محراب المرأة
هل عرف نزار امرأة جادّة في حياته؟ أم أنه أراد أن يرى النساء جميعهن من منطلق واحد، أم تراه كان محاطا بالجميلات في صورتهن المبسطة؟ ستكون مجرّد فكرة تصنيف المرأة التي وصفها نزار في قصائده متجاوزة للعميق من الحس الإبداعي لديه إلى جانب الحسّ الفكري.
يعدّ البعض نزار شاعر الغواية والإغواء، شاعر الرغبة والإغراء أكثر من كونه رمزا وقورا للحب بمعناه الرومانسي تبعا للمذهب الرومانسي العريق في الأدب العالمي، نزار قباني حالة شعرية تتطور وتضمحل وفقا لما تقتضيه الحالة الشعورية لدى المتلقي وحسب القفزات المفصلية للوعي الوجداني والإدراكي لذاته.
ليس بالإمكان أن يُقرأ نزار مرة واحدة لتركنه بعدها في زاوية قصية من ذاكرتك بالبساطة نفسها التي تعيد بها كتابا انتهيت منه إلى موضعه من المكتبة المزدحمة، فهو متفرّد وسيبقى كذلك، حتى أن الأفعال بأزمانها الماضية لا تتراكب والجُمَل التي نختارها الآن للحديث عنه.
بعيداً عن اتخاذ المواقف بناءً على منطلقات نقدية فنية، أو حتى وفقاً لمدارس أدبية، فإن نزار تحديدا شاعر الالتباس. أراه كذلك بعدما مررت معه بتجربة عجيبة في التناقض يقلّ مثيلها، إذ وجدت نفسي أتفق معه في قصيدة حد التوحد، وأختلف معه في أخرى حدّ الخصام، ثم أعود فأجدني أميل إليه في ما كنت قد اختلفت فيه معه وأتجنبه فكرياً وعاطفياً. ولعله بدا لي في أوقات أخرى للدهشة بعالمه الشعري أن ما بي بإزاء شعره إنما هو تناغم تام! ولا أدري -ولا أريد أن أدري- إن كانت كلماته تخاطبني في كل مرة بمستوى شعوري مختلف، أو أنها انعكاس لحالتي الذهنية في وقت ما. في كل الحالات هذا يعني شيئاً مهما ألا وهو أن هذا الشاعر إنما هو حي يرزق في قصائده، والأهم أن قصائده نشطة كالمفاعل المختبئ تحت الأرض، حيوية كغزال يفرّ من الأطر المذهبة إلى مساحات ناعمة كالمروج.
وبالرغم من أني أحببت شعره السياسي أكثر مما أحببت الموضوعات الأخرى، إلا أن نزار لم يكن متبتلا ومتجليا إلا في محراب المرأة. لطالما تهرّبت من قصائده المتحرشة تلك الصبية المراهقة التي نشأت على فكر العيب والحرام، فظنّت أن مباغتته ومبادراته القوية تخدش الحياء. ثم عندما بلغت سنوات أنوثتها الساعية للتكامل أخذها اعتدادها إلى أن قسرها على الرجوع إليه كل مرة يخدش الكبرياء! في قصيدة «أيظن» على سبيل المثال يتقمص الشاعر أحاسيس امرأة غاضبة دون تغلغل إلى أغوار الجرح، وهي بالمناسبة أول قصيدة مغنّاة لنزار انسابت بصوت السحر، شبيه القطن الأبيض؛ نجاة الصغيرة ومن ألحان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، سيقرأها أو يستمع للكلمات من يظن أنها تنصف المرأة منذ مطلعها الأول:
«أيظن أني لعبة في يديه،
أنا لا أفكر في الرجوع إليه..».
لكنه اختتمها بـ:
«ما أحلى الرجوع إليه».
وفي قصيدة «إلى تلميذة» يتجسّد الشاعر صوت الرجل المجروح، على النقيض من الحالة أعلاه، فيقول:
«قولي لي -ولو كذبا- كلاما ناعما
قد كادَ يقتُلُني بك التمثالُ
مازلتِ في فن المحبة.. طفلةً
بيني وبينك أبحر وجبالُ».
لا خلاف في أن نزار قباني كان معلّما من الأوائل الذين علّموا الرجل العربي نظرية الحب المسطح، والتيه في امرأة ناعمة إذا لم تكن جارية فإن الجواري يخدمنها ويتحلقن من حولها، لكننا إذا لم نحمّل نزار مسؤولية إنصاف المرأة العربية والانتصار لكرامتها المسلوبة فسوف نحب نزار أكثر بلا شك. وسنحيط هذا الحب بتقدير عظيم له كإنسان، ومن ثمّ كشاعر شفيف وصادق حتى في تبرير خياناته.