الجغرافيا. وقس على ذلك الفرنسي والانكليزي -وقائل يقول هذه الآن دول- أجل لكنها دول ذات اسم جغرافي ينتسب إليه المرء. ولا شك أن الاسم الجغرافي وحده لا يكفي فلا بد من مقومات أخرى كاللغة والدولة، فإذا سألت الروسي أو البلغاري أو الصربي من أنت سيقول لك كل واحد أنا روسي، بلغاري صربي.. لن يقول لك أحدٌ منهم إنه سلافي، مع أنهم جميعاً سلافيون.
ولو كان لهذه المساحة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج اسم واحد وحيد لكان الانتماء إلى هذا المكان الجغرافي أمراً طبيعياً ولن يثير أيّ حساسيات إثنية.
ومشكلة سكان المنطقة أن لديهم جنسيتين: جنسية مكتوبة في بطاقة الهوية وجنسية مكتوبة في وعيهم. وقد تكون الجنسية المكتوبة في وعيهم أقوى من الجنسية المكتوبة في بطاقة هويتهم وهي عند البعض أقوى فعلاً.
ونقول عندما نريد أن نعرف بهذه المنطقة الممتدة المشار إليها سابقاً الوطن العربي، العالم العربي، المنطقة العربية، الدول العربية، الشعوب العربية، الأمة العربية، الشعب العربي، الصفة للإتنوس وليست للجغرافيا.
فلو ألفينا كلمات مثل وطن ومنطقة وشعوب ودول وأيضاً على «العربية» اسما لهذه المنطقة الجغرافية التي تضم مئات الملايين من السكان وجرى التواضع على هذه التسمية ولغة تواضع أصلاً لأصبح الاسم الجغرافي قادراً على منح صفته لساكنيه بمعزل عن هوية أخرى إذ تغدو الصفة هنا هوية الجميع. ومن العربية تقول عروبي ويصبح العروبي ساكن العربية. وقائل يقول ولكنك أطلقت الاسم –العربية- مشتقاً من العرب فأبقيت على الإثنوس مصدراً للاسم الجغرافي. هذا صحيح ولكني أطلقت الصفة على أرض جغرافية كي أمنحها اسماً وجسداً قابل للتداول ويمكن أن يكون أيّ اسم آخر، غير أن العربية صفة الأكثرية التي تسمح إذا ما صارت اسماً جغرافياً، للسكان أن ينتموا إلى هوية مشتركة هي العروبة.
ولماذا تأخذون علينا ذلك وهناك الآن جنسيات بأسماء ومناطق لم يكن لجغرافيتها الكاملة، اسم دال عليها.
دول المغرب العربي أخذت أسماء المدن: مراكش-المغرب، الجزائر، تونس، هناك دول أخذت اسم نهر الأردن هناك دول أخذت اسم جبل لبنان، دول أخذت اسم عائلة بل فرعا من قبيلة السعودية. ودول أخذت اسم الإمارة الإمارات. فأيهما أقرب إلى المعقولية، أن تسمّى المنطقة العربية أما تسميها المغرب والسعودية والإمارات والأردن ولبنان.. إلخ.
إذا أطلقنا الاسم جغرافياً -العربية وصار الانتماء إلى العربية عروبي وليس عربي- تحولت كلمة عروبي إلى جنسية منتسبة إلى جغرافيا وليس إلى عرق، طبعاً من الوهم الاعتقاد أن مجرد منح الاسم للجغرافيا يحلّ مشكلة الهوية والانتماء، وإنما نريد أن نخلق وعياً بالانتماء يسند الوعي السياسي بالكفاح من أجل الدولة-الأمة بمعزل عن شكلها وصورتها بل وبجوهرها.
ثانياً: إن تحرير العروبة من أيّ حمولات أيديولوجية هو الذي يحولها إلى هوية تخلق وعياً بالمستقبل، وتحدد السلوك الضروري للمستقبل.
إن العروبة وعياً هوياتياً لا تحدد أشكال الوعي الأيديولوجي بل تؤسس له بوصفها وعياً ثابتاً بالانتماء إذّاك العروبة ليست اشتراكية أو ليبرالية أو قومية أو دينية أو أيّ نوع من أنواع الأيديولوجيا وعندها كل وعي أيديولوجي مؤسس على هذا الوعي الهوياتي يتحول إلى وعي عروبي، وعندها أيضاً يتحول الاشتراكي وهو يفكر بالمستقبل عروبياً والإسلامي عروبياً والليبرالي عروبياً والقومي عروبياً.
ولعمري أن تحرير العروبة من إهابها الأيديولوجي وعياً بهوية تجري عليها سنن التطور والتاريخ والواقع يحررها من أيّ شبهة عرقية أو دينية. وعندما تنطلق الأيديولوجيا أيّ أيديولوجيا من هذا الوعي الهوياتي فإنها لا تقع في تناقض مع العروبة، بل إن الأيديولوجيات تقع في تناقض مع بعضها البعض في تحديد المصير الاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي.. إلخ.
إن وعياً كهذا بالعروبة وبالأيديولوجيا، وتحرير العروبة من الأيديولوجيا يخلق ساحة جديدة للتناقض في العربية، يخلق تناقضاً حقيقياً بين عروبة هي من قبيل الواقع المادي-الموضعي التاريخي، وبين أشكال الهويات المعبر عنها أيديولوجياً أو التي تخلقها الأيديولوجيات والمدافعة عن الواقع الراهن أو عن الماضي السحيق. بل إن انتصار العروبة هوية-موضوعية للمنطقة، تحرر الهويات الأضيق من لبوسها الأيديولوجي لنجعل منها هويات تاريخية ذات طابع محلي يثري جمال التنوع، ويقضي على تعصبها ونزعتها العتيقة النافية، كما أنه من شأن هذه الهوية أن تكشف زيف السلط التي تحاول اختراع هويات على هواها يثري وعيها الانعزالي وانحطاطها الأخلاقي وقلة حيائها الوطني.
ثالث: يجب ألاّ تخلط العروبة بوصفها هوية جميع سكان العربية بأيّ هوية دينية أخرى. ومن الطريف أن الجميع يتحدث عن الترابط بين العروبة والإسلام. وعندي أنه يجب عدم الخلط بين العروبة والإسلام إطلاقاً، بل يجب فض الترابط بينهما في الوعي. ذلك أنه لا يجوز الخلط بين الدنيوي والديني. فالعروبة هوية ليست دينية لسكان العربية، والإسلام دين عالمي تدين به أقوام وشعوب وأمم كثيرة.
فالعروبة ليست إسلامية أو مسيحية، ليست سنية أو شيعية أو وهابية، إنها هوية أرضية لسكان العربية لا علاقة لها بالسماء. بل إن التيارات السياسية الإسلامية بكل أشكالها تقف موقفاً مناهضاً للعروبة. وإذا كنا قد حررنا العروبة من أيّ حمولات أيديولوجية فيجب أن نحررها من أيّ حمولات دينية.
إن هذا التحرير يسمح لنا بتأكيد ما كنا قد قلناه سابقاً في انتصار العروبة هوية كلية تغدو كل أيديولوجيا هي عروبية إذا كان هاجسها «العربية».
رابعاً: إن تأسيس فكرة العروبة على هذا النحو يعيدنا إلى مفهوم الوطني بوصفه المتحد مع العروبي، إذ يغدو كل كفاح عروبي هو كفاح وطني، فالعروبة هوية وطنية للعربية تلغي التناقض والاختلاف بين الوطني والقومي، بل وتلغي القومي من التداول. إذ تغدو العروبة هوية وطن وعندها كل عروبي هو وطني وكل وطني هو عروبي. أليست كلمة وطني هنا حكم قيمة بل هي نسبة إلى الوطن، انتساب إلى الوطن، الوطن بالضرورة هو العربية، وهويته إذن هي العروبة. إن انتصار وحدة الوطن والعروبة، والوطني والعروبي يلغي من سوق الأكاذيب الوعي الأيديولوجي الانعزالي الطائفي المناطقي السلطوي الديني باسم الوطنية والوطن المتناقضة على الحقوقية والأمة.
وعندها أيضاً عبر مفهوم العروبة هذا تتحد الأمة والوطن. لأننا إذّاك نتحدث عن الوطن العروبي وعن العربية بوصفها وطناً. وهذا بدوره يحرّرنا من شوائب كلمة قومي المشتقة من القوم، وهذا يعيدنا إلى العربية وطناً والوطن يعيدنا إلى المواطنة وهذا بدوره يعيدنا إلى فكرة الحرية.
وبعد، فلا شك أن درجة من الطوباوية الآن في خطابنا، وهو من زاوية رؤية الواقعيين جداً والعقلانيين جداً والخائفين جداً على الواقع تفكير طوباوي بالمطلق ولكن اعلموا أن ما هو طوباوي الآن قد يغدو واقعاً بالمستقبل. بل إن كل مستقبل عظيم لم يكن إلا وعياً طوباوياً في البداية.