متساوون مختلفون في نقد نظرية التسامح
لقد ولدت فكرة التسامح تاريخيا مع نشوء الظاهرة الدينية، وكانت ولادتها معوقة بعض الشيء، حيث اتخّذ الكثيرون من أصحاب العقائد بالموقف الواحدي المطلق وأصبح أصحاب كل عقيدة يرفضون أهل العقيدة الأخرى ويعتبرونهم آخرين ليسوا منهم أو (خارجين عن الملّة) وبالنسبة إلى الأيديولوجيات الإنسانية تعتبر كل أيديولوجية (الماركسية-اللينينية والنازية والقوميات الشوفينية) الخارج عنها منشق لا يجب التسامح معه.
لقد ظلّت فكرة التسامح تعاني من الخلل طوال العصور الوسطى الأوروبية وتوّجتها الحروب المدعاة تاريخيا، بالحروب الدينية (بين البروتستانت والكاثوليك) التي تعتبر في أحد وجوهها تعبيرا عن عدم التسامح، أو هي التعبير العنفي عن عدم التسامح مع المختلف في الدين.
أما في العصور الوسطى العربية-الإسلامية فقد شهدت حواضر الإمبراطورية تسامحا شهدت له المراجع البحثية الموضوعية بتمتع الناس بنمط رائع بتعايش المختلفين في الحواضر المذكورة، مع استثناء واحد وهو: لحظة اشتداد وحدّة النقاش بين الفرق والنحل، ولجوء هذه القراءات الخاصة للنص الديني والفكرة القرآنية منطلقين من هذه القراءات التي ما أنزل الله بها من سلطان ذاهبة إلى التفسير الواحدي الذي يلبّي رغبة هذه الفرقة أو تلك مهملة لفكرة التسامح وإهمال المرجعية النصية القائلة «لكم دينكم ولي دين» و»من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» و»لا إكراه في الدين» وجاءت الفرق تلعن كل فرقة أختها ولجأت كل واحدة أن ترمي أختها بالكفر والزندقة وترى كل واحدة هي الوحيدة الناجية من عذاب جهنّم. ومن ناحية أخرى، تجد بعض المرجعيات الإسلامية أن الأصل في الدين هو التسامح (انظر الآيات المذكورة أعلاه) وكذلك لجأت مرجعيات أخرى إلى استنباط فكرة التسامح من أسماء الله الحسنى وأحدها: الحليم، والحلم، أي الرشاد حيث تشير إلى الأخذ بفكرة التسامح إزاء من لا يأخذ بالإسلام دينا.
ولعل بداية الطفرات التي عرفتها القارة الأوروبية والنظرة الانقلابية لمسألة التسامح تجسدّت في النهضة الأوروبية، وذلك بالعودة إلى التراثين الإنسانيين الإغريقي والروماني، ثم الثورات الاجتماعية حيث أخذت تميل بشدة نحو مركزية الإنسان، هذه المركزية التي نتجت عنها إعادة بناء فكرة التسامح خارج نطاق النصّ الديني، بمعنى أن التسامح لم يعد مسألة يأمر بها الله بل هي حق إنساني، طبيعي، وفي هذا السياق برزت أسماء من كبار المفكرين الذين كتبوا رسائل في التسامح من قبيل:
جون لوك (1632-17049 )، وفولتير (1654-1778 )، ورسالتهما في التسامح وكذلك بايلي (1647-17609) وليسينغ (1729 -1784 ) وانتهاء برينان (1823-1892)، كما أن الطفرة النوعية الأخرى التي مرت بها القارة الأوروبية أي عصر التنوير، هي التي بلورت تماما فكرة الحق الإنساني الكامل في المساواة-الوجودية الإنسانية، وأقول الفكرة والتي لا تعني بالضرورة التطبيق الأمثل لها أو بعبارة أخرى المساواة بين جميع البشر، بغض النظر عن الفروق الجنسية والعرقية والدينية والثقافية أو أسلوب الحياة، والذي كما هو مفهوم: التسامح.
أما في ثقافتنا العربية المعاصرة، فيقتضي التنويه وذكر عيّنة سريعة من كبار مثقّفينا الذين طرحوا، وعالجوا سؤال التسامح:
أولا: ذكر الراحل محمد أركون مثلا حيث يرى أن التسامح لا يفهم إلا بالقياس بصلته بضدّه إي اللاتسامح وما لا يمكن التسامح به، ويعتبر أركون أن التسامح لم يعرفه السياق الإسلامي حق المعرفة، واعتبر واحدا من اللامفكّر به في الفكر الإسلامي، ويرجع أركون ذلك إلى عائق إبستيمولوجي، يسمّيه بالسياج الدوغمائي، ومصادرات الفكر التقليدي-الأرثوذكسي، وينتهي إلى القول بأن التسامح قيمة من قيم الحداثة وهو نتاج العقل الحديث المؤسس على المساواة الإنسانية الكاملة.
ثانيا: الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، وقوله بتبيئة المفاهيم واعتباره أن عدم التسامح في الثقافة العربية-الإسلامية الوسيطة والحديثة والمعاصرة مرتبط نظريا وتنفيذا بالتفكير الأحادي باتّباع حرفية النصّ الديني وأخيرا صلة الموضوع بصراع الحضارات، أما من الناحية التاريخية العربية-الإسلامية فقد نوقش موضوع التسامح إثر حدث تاريخي معروف وهو الصراع بين علي ومعاوية واختلافهما حول مسألة الخلافة.
لوحة: خالد تكريتي
ثالثا: الدكتورعلي أومليل، حيث يرى أن موقف التسامح هو موقف محايد ويعني التسامح عند أومليل قبول الاختلاف، ويعزو عدم التسامح في الأصل إلى تبنّي الواحدية المطلقة في التفكير، والإيمان بامتلاك الحقيقة المطلقة لدى طرف واحد، دون الآخر ويعرّج في هذا المجال نحو كبار المتصوفة المسلمين الذين تجاوروا بفكرهم وسلوكهم كل أشكال التعصّب، وأن الحقيقة ملك الجميع بغض النظر عن الاختلاف في العقيدة والإيمان، بحيث التزم هؤلاء المتصوفة بالقول بأن الدين واحد وأن الإيمان واحد، وهو ذو أشكال متعددة في ظاهر الأمر بينما الناس كلهم سواسية في الإيمان، ولا فرق بين مسلم ويهودي ومسيحي، فحبّهم لله واحد وإيمانهم به واحد، (أي الأديان الإبراهيمية) ويستشهد الدكتور أومليل، بشعر الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي:
«أدين بدين الحب أنّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان».
سؤال التسامح
أصبحت كلمة التسامح في العربية، وغيرها من اللغات من الذيوع والشيوع، وصولا إلى درجة الابتذال والخلط بينها وعبارة المسامح كريم، ونحن إذ بدأنا ا نعترض تماما إزاء هذا الشيوع والاستعمال الشعبي والنخبوي فسنحاول استبدال هذا المصطلح بغيره بحيث يكون مصطلحا عالما ومثقفا ويقترب من المصطلح الفلسفي، ولكن قبل إبداء اقتراحنا حول استبدال مصطلح التسامح بغيره نقترحه هنا، تجدر الإشارة إلى عبقرية العربية من حيث توفيرها الكمّ الهائل من المترادفات لكثير من الكلمات العربية المعروفة وفي نطاق التسامح هنا، لقد ألفينا عددا لا بأس به من المترادفات والتي تؤدي معنى متقاربا تماما لكلمة التسامح، وندعو إلى تحييد كلمة التسامح التقليدية بعد ما شابها من الالتباس ما شابه، ونحن إذن أمام عدد لا بأس به من البدائل لكلمة التسامح ولنذكر مثلا: التكافؤ الوجودي، ونحن نميل بلا تردد إلى هذا المصطلح، وكذلك يمكن عرض كلمات من قبيل التجانس الوجودي، أو الموازاة الوجودية أو التعادلية الوجودية، أو المساواة، أو النديّة الوجودية، وأعتقد أن العبارات المذكورة توحي من حيث المضمون إل معنى التسامح ولكن ليس من ناحية المضمون الديني، بل على المستوى الإنساني، وغنيّ عن البيان هنا أني استخدمت كلمة التسامح في هذه الصفحات كناحية إجرائية مع بطلان استخدامها من الآن فصاعدا، وأفضل في النهاية عوضا عنها التكافؤ في الوجود (إنسانيا) بين الأفراد والمجتمعات، بين الأكثريات والأقليات بين العقائد والأفكار بين البلدان والأقطار الخ… في المجتمع بغض النظر عن مختلف انتماءاتهم ونمط إيمانهم الديني، لأني هنا غير معني بمعالجة التسامح لا من منطلق ديني ولا في إطار وسياق أيديولوجيين بل من المنطلق الإنساني بالمطلق، وبالتالي يكون العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس على حد تعبير (ديكارت)، هذا العقل هو معيار التسامح الوجودي أو التكافؤ الذي نحن بصدد اقتراحه هنا.
وبعبارة أخري أعني بالوجودي المساواة التامة بين الناس، وما يعبر عنه البند الأول من لائحة حقوق الإنسان 1948 القائل بأن الناس يولدون متساوين أحرارا يتمتعون بالكرامة الكاملة، بغض النظر عن الشكل والهيئة والاعتقاد والعرق والدين والوطن ودون أدنى تمييز، وهم متساوون أمام القانون الإنساني القاضي أولا بحق الوجود، وقداسته المطلقة، وعدم حق أيّ سلطة دنيوية أو دينية في الاعتداء على كرامته وحريته وفي اتخاذ الموقف والرأي والمذهب الذي يرتضيه، وقبوله أو التراجع عنه وليس لأحد الحق في إقحام نظره على الآخر.
الواقع أن التسامح يطرح إشكاليات كثيرة، لا يحلّها إلا العقل المستنير شريطة تمتّع هذا العقل بالثقافة الانسانية، مع الانحياز الكامل للإنسان والقبول الحاسم بمبدأ تعايش المختلفين المتكافئين أنطولوجيا، وعلى الصعيد الإنساني المحض وعدم الركون إلى المضمون الديني للتسامح.
أخيرا تجدر الإشارة هنا إلى كون مسألة التسامح مرتبطة بمسالة العدالة الإنسانية والاجتماعية، وهذه العلاقة بين التسامح والعدالة ناقشها جون رولز في كتابه «نظرية في العدالة» الذي اشتهر في أوروبا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وكذلك حول الموضوع نفسه للأميركي الهندي الأصل أماريتا سن. (انظر في هذا السياق ملحق الخليج المهم حول موضوع التسامح 2 مايو 2016)
أخيرا ثمة أسئلة شائكة يطرحها موضع التسامح من قبيل: هل نتسامح مع التعصب؟ وهل نتسامح من يهدد وجودنا وحياتنا؟ وهل نتسامح مع اللاتسامح وهل نتسامح مع المجرم؟ أو مع عصابات القتل؟ أو مع من يغتصب الأوطان والديار والأراضي؟ أو من يستخدم العنف في سبيل فرض الرأي؟ أو يغتصب الجسد بالعنف الجنسي أو التعذيب لأسباب سياسية ساقطة عقلا؟ أليس من الضرورة الحفاظ على قدسية الحياة ووضع الضوابط مع الاحترام الكامل لإنسانية الإنسان؟ وما هي العلاقة بين الحرية والتسامح؟
أخيرا إن مواقف التطرف والعنف والإرهاب تشوّه روح المساواة الإنسانية أو التكافؤ الوجودي بمصطلحنا أو عبارة التسامح الشائعة، أو عبارة التسامح المتداولة.