ما بعد السيطرة على جسد المرأة
نميل، في هذا السياق، إلى أن “الحاضر هو اللحظة التي تملأ الوجود”، في كل عصر وأوان، فلا وجود للماضي إلا في فجواته، ولا معنى للمستقبل إلا ممكناته، وليس معظم “التراث”، غير المادي، سوى الخلايا الميتة، في نسيج الثقافة الحي. ومن ثم، يكون الحاضر هو مسرح التاريخ الواقعي، وما عدا ذلك حكايا وسرديات.
هل ثمة علاقة بين كيفية إدراك الزمن وبين حرية الفرد، ذكراً وأنثى، أو حرية الجسد، جسد الذكر وجسد الأنثى على السواء؟ تتلخص المسألة، في اعتقادنا، في كيفية النظر إلى الفرد الإنساني العياني، زيد أو هند، إما من خلال تصور سكوني لزمن مستمر، بإحداثياته ذاتها، ومستقل عن المكان، وإما من خلال تصور للزمن على أنه سيرورة تشكل وانحلال متناوبين، لا ينفصل فيها الزمان عن المكان؛ هاتان رؤيتان: تيولوجية (لاهوتية) وعلمانية، لا سبيل إلى التوفيق بينهما. محاولات التوفيق هي ما جعلت مجتمعاتنا تراوح في مكانٍ، لا هو خارجَ العصر ولا هو داخلَه، لا هو خارجَ الحداثة ولا هو داخلَها.
مشكلة العرب المعاصرين وأمثالهم ليست في عجزهم عن اكتساب قيم الحداثة ومبادئها ومناهجها، أو عجزهم عن التمتع بمنجزاتها، وليست في قصور لغتهم، بل هي، بالضبط، عجزهم عن المشاركة فيها وإعادة إنتاجها. فيغدو السؤال: لمَ لا يزال العرب وأمثالهم من الأمم والشعوب عاجزين عن المشاركة في الحداثة، بحلوها ومرِّها؟ من البديهي أن تكون غالبية العرب الممنوعين من ممارسة حياتهم النوعية (الإنسانية)، في دولهم، والممنوعين من المشاركة في تدبير شؤونهم العامة، وتقرير مصائرهم، عاجزين عن المشاركة في الحداثة، ومشاركة المرأة في صلب الموضوع، ومن البديهي أن يكون طغاتهم، الذين يمنعونهم عن ذلك، حرَّاسَ تأخرهم وحماتَه، والحداثةُ، من أحد وجوهها، ثورةٌ على الطغيان. العرب وأمثالهم لا يشاركون العالم المتقدم في شيء، إلا في كونهم عاهته ومرضه العضال، ودليل على تشوهاته الأخلاقية، بصفتهم موضوعه، لم يرتقوا بعدُ إلى ذوات حرة ومستقلة.
كيفية إدراكنا للزمن تحدّد كيفية إدراكنا للعالم، عالم الإنسان، المجتمع والدولة، ومجتمع الدول، ومدى انتمائنا إليه ومشاركتنا في إنتاجه وإعادة إنتاجه، بل في خلقه أو ابتكاره، إذا شئتم. ثمة زمن تيولوجي، يبدأ بخلق العالم وخلق الإنسان، وينحدر إلى الحضيض، كلما ابتعد عن اللحظة/اللحظات التدشينية أو البدئية، التي يعيد البشر تحيينها رمزياً، بشعائر وطقوس فولكلورية، كأعياد الميلاد، مثلاً.. وزمن آخر هو الزمن العلماني، باعتباره “شكل حركة المادة”، والوجه الآخر للوجود، الملازم لوجهه الأول (المكان) والمتصل به، وسيرورة التحسن الذاتي للإنسان، بما هي سيرورة نموّ وتقدم مطَّردان، مع انقطاعات وانتكاسات وتراجعات، هنا وهناك، وبين الحين والحين.
الزمن التيولوجي هو زمن الحكاية، أو السردية التي تغدو خرافية أكثر فأكثر كلما جف نسغها الأسطوري والشعري والإبداعي، والإنسان (الذكر) هو موضوع الحكاية، مخلوق من طينها، ومن الروح القدس،على صورة من خلقه وهيئته، والمرأة مصنوعة من ضلعه القاصرة؛ المرأة رحم الحكاية وثدياها، ودميتها، أمّ الأبطال والشهداء ومتعة المحاربين وسكن القاعدين. الجسده، جسد الرجل”مادي”، طيني، وروحه، عقله، قبس من نور الله، والمرأة بلا عقل، بلا نفس أو روح. أما الزمن العلماني فهو التاريخ، الذي يصنعه الإنسان بنفسه، ولكنه لا يصنعه على هواه دوماً. التاريخ هو ظل الإنسان، وتوقيع ممكناته على حساب ممكنات أخرى لا متناهية، في كل لحظة من لحظات تطوره التاريخي. “المجتمع هو الإنسان مموضعاً” والدولة هي حياته الأخلاقية، العامة، النوعية (= الإنسانية)، حسب ماركس، هذا في المبدأ والمنطلق، الذي ليس مبدأ حياتنا المعاصرة بعد، لأن الإنسان ليس بعدا.
الإنسان في الزمن-التاريخ هو الخالق، يخلق العالم، عالمه، ويعيد خلقه، في كل مرة، على صورته ومثاله، وهو من خلق الله على صورته ومثاله أيضاً، وقد حدس برمنيدس بذلك، منذ عشرات القرون. هذا الفارق الجذري بين زمنين، بإحداثياتهما المشار إليها، هو الفارق بين نموذجين للإنسان: نموذج المخلوق ونموذج الخالق. الروح، في النموذج الأول مغايرة للجسد، تحل فيه وتفارقه، أما في النموذج الثاني فالروح هي الجسد والجسد هو الروح أو النفس، وبحسب التوحيدي، الروح أو النفس لطيف الجسد، والجسد كثيفها. الثقافة العربية، بالمعنى الواسع للثقافة، وثقافتنا هنا في سوريا، ممنوعة حتى اليوم من النظر إلى الفرد الإنساني، بوجه عام، وإلى المرأة، بوجه خاص على أنه وأنها النموذج الكامل للإنسان، وسيظل أمرنا كذلك ما لم تتخط ثقافتنا هذه العتبة.
البنى البطريركية والبطريركية الجديدة، والسلطة/السلطات المنبثقة منها، لا تعترف باستقلال الفرد الذكر وحريته، أي بإنسانيته، إلا اعترافاً مشروطاً، ولكنها لا تستطيع أن تعترف أبداً بحرية المرأة واستقلالها الكياني، لأنها إذ تفعل ذلك تتفسخ، وتكف عن كونها بنى بطريركية، ما يمنعها من ذلك ثقافة راسخة سمتها العامة التكرار والاجترار المقدس، وسلطة/سلطات مستبدة أتفه ما يكون الاستبداد، وأكثر أشكاله شيناً وعاراً. البنى البطريركية، ولا سيما الإثنية والمذهبية، هي شكل التوسط بين الإنسان وجسده، بين الإنسان وذاته، بين الإنسان وحريته، لا يعرف الإنسان ذاته ولا يعرِّفها إلا من خلالها، ولا يدرك جسده إلا بها، على أنه جزء منها.
التصور الحديث للجسد مرتبط بصعود الفردية، مفهومة فهماً صحيحاً، بصفتها كينونة وجودية، وبنية اجتماعية، كما يرتبط بانبثاق تصور علماني للكون والطبيعة والعالم، يقطع مع الكوزمولوجيا التقليدية، ببعديها الأسطوري والديني، وفكر عقلاني
الجسد، الذي يعتبر إلى اليوم موضوعاً للطب، والطب النفسي وغيرهما من العلوم، وموضوعاً للنظر إليه جمالياً، وتشكيله اجتماعياً، وفقاً للوظائف المنوطة به، ولا سيما جسد المرأة، هذا الجسد المُشيَّأ، أي المجعول شيئاً، هو بيت الوجود الفسيح، وشكل الحياة، وهو الذي يمنح الفرد هويته الجذرية، التي يطمسها المجتمع. إذ كل فرد، أنثى كان أم ذكراً هو النموذج الكامل للإنسان. على هذه القاعدة فقط، تتأسس المساواة، وتتعين الحرية، وتنفتح إمكانية العدالة، وبموجبها فقط، تتحدد قيم الحق والخير والجمال.
وجود الإنسان جسدي. والمعالجة الاجتماعية والثقافية التي يعد موضوعاً لها، والصور التي تتكلم عن عمقه المخبَّأ، والقيم التي تميزه، تحدثنا أيضاً عن الشخص، وعن التغيرات التي يمر بها تعريفه وأنماط وجوده من بنية اجتماعية لأخرى. ولأن الجسد يوجد في قلب العمل الفردي والنشاط الاجتماعي والإنساني، وفي قلب الرمزية الاجتماعية، فإن لمعرفته أهمية كبيرة في فهم أفضل للحاضر [1]. وجود الإنسان فردي. الفرد معطى وجودي، لكن الفردية ليست كذلك، ليست بدهية أصلية، بل هي معطى اجتماعي وتاريخي. الجسد هو الشخص، من دون أيّ سمة أخرى، أو اسم أو صفة أو حال. وهو بنية مركبة من الفردية والرمزية الاجتماعية والثقافية. الجسد مطاوع/مقاوم للسلطة.
بهذه التعيينات يكون الجسد شكل الوجود الإنساني والروح مضمونه؛ الجسد مكان الذات والذات زمانه وقوامه (مكان الفاعلية والانفعال، الرفاهية أو الشقاء، النضارة أو الذبول، الحسن أو الدمامة، الرشاقة أو الترهل، الشهوة أو التقشف، القوة أو الضعف والجهد والمخاطرة أو الكسل والخمول الرهافة أو البلادة الرشاقة أو البدانة …) فإن الذات أو الأنا هي زمان الجسد، إذ لا قرين للمكان سوى الزمان، ولا يكون أيّ منهما بمفرده، وهذا مما يضع نهاية للثنائية الديكارتية: الفكر والامتداد، فلا يسوغ التفكير في زمان مستقل عن المكان أو مكان مستقل عن الزمان. متصل الزمان والمكان يؤسس أو سوف يؤسس رؤية فلسفية جديدة، تتجاوز الحداثة المتحققة بالفعل، ما يؤكد أن الحداثة سيرورة لا تتوقف. وحدة المكان والزمان هي وحدة النفس والجسد أو وحدة اللطيف والكثيف، بكلمات أبي حيان التوحيدي، أشبه ما تكون بالطبيعة المزدوجة للمادة: الموجية والجسيمية. وإذ يعد الجسد علامة الفرد ومكان اختلافه وتميزه، فإنه سيطرح علينا من جديد مسألة فرادة الزمكان وأفراديته واختلافه وتميزه.
ليس الوضع البشري وحده وضعاً جسدياً، بل وضع سائر الكائنات. وهذا يعني أفرادية العالم، ويعني أن أفرادية العالم قوام وحدته [2]. إذ من دون هذه الأفرادية لا محل للصلات والروابط والعلاقات المتبادلة، على اختلاف مضامينها، التي هي نسيج العالم. الأفرادية هي البنية الابتدائية للنزعة الجمعية والاجتماعية، والبنية الابتدائية للعلاقات الإنسانية، لأنها حاملة الاختلاف، وهو المغزى العميق للحرية، بل هو شكل تعيُّن الحرية، إذ العلاقات الإنسانية السليمة علاقات بين حرائر وأحرار، والعلاقات الاجتماعية السليمة علاقات بين مواطنات حرائر ومواطنين أحرارا. هنا، في واقعية الأفرادية، وواقعية الاختلاف، تتموضع قضية المرأة، وقضية الجسد، جسد المرأة وجسد الرجل وجسد المجتمع، وينكشف سر السلطة، ويرتفع السحر عن العالم.
التصور الحديث للجسد مرتبط بصعود الفردية، مفهومة فهماً صحيحاً، بصفتها كينونة وجودية، وبنية اجتماعية، كما يرتبط بانبثاق تصور علماني للكون والطبيعة والعالم، يقطع مع الكوزمولوجيا التقليدية، ببعديها الأسطوري والديني، وفكر عقلاني منفتح على الإمكان الأخلاقي للأسرة والمجتمع، يمكن أن يؤسس ما يسميه كمال عبداللطيف “روحانيات الحداثة”، بانفتاحه على علوم الجسد أو علوم الإنسان، ولا سيما العلوم الطبية، وعلم الحياة والنيروبيولوجيا أو علم الأعصاب وغيرها. التصور الحديث للجسد نتاج أوضاع اجتماعية-اقتصادية وثقافية وأخلاقية سمحت بولادته، هذه الأوضاع ممكنة في كل مكان من العالم ولكل مجتمع من المجتمعات، ما دامت منجزاً إنسانياً، إذا نظرنا إليها من منظور التاريخ، لا من منظور الهوية. الهوية التي لا تتمحور على فكرة الإنسان عائق معرفي وأخلاقي.
هل الإناث جنس آخر؟ وهل ثمة في الواقع أنواع وأجناس وأصناف ورتب وصفوف وفصائل أم هذه كلها مقولات “كلية”، ونماذج صورية من عمل الذهن أو العقل الذي لا يعمل إلا بالكليات، ولا يمكنه إلا أن يقوم بعمليات نمذجة وتنويع وتجنيس وتصنيف لمقاربة الواقع العياني، الأفرادي، والإمكاني أو الاحتمالي، والمتغير على الدوام، للتغلب على واقع الكثرة والاختلاف ومحاولة تنظيمه؟ ثم أليست هذه العمليات نفسها عمليات تنميط واختزال لصفات الأفراد وخصائصهم ممهورة بختم العلم والمعرفة الموضوعية؟ وما سر جنسنة العلوم التي تعنى بالكائن البشري، في حين لا نقع على مثل هذه الجنسنة في علوم الحيوان والنبات، مع أن وظيفة التكاثر و”حفظ النوع″، أو حفظ الحياة، هي نفسها في جميع الأحوال؟ لا بد هنا من البحث عن القاع الإبستيمولوجي الذي يكشف عن نزوع ما إلى الكلية والشمول والتجريد والتعميم، والجمع والتوحيد، ومحاولة القبض على الكلي والمطلق واللانهائي، الثابت والدائم، الذي لا يعباً باختلاف الأفراد وتغيّر أحوالهم، فلا ينظر إليهم إلا على أنهم أعراض ومظاهر لجوهر خالد، مع أن جميع العلوم التجريبية تبدأ بدراسة الأفراد والحالات الخاصة.
على صعيد اللغة لا يهتم المتكلم أو المتكلمة بواقع أن الفرق هو، بمعنى ما، نتيجة الاختلاف ومتعلق به. كل اختلاف يضع أو يعيِّن فرقاً، مهما يكن الاختلاف طفيفاً؛ وأن هذا الأخير قد يكون اختلافاً كيفياً أو كمياً. الاختلافات الطبيعية بين الكائنات تعين فروقاً مورفولوجية بين أفراد كل (نوع)، أو فروقاً في الشكل تقوم عليها تصنيفات وضعية، من عمل الذهن. فالإيحاء الدلالي (السيميائي) للفرق يوهم بأن الفروق الجنسية أو غيرها فروق نوعية، جوهرية ومطلقة. وعبارة الفرق توحي بالفصل والقطع والبعاد، ومنها الفراق، وتفريق الشمل، ومفرق الطريق والطلاق والموت .. (راجع/ي لسان العرب، مادة فرق).
من يرون الفروق الجنسية بين الإناث والذكور، باستثناء الحمل والولادة وشكل الجهاز التناسلي، فروقاً مطلقة، إنما ينظرون إليها على أنها فروق نوعية أو جنسية [3] (من النوع Kind والجنس sort) مبنية كلها على هذا الاستثناء، أي فروق بين نوعين أو جنسين من البشر، ومن هنا، على الأرجح درج الحديث عن جنسين، وصار يشار إلى الإناث على أنهن “جنس آخر”. نعتقد أن الفروق الجنسية (differencessexual) (البيولوجية) وفروق الجنوسة (الاجتماعية والسلوكية) كلها نسبية، وقابلة للملاحظة والقياس بنية ووظيفة، باستثناء شكل الجهاز التناسلي، لا وظيفته، التي لا تتحقق إلا بتضافر الأنوثة والذكورة وتضافر جميع الأجهزة الحيوية الأخرى. إن قابلية الفروق للقياس الكمي هي ما يؤكد كونها فروقاً نسبية.
عمليات التنويع والتجنيس والتصنيف ترجع إلى عملية “التعقيل” الأرسطية، أو عملية تقعيد وقوننة ما هو قائم بالفعل، التي قامت على ثنوية الهيولى والصورة أو المادة والصورة، أو الجوهر والعَرَض، ومبدأ الوظيفة، والتراتب الهيرارشي الصاعد من الأدنى إلى الأعلى [4]: من الجمادات فالنباتات فالحيوانات فالإنسان، فالآلهة. وهذه جميعاً سرت في الفكر البشري والعقائد الدينية، ولا سيما التوحيدية منها، ولا تزال حاكمة في الثقافات التقليدية، لدى مختلف الشعوب، ولا سيما الثقافة “العربية الإسلامية”، بمختلف فروعها.
كل رجل ذكر بنسبة ما وأنثى بنسبة أخرى، وكذلك كل امرأة؛ لذلك نتحاشى دوماً الحديث عن أو الإشارة إلى جنسين أو إلى “الجنس الآخر”، و”الجنس اللطيف”.. إلخ، مع أن إحدى الغايات التي يتوخاها هذا النص، هي إبراز الاختلاف والاحتفاء به. لكن الاختلاف النسبي شيء والاختلاف المطلق أو الجذري، شيء آخر. واختلاف الأنوثة عن الذكورة شيء، واختلاف الأنثى عن الذكر أو المرأة عن الرجل شيء آخر.
معنى الأنوثة لا يطابق معنى المرأة، فيستبعد الذكورة من بنيتها الكيانية أو كينونتها. ومعنى الذكورة لا يطابق معنى الرجل فيستبعد الأنوثة من بنيته الكينونية. هذا أمر غاية في الدقة والأهمية، يدل تفويته على اختلاط في الوعي وتشوُّش والتباس في المعرفة. ومن ثم، فالخصائص التي تنسب إلى الأنوثة ليست خصائص المرأة حصراً، ناهيك عن المرأة س أو ص أو ع. والخصائص التي تنسب إلى الذكورة ليست خصائص الرجل حصراً، ناهيك عن الرجل س أو ص أو ع. وإلا باتت الفروق بين الأنوثة والذكورة، وبين الرجال والنساء فروقاً مطلقة، والبيولوجيا سيدة الموقف: المرأة تحيض، فهي مدنَّسة؛ انتهى الأمر. المرأة تحمل وتلد، فهي مقدَّسة؛ انتهى الأمر. في الحالين لا يمكن أن يجمعها شيء مع الرجل. المرأة ليس لها قضيب؛ المرأة ليس (= سلب)؛ انتهى الأمر. التدنيس والتقديس والليْس (= السلب) مبنية كلها على بيولوجيا مبسطة ومسطحة، بل جاهلة، دعونا نسمها “بيولوجيا اجتماعية”، عامة، والعمومية هنا هي عماء. البيولوجيا الاجتماعية عنصرية، كالداروينية الاجتماعية، التي تبنتها النازية. أليس هذا جذر ما يسمى “التمييز ضد المرأة”؟
إن مصطلحات “فرق جنسي” و”تمايز جنسي” و”فرق جنوسة” يمكن أن تستعمل بالتبادل لوصف سمات “جسمانية” وخصائص نفسية وسلوكية تختلف في المتوسط بين الإناث والذكور [5]. فثمة فرق بين النساء والرجال في الطول، مثلاً، لكنه فرق في متوسط الطول، ولا يعني أبداً أن جميع الرجال أطول من جميع النساء، أو أن الطول صفة خاصة بالرجال. فالفروق ليست نسبية فقط، بل هي فروق في المتوسط الحسابي. وإذا كان قياس الفروق القابلة للملاحظة والقياس يسيراً فإن قياس الفروق النفسية بالغ الصعوبة. فالخصائص النفسية لا تظهر مباشرة، بل يستدل عليها من السلوك، وليس لها معايير ثابتة ومتفق عليها، كمقاييس الطول أو الحجم أو الوزن. والأهم من ذلك أن معايير الخصائص النفسية محكومة بآراء شائعة، وأفكار مسبقة أو منمِّطة (stereotype)، يتبناها العامة وكثير من العلماء، بلا تمحيص، وبعضها فروض أساسية لدراسات وبحوث توصف بالعلمية والموضوعية، تتناول عينة عشوائية أو منتقاة. نعتقد أن الفروق الذهنية والنفسية والسلوكية فروق فردية أساساً، فمن التعسف اعتبارها فروقاً بين النساء والرجال، واصطناع نماذج صورية من السواء النفسي والسلوكي، لكل من “الجنسين” المفترضين.
ثمة “مشكلة سياقية” يعانيها الناس عامة والباحثون خاصة، كافتراض أن الألعاب العنيفة أو الميول العدوانية، مثلاً، مقصورة على الذكور. مع أنه يمكن افتراض أنها خصائص ذكورية، كامنة في خافية الأولاد والبنات والرجال والنساء، في مقابل خصائص أخرى معاكسة، في الأولاد والبنات والنساء والرجال، تتفاوت نسبها، حسب البيئة والتربية والثقافة. فلا يمكن فصل هذه الميول أو غيرها عن شروط تنميتها أو كفِّها.لا مفر من افتراض أن أكثر ما يسمى خصائص ذكورية وخصائص أنثوية متأصلة في المطالب والتوقعات الاجتماعية من الذكور والإناث، على مر القرون ومئات القرون، ومعززة أو مكفوفة بالتربية والثقافة. ولا مفر من الاعتراف بأن هذه المطالب والتوقعات قابلة للتطور والتغير، تبعاً لتطور أنماط الحياة الاجتماعية وتغيرها.
كل اختلاف بين الأفراد قابل للملاحظة والإدراك الحسي المباشر، بالحواس المجردة أو بوساطة الأدوات المكبِّرة يعيِّن فرقاً قابلاً للقياس، وقد يرقى إلى تناقض جدلي. اللافت في موضوعنا أن من يتحدثون عن وجوه الاختلاف والفروق الناجمة عن كل منها، يسكتون عن وجوه التشابه بين الإناث والذكور، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها وإدراكها بالحواس وأدواتها، أو في الخصائص النفسية والسلوكية؛ فلا اختلاف بلا تشابه، وإلا كانت الأحكام تعسفية. لذلك لا ينبغي إهمال الفروق والتشابهات، بما في ذلك الطفيفة منها، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها أو في الخصائص النفسية والسلوكية. ثمة مستويان من الفروق: فروق بين الذكور والإناث، وبين الرجال والنساء، وفروق بين الأفراد بغض النظر عن الجنوسة، والثانية لا تقل أهمية عن الأولى، لأنها تبين أثر العوامل الطبيعية والاجتماعية والثقافية، وأثر التربية والتنشئة في الأفراد، ونعتقد أنها أولى بالدراسة لأنها أكثر شمولاً.
أكثر الفروق الجنسية وضوحاً تلك المتعلقة بهوية الجنوسة المركزية والميول الجنسية، أي بشعور الذكر بأنه ذكر والأنثى بأنها أنثى، والاهتمام بالشريكة أو الشريك، باستثناء اضطرابات الهوية الجنسية، وهي أقل، قياساً بالحالات العامة [6]. غير أن اضطراب الهوية الجنسية، أي إصرار الأنثى على تعريف نفسها بأنها ذكر ورغبتها في التحول إلى ذكر، أو العكس، يجب أن تقوم دليلاً، لا على نسبية الفروق فقط، بل على وحدة الأنوثة والذكورة أساساً، وكذلك الميول المثلية والثنائية، على الرغم من ضآلتها النسبية. وهذا ما نشير إليه بإمكانية تأنُّث الخصائص الذكورية وتذكُّر الخصائص الأنثوية، في الفرد، أو في “الكلية العينية”. “فعلى الرغم من أن معظم الناس يبدون إما على أنهم ذكور بوضوح وإما على أنهن إناث بوضوح، فإن كلاً منهم أو منهن فسيفساء معقدة من الخصائص الأنثوية والذكرية، إضافة إلى أن هناك من تولد أو يولد خنثى” [7]. الاستثناء هنا لا يؤكد القاعدة، بل ينفي عنها صفة العمومية، إذ يدل إما على ميل في التطور ينحِّي صفات أو خصائص بعينها، وإما على إمكان قد يتحقق غداً أو بعد غد، لذلك لا يجوز إهماله على نحو ما هو شائع. والاستثناء، من جهة أخرى، يضع الاستقراء، الذي تربع على عرش المعرفة “العلمية”، تحت السؤال. وإلى ذلك، لاحظ فرويد (1856-1939) أن مفهومي المذكر والمؤنثة، اللذين لا يحيط بهما ظل من شك في نظر العامة، هما من أشد المفاهيم تعقيداً، من وجهة النظر العلمية. فهذان اللفظان يستعملان بثلاثة معان مختلفة؛ “.. فيمكن أن يعنيا “الإيجاب” و”السلب”، وقد يؤخذان أيضاً بالمعنى البيولوجي، أو أخيراً، بالمعنى السوسيولوجي” [8].
لعل الآراء الشائعة والأفكار المسبَّقة أو المنمِّطة ترتكز كلها على شكل الجهاز التناسلي ووظيفته، لدى الرجل والمرأة، مع أنه في الحالين جهاز تناسلي، يتحدد شكله بوظيفته البيولوجية، مثلما يتحدد شكل جهاز التنفس وجهاز الدوران وجهاز الهضم، التي تتضافر كلها في إنتاج الطاقة الحيوية. وما دام الرجل هو من يحكم ويصنف، فإن هذه الآراء والأفكار تصدر عن “مركزية قضيبية”، تبدو المرأة، من منظورها، ناقصة، (ليس لها قضيب). وينجرُّ عن هذا “النقص” نقص في العقل والدين، وفي كل ما يتصف به الرجل. (ألا يعني شيئاً هذا التواشج بين نقص القضيب ونقص العقل والدين؟). نحن إذاً إزاء أحكام وتصنيفات ذكورية ومركزية قضيبية، تنبثق منها الأحكام وتنبني عليها المواقف. لنتصور، على سبيل التدريب الذهني، لو أن النساء أعلى منزلة، ولهن سلطة الحكم والتصنيف وتشكيل الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي وضبط أجساد الرجال ومراقبتها ومعاقبتها، ألن نكون إزاء مركزية فرجية تلون الأحكام، وتحتكر الموضوعية؟
من جانب آخر، لا يزال الطب وما يحيط به من رؤى وضعوية، يقدم تصوراً فظاً عن الإنسان-الجسد، فهو يهتم بالمرض، لا بالمريض، فيجعل من الجسد “أنا آخر” للمريض، ومن ثم للإنسان، وموضوعاً للعلم، بتوسط الأطباء والأدوات والأدوية، وهذه الأدوات والأدوية وهؤلاء الأطباء لا يعنيها ولا يعنيهم الفرق بين الإنسان والحيوان. الجسد هنا مجرد كتلة، أو بنية من الأعضاء والأجهزة والعظام والعضلات والأنسجة والأعصاب. هذا أيضاً مرتبط بأوضاع اجتماعية وثقافية تسمح بتجيير الصحة وتشييء الإنسان، علاوة على التدخل الفظ للهندسة البيولوجية وفقاً للهندسة الاجتماعية. هذا ما يسمح بتخيل مشفى يوضع فيه المرضى حسب أرقامهم على سرير متحرك ويُدخلون في مختبر مجهز بالمجسات الحساسة والمناظير الدقيقة وأدوات القياس والتصوير والتحليل، فتذهب النتائج إلى قاعة الأطباء ويذهب المرضى الأرقام إلى أسرتهم، فتأتيهم وصفاتهم وأدويتهم إليها، أو إلى غرف عمليات مجهزة بأدوات ذكية يديرها الأطباء من بعيد، ويمكن أن نتخيل حلول الأدوات الذكية محل الأطباء أيضاً. هذا البعد التقني المسيطر على الحداثة، خطر على الإنسان وعلى الحداثة ذاتها. وعلى الثقافة العربية أن تدرك أنها معنية بهذا أشد العناية، لأن كل ما يحدث في العالم يحدث لنا.
هذا التخيل مبني على أوضاع قائمة، لا يهتم فيها الأطباء بالمرضى أدنى اهتمام. “من هنا تأتي النقاشات الأخلاقية المعاصرة حول دور الطب في الميدان الاجتماعي، ومفهومه للإنسان، وإمكاناته الأخلاقية، ولا سيما أن الطب لا يزال يرتكز على رواسب أنتروبولوجية، ويراهن على الجسد الشيء أو المكان معتبراً أن بالإمكان معالجة المرض، لا المريض. الجسد-المكان، هنا، هو مكان المرض، مكان الشر أو اللعنة، ومكان الخطيئة والابتلاء وتجربة الألم والعذاب ومكان العجز والضعف واللاجدوى والشيخوخة والموت، ومكان الشهوة الحيوانية، التي تفصح عنها عمليات التحرش والاغتصاب، التي تنتهك كرامة أجساد النساء والطفلات والأطفال خاصة.
والأدهى من ذلك أن يكون الجسد، من حيث رمزيته الاجتماعية، مكاناً للثأر والانتقام، بوصفه كوناً طائفياً وكائناً طائفياً، سنياً أو شيعياً أو علوياً أو درزياً أو غير ذلك، حسب من يمارس التنكيل والتعذيب والقتل، كما حدث ويحدث في بعض المشافي السورية، ناهيكم عن المعتقلات والسجون، مما كشفت عنه الوثائق والصور ومقاطع الفيديو، ولكنها ظلت أفعالاً مُسندة إلى مجهول. الضحية هي نائب الفاعل، شاهد فحسب أو مجرد قرينة على الفعل، الضحية شاهد محايد أشد ما يكون الحياد، ولا مُبالَى به أشد ما تكون اللامبالاة، لذلك لا يختلج الضمير الفردي والاجتماعي أي اختلاج، لضحايا القتل والتمثيل بجثث القتلى، ولم يكن يختلج لعمليات الاعتقال والتعذيب والموت تحت التعذيب، التي تمادت، منذ عام 2011.
“تخصص التصورات الاجتماعية للجسد وضعاً محدداً داخل الرمزية العامة للمجتمع؛ فهي تسمي أجزاءه المختلفة والوظائف التي تقوم بها وتبين علاقاتها، وتنفذ إلى الداخل غير المرئي للجسد لتودع فيه صوراً دقيقة وتحدد موقعه في الكون أو بيئة الجماعة. إن هذه المعرفة معرفة ثقافية.. تسمح بإعطاء معنى لعمق لحمه ومما صنع وبربط أمراضه وأوجاعه بأسباب دقيقة تتفق ورؤية مجتمعه للعالم، كما تسمح بمعرفة موقعه تجاه الطبيعة والناس الآخرين عبر نظام من القيم” [9].
الجسد من وجهة نظر المجتمع بناء رمزي، يتخطى حقيقته الواقعية أو كينونته. ومن هنا تنشأ التصورات المختلفة وفقاً لاختلاف المجتمعات والبيئات، التي تسعى إلى إعطائه معنى وقيمة، فهو بناء اجتماعي وثقافي. المفهوم الحديث للجسد (الإشكالي والغامض) هو نتيجة للبنية الفردية للميدان الاجتماعي، وانقطاع التضامن الذي يمزج الشخصي بالجماعي أو الجمعي وبالكون، بتوسط نسيج من الصلات يستقيم به كل شيء. تنبثق هنا مسألة الحياة الخاصة للفرد (خصوصية شخصيته وفرادتها وتميزها) وحق الشخص في الحفاظ على هذه الخصوصية وعدم انتهاكها أو الاعتداء عليها من قبل أي سلطة خارجية. هكذا ينظر إلى المسألة في المجتمعات الحديثة، التي باتت تعاني من تطرف فردوي، وولع مبالغ فيه بالخصوصية، تقابله لامبالاة بالعام والعمومية.
نعتقد أن جذر هذين التطرف والولع، في المجتمعات المتنثِّرة والتي على حافة التنثُّر، جراء الميل المتنامي إلى السلطوية، وتحكم التكنولوجيا والميديا والدعاية والإعلام وتهميش المجتمع المدني، وإفقار شرائح واسعه منه، وتآكل الديمقراطية، وانبعاث الشعبوية والنزعات العنصرية، يمتد إلى قسمة الإنسان على ذاته، وتمييز الجسد من النفس، أو فصل الوجود عن الماهية (فصلُ سقراط عن الإنسان، في الجملة الاسمية: “سقراط إنسان”، وعدم إدراك أن عموميَّ المجتمع المدني وخصوصيَّه إنسان، وعموميَّ الدولة إنسان). ترجمة هذه الحال هي “القصور الذاتي”، أي عجز الفرد والمجتمع عن إدراك الطابع المركب للشخصية الفردية من الفردي والنوعي، نعني بالتحديد ضمور البعد الإنساني في شخصية الفرد وبنية المجتمع المدني والدولة، بالتلازم الضروري بين هذه المستويات: الشخصية والخاصة والعامة. جذر هذين التطرف الفردوي والولع المبالغ فيه بالخصوصية هو ضمور الإنسانية، في الفرد والمجتمع والدولة. ما يحيل على أزمة أخلاقية عالمية الطابع، لا يمكن تجاوزها إلا بتقصي جميع أسبابها المشار إلى بعضها ومعالجتها. هنا تتوجب إعادة بناء مفهوم الصحة العامة ومفهوم الطب وعلوم الحياة على أولوية الإنسان، أولوية الفرد الإنساني، بما هو كائن كلي، يجسد وحدة الفرد والنوع.
لا قوام للفرد الإنساني من دون علاقاته الإنسانية والاجتماعية وعلاقاته بالطبيعة، فهذه كلها هي التي تشكل فرديته وشخصيته الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، التي تنسج وجوده الإنساني، وتشكله أشكالاً، يدل كل منها على بعد من أبعاد شخصيته، أو على ملكة من ملكاته، وليس المجتمع، والمجتمع المدني سوى هذه الأشكال. لكن هذه الأشكال ليست ثابتة ولا نهائية، وقبل ذلك، ليست بدهيات أصلية، بل هي أشكال متغيرة تشكلها علاقات بين أفراد مختلفات ومختلفين، اختلافهن واختلافهم هو ما يمنح هذه الأشكال حيويتها وطابعها الديناميكي، أو طابعها البيوديناميكي والجدلي أو الديالكتي، إنها أشبه ما تكون بالمجموعات الرياضية والجمل الموسيقية، في كل لحظة من لحظات نموها.
العلاقة بين الشكل والمضمون، هنا، هي بالضبط علاقة الزمان بالمكان، التي انطلقنا منها في تعريف الجسد، أو تعيُّن هذه العلاقة، وهي نفسها العلاقة التي يتحدد بها الجسد الاجتماعي، جسد الجماعة، وجسد المجتمع الكلي، بصفته منظومة إيكولوجية وسيعة وشديدة التعقيد، ينبع تعقيدها من تعقيد أساسها الفردي، وتشابك منظوماتها الفرعية، بتناسب محكم، إذ كلما ازداد تعقيد الكائن، أو المنظومة الإيكولوجية، ازداد استقلاله، ونمت حريته، واتسع مجال ممارستها. بهذين الحرية والاستقلال وهذا الاتساع يتحرر الجسد من الضغوط التي تحف به من كل جانب، وتحد من إمكاناته.
تجب الملاحظة أن اختلاف الأمكنة هو اختلاف الأزمنة، واختلال العلاقة بينهما هو مرض الجسد الفردي والاجتماعي. مشكلة الحداثة تكمن هنا، في مرض الجسد الفردي والاجتماعي ومرض الروح، في التناقض بين تعقيد المجتمع وحيويته ولامحدودية إمكاناته وبين تيبس مفاصل الدولة وضعف حساسيتها لمضمونها، أي للمجتمع المدني، وانتكاسها إلى بنية أقل تعقيداً من تعقيد المجتمع، أي إلى دولة قومية، بالمعنى الذي كانته القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
إذا لم توضع المسألة على هذا النحو لمعالجة أزمة الحداثة وقصورها الذاتي ستتسع الهوة بين المجتمع والدولة. هذه الهوة هي العدم الذي تملؤه قوى عدمية، متطرفة وعنصرية وإرهابية، قوى عمياء، كالتي يعاني العالم منها اليوم. والنتيجة هي تآكل الدولة والمجتمع معاً. الوضع السوري والأوضاع التي تشبهه صور مصغرة عن مرض الحداثة العالمي وجفاف نسغها الإنساني. “شكل الماء شكل الإناء” [10]. والجسد هو مورفولوجيا الروح، شكل الروح، شكل الإنسان.
الزمان والمكان وجهان متلازمان للجسد بوجه عام، والجسد الإنساني بوجه خاص. علاقة الإنسان بالطبيعة وكائناتها جميعاً علاقة اجتماعية أو محددة اجتماعياً، وهي علاقة الإنسان بشروط وجوده ومصدر حياته، ولنقل إنها علاقة المخلوق بخالقه، أو الكائن بكونه. وعلاقة الإنسان بالناس الأخريات والآخرين هي علاقته بتجليات ماهيته الإنسانية أو النوعية العامة، اللغة وما يتصل بها هي ما تجعلها علاقة خاصة، واللسان هو ما يؤسس ارتقاءها إلى علاقة نوعية عامة. بهذين البعدين: الإنساني العام والاجتماعي الخاص يتمكّن الزمان ويتزمّن المكان، هذان التمكن والتزمن يضعان تاريخية الكائن في الكون الاجتماعي والإنساني. (الزمان هنا أكثر من بعد رابع، لأنه قوام المكان وتاريخه)
تناقض الحداثة على الصعيد الأفرادي، هو تناقض الشكل الاجتماعي، أو الشكل الذي يفرضه المجتمع على الجسد، تحت مقولة “لنصنع الإنسان”، قل لنصنع الجسد، وبين مضمونه الإنساني، أو النوعي، الكلي والعام. الشكل الاجتماعي ظاهر جداً والمضمون الإنساني ضامر جداً، عندنا على الأقل، الشكل حاضر والمضمون غائب. قلما يتنبه الناس إلى اختلاف القيم والمعايير التي يتبناها هذا المجتمع أو ذاك عن القيم الإنسانية المشتركة بين أفراد الجماعة الإنسانية؛ إذ القيم والمعايير الجمعية والاجتماعية الخاصة هي التي “تصنع الجسد” وتضبط إيقاع حركاته وسكناته، وتضفي عليه معاني خاصة وقيماً خاصة، لكي يحوز الاعتراف والأهلية. الأهلية هنا من التأهيل = التدجين، ولا تمضي إلى الجدارة والاستحقاق ونموّ الإمكانات الأخلاقية والإبداعية.
هل الإناث جنس آخر؟ وهل ثمة في الواقع أنواع وأجناس وأصناف ورتب وصفوف وفصائل أم هذه كلها مقولات “كلية”، ونماذج صورية من عمل الذهن أو العقل الذي لا يعمل إلا بالكليات، ولا يمكنه إلا أن يقوم بعمليات نمذجة وتنويع وتجنيس وتصنيف لمقاربة الواقع العياني
لنستعرض بعض أسماء الجسد وأعضائه ودلالاتها في اللغة والثقافة، لفحص موقفهما من الإنسان؛ الرأس يعني العلو والشرف والرئاسة والسيادة والعناد هو ركوب الرأس، وفيه معنى الكثرة والعزة. ويقال رأس من الثوم وغيره أو من الإبل وغيرها. والعين آلة البصر ونبع الماء وكبير القوم وطليعتهم الذي يرعى أمورهم، وقرة العين الراحة، وامرأة عيناء من العين الحور، والعين الشيء المعين، ومنه فرض العين، أي الواجب على كل فرد، وعكس النقد في البيوع، ويقال أصابته عين إذا مرض الإنسان أو قتل (عان بمعنى قتل أو أصاب طريدته) وهي مصدر الومض والبريق. والعين مبينة التهم. والرؤية نظر بالعين والقلب. ورأى رؤية العين، ورأي العين، أي تيقن، وارتأى رأى بقلبه أو رأي القلب. والعين بمعنى المرآة: امرأة حسنة في مرآة العين. واليد جناح (واضمم إليك جناحك من الرهب) وفلان خفيف اليد أي رشيق الحركة، واليد أداة الضرب، وهي خلاف الرجل. ويقال ليس الأمر بيدي، أي لا حيلة لي فيه، ووضع اليد تملك بلا وجه حق أو غصب. والقلب هو الفؤاد أي الرباط، كأن الجسم كله ربط به، ورباطة الجأش قوة القلب وشجاعته وحزمه واشتداده، وهو موضع الحب والكره والخوف والجزع. والروع هو القلب والعقل، ويقال وقع في روعي أي في نفسي وخلدي وبالي، ورواع القلب وروعه ذهنه وخلده، ورقة القلب الرحمة والعطف على عكس قسوته، ويقال حبة القلب وسويداؤه وسواده أي عمقه. ويوصف القلب بالبياض والسواد، وهو كالعين آلة الرؤية أو الرأي. وتنسب إلى القلب صفات الإماتة والإحياء والرضا والسخط. وأما الصَّدْر فهو أَعلى مقدَّم كل شيء وأَوَّله، حتى إِنهم ليقولون: صَدْر النهار والليل، وصَدْر الشتاء والصيف وما أَشبه ذلك مذكّراً ويوصف بالسعة والرحابة أو بالضيق. وصدر الأمر أوله وصدر كل شيء أوله، وكل ما واجهك فهو صدر، والصدر ما أسرف من أعلاه. ومنه قول امرأَة طائيَّة كانت تحت امرئ القيس، فَفَرِكَتْهُ (أي هجرته) وقالت: إِني ما عَلِمْتُكَ إِلاَّ ثَقِيل الصُّدْرة سريع الهِدافَةَ بَطِيء الإِفاقة. بَنَات الصدر: خَلَل عِظامه… ورجل أَصْدَرُ: عظيم الصَّدْرِ، ومُصَدَّر: قويّ الصَّدْر شديده؛ وكذلك الأَسَد والذئب. والتَّصَدُّر: نصْب الصَّدْر في الجُلوس. وصَدَّر كتابه: جعل له صَدْراً؛ وصَدَّره في المجلس فتصدَّر. وصَدْرُ القَدَمِ: مُقَدَّمُها ما بين أَصابعها إِلي الحِمارَة. وصَدْرُ النعل: ما قُدَّام الخُرْت منها. وصَدْرُ السَّهْم: ما جاوز وسَطَه إِلى مُسْتَدَقِّهِ، وهو الذي يَلي النَّصْلَ إِذا رُمِيَ به، وسُمي بذلك لأَنه المتقدِّم إِذا رُمِي، وقيل: صَدْرُ السهم ما فوق نصفه إِلى المَرَاش. وسهم مُصَدَّر: غليظ الصَّدْر، وصَدْرُ الرمح: مثله. والنهد من نهد: نَهَدَ الثدْيُ يَنْهُد، بالضم، نُهُوداً إِذا كَعَبَ وانتَبَرَ وأَشْرَفَ (ارتفع). يقال: نَهَدَ الثديُ إذا ارتفع عن الصدر وصار له حَجْم.وفرس نَهْد: جَسِيمٌ مُشْرِفٌ. تقول منه: نَهُدَ الفرس، بالضم، نُهُودة؛ وقيل: كثير اللحم حسَن الجسم مع ارتفاع، .. وإِذا قارَبَتِ الدَّلْوُ المَلْءَ فهو نَهْدُها، والمُناهَدَةُ في الحرب: المُناهِضةُ، وفي المحكم: المُناهَدةُ في الحرب أَنْ يَنْهَدَ بعض إِلى بعض، وهو في معنى نَهَضَ . والنَّهْداء من الرمل، الرَّابية.. ورجل نَهْدٌ: كريم يَنْهَضُ إِلى مَعالي الأُمور.. والجلد الخشن هو الأرض الجاسئة والنبات الجاف، ويدل على الاحتواء، إذ تصنع من جلود الحيوانات القرب والأجربة (ج جراب) والمزاود، وتغلف به التعاويذ والكتب.. والجلدة هي الطائفة (فلان من بني جلدتنا). الجماعة تحيط بالفرد كما يحيط الجلد بالجسم.
أتينا بهذه المعاني لنبين أن الجسد في ثقافتنا يستعير خصائصه من البيئة والأوضاع العشائرية والقبلية، التي كانت على عتبة التحضر، لا التمدن، حين جمعت اللغة وقعدت قواعدها، فالجسد غير منفصل عن العالم الذي يغمره، إنه يحبك وجوده من البوادي والواحات وما فيها من الأشجار والثمار والنبات والحيوان، ويخضع لنبض هذا العالم الممزوج بالجماعة. وإن استمرار البنى العشائرية والقبلية حتى يومنا لدليل على استمرار النظرة إلى الجسد. ولو مضينا قدما إلى معاني الغزو والحرب والتجارة ومعاني الجنس والمعاشرة لتبينت وضعية الجسد، على أنه بنية رمزية، بأكثر ما يمكن من الوضوح، وأن حقيقته الاجتماعية تطغى على حقيقته البيولوجية، وتنأى كثيراً عن وظائفه الفيزيولوجية وطبيعته الفسيولوجية (التشريحية)، وتنأى أكثر وأكثر عن ماهيته الإنسانية. وسوف يختلف الأمر إذا ما تقصينا وضعية الجسد في الفلسفة، فسيبدو الجسد في الدرك الأسفل مادةً طينيةً، هي مطرح الشهوات والغرائز واللذات أو الآلام العابرة، فهو من طبيعة الدنيا الدنية والزائلة، لا يسمو إلى شرف النفس والروح والعقل، إلا عند قلة نادرة، كأبي حيان التوحيدي وبعض المتصوفة.
الفلسفة العربية-الإسلامية تشطِّر الإنسان وتجزِّئه أجزاءً هي العقل والنفس والجسد، حتى العقل فاعل بغيره، لا بذاته، والنفس منفعلة بهذا الفعل، ولكنها أمارة بالسوء، لاتصالها بالجسد وغواياته.
أخيراً، لفتتنا في مقالة العظمة مقولات مضطربة وأحكام قطعية، نشير إلى بعضها: فقد ذهب العظمة إلى أن “القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن”. فهل انعكست الآية اليوم: تكافؤ قانوني، ودونية اجتماعية؟! فقد تجاهل العظمة الشرط العبدي لهؤلاء القيان والجواري، الذي لا ينفصل عن تدهور الشرط الإنساني، بصفته أبرز عوامل الانحطاط وأبرز معالمه؛ فأي تكافؤ فكري وجماعي بين المالك والمملوك، بين الشاري والسلعة؟ كما أن مفهوم الانفعال المنسوب إلى المرأة أو إلى الأنوثة، يبدو في السياق صفة سلبية، ما يشي بأن الفعل إيجابي (ذكورة) والانفعال سلبي (أنوثة)، مع أن الانفعال هو ما يهيئ إمكان الفعل، لا فعل بلا انفعال. ازدراء الانفعال وجه آخر لازدراء المرأة وازدراء الأنوثة. ومقولتا “الأنوثة المطلقة” و”الذكورة الصرفة”، غير دقيقتين وغير واقعيتين، بدليل إمكان تحول الأنثى إلى ذكر وبالعكس، على الأقل.
في سياق “الدعوة” إلى تحرر المرأة يرى العظمة أن “الصوت الرجولي أكبر وقعا وأكثر إقناعا للكافة”. نعتقد أن هذا الحكم جزافي، لم يجد له العظمة سنداً سوى “أن اعتقاداً ما زال سائداً يرى بأن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني”، وهو حكم يضمر أحكاماً جزافية أيضاً على الخياطة والسكرتارية والتعليم وروايات الحب وشعر نزار قباني. والأهم من هذا أن قضية حرية المرأة واستقلالها وجدارتها واستحقاقها لا تزال في إطار “الدعوة”، و”الصوت الرجولي” مجرد صوت رجولي. نعتقد أن قضية المرأة اليوم هي قضية النساء والرجال بالتساوي، قضية الخروج من الحكاية إلى التاريخ وابتكار الحياة.
الجنة المتخيَّلة مكان بلا زمان؛ عالم بلا روح، (تشبه، في هذا، جحيمنا الراهن، ويباسنا المعرفي والثقافي والأخلاقي، ونحن في عز “حيويتنا” وشبقنا)، والمرأة،التي أغوت آدم، وتسببت بسقوطه من الجنة، هي علة وجود الزمان، لولا تلك الغواية، وذلك السقوط، لما كان زمان الحكاية، ولما كانت الحكاية. فحين تكف السيطرة على المرأة عن كونها الطريق الوحيد المؤدي إلى الجنة، تنكسر دائرة الخرافة، وينفتح الزمان مرة أخرى، وتستأنف المرأة والرجل عمل الآلهة في الخلق، وتدخل مجتمعاتنا في التاريخ. حرية المرأة واستقلالها الكياني، في أوضاعنا، شرط لازم لحرية الرجل واستقلاله، شرط لازم لأنوثة معافاة وذكورة معافاة، وحياة تليق بكرامة الإنسان، وشرط لازم للتمتع بالحقوق المدنية: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. والله أعلم.
[1] – دافيد لوبرتون، أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2 -1997، ص 6.
[2]- لا يتعارض هذا القول مع قولة إنغلز: “وحدة العالم في ماديته”، ولكن بشرط أن نعيد تعريف المادة في ضوء منجزات العلم الأحدث، وتفنيد التصورات الشيئية والكتلية، وإعادة تعريف الديالكتيك، على أنه منطق النمو التضميني، وإقامة الحد على التناقضات التعادمية، التي تنسب إلى الديالكتيك أيديولوجياً.
[3]- ليس هنالك اتفاق على أيهما أكثر شمولاً، النوع أم الجنس، وليس من معيار غير اصطلاحي لذلك.
[4]- راجع/ي، إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص 25 وما بعدها.
[5]- ميليسيا هاينز، جنوسة الدماغ، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 333، يوليو 2008، ص 8 وما بعدها.
[6]- ميليسيا هاينز، المصدر السابق، ص 14 وما بعدها.
[7]- ميليسيا هاينز، المصدر السابق، 24.
[8]- سيغموند فرويد، ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1983، الهامش (9)، ص 92.
[9]- لوبروتون، ص11.
[10]- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم.