ما تبقى هو وردة النار

الجمعة 2016/04/01

منذ ميلاد قلمي، كان مداده الدّم، حيث أنني استيقظت على حرب الجنوب والشمال السودانيين، التي بدأت قبل ميلادي باثني عشر عامًا، واستمرت إلى العام 2005، وقد راح ضحيتها ما يتجاوز المليون مواطنًا من الجنوب والآلاف من الجُند من الشمال، وشرّدت وحرقت ودمّرت وأفسدت وقتلت وأسرت واغتصبت والتهمت وأكلت وتبوّلت على الكرامة الإنسانيّة، وخلقت جيلًا متشككًا في القيم الوطنية والأخلاقية والمبادئ الإنسانيّة العامة، وانتهت باتفاقية السلام بين الجنوب والشمال، ذلك السلام الذي لم يكن شيئًا سوى جثة الحرب، ومن ثم انفصال الجنوب حيث نامت جثة الحرب ونهضت على رمادها دولتان بائستان ضعيفتان فاشلتان، ودخلتا في حربين أهليّتين، كل دولة ضد شعبها ومعارضيها في حريق مازال يستعر.

ثم اشتعلت الحرب في دارفور، حرب الإبادة الكبرى، ما بين سلطات الشمال وشعوب دارفور، ثم اتسعت دائرة الحرب لتشمل جبال النوبة والنيل الأزرق وبعضًا من كردفان، وكلّما قتل شخص وشُرّدت أسرة ويُتّم طفلٌ واغتصبت امرأة وأُسر جندي ونهبت مزرعة وحرقت غابة، كلما امتلأت محبرة السرد بدماء طازجة تتحول في البياض إلى كلمات وفي الحناجر أغنيات مشروخات وفي الريشة شبح من اللون والفجيعة، وما كتابتي؟ رسمت الجرح في رواياتي “زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة”، “رماد الرماء”، “العاشق البدوي”، “على هامش الأرصفة”، “الجنقو مسامير الأرض”، وفي رواية “مسيح دارفور”.

القلم الذي مداده الدّم، كلماته الجراحات. والوطن الذي لا يستريح لحظة واحدة من صراخ الجند، أناشيده عواء. وبلادنا تلك الجميلة الشاسعة الخضراء والصفراء والحمراء والبنفسجية والبيضاء البُنية مثل ماء النيل، السوداء مثل طينتها وبشرة مواطنيها، ذات الأهرامات والملوك والمشيخات والأنهر، ترابها ذهب وفي عمقها كنوز الأرض النفيسة: لم تستطع أن تنهض، لم تستطع أن تغادر مناخات الدّم، وعويل الحرب نحو أفق السلام الشاسع والتنمية، فلقد تعثّرت في متاهة حروب الهُويَات وشباكها الرعناء: وتعثرت معها أقلامنا في برك الفجيعة.

وكأنّما العالم كله على موعد مع الحرب، في سوريا الحزينة والعراق، في فلسطين، في اليمن، في الخرطوم، وجنوب السودان، في تونس وليبيا، في الصومال، في قرى نيجيريا، وفي مصر، وفي روسيا، وفي إيران، وفي رواندا ووسط أفريقيا، في الغابات النائيات، في النهر، وفي أميركا، في المسرح، وفي الأندية الليلية، في قلب أوروبا الذي كان آمنًا، وفي البحر الذي يلتهم أبناء اليابسة الفارين عبره وإليه المحتمين به، في السماء، وفي الريح والتراب، وفي قلب كل إنسان، في ضمير الإنسان، في شجاعته، في خوفه، في انتظاره، في الجراحات الشاسعات، في المدينة، وفي عمق المدينة.

ماذا سيكتب القلم، قلم الإنسان. ماذا ترسم ريشته، وكيف تلهو في جسده رقصات الأفراح؟ فالفن يكون كما شميم الريح، عندما تحمل عطرًا يصبح الفن وردة، وعندما تزكمها رائحة البارود، يصبح الفن بحرًا يلتهم الإنسانيّة ومدية في يد قاتل مأجور، فكما نكون يكون الفن: قلمٌ مداده دم، أو زِبَر طيبة. فالحرب لم تترك لنا فرصة للحب. لم تمهل أقلامنا لقبل البنت، لم تلهمنا غير وردة النار.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.