محمد نور الدين أفاية القرد العارف
ما هي باختصار أواليات الدرس النقدي الفلسفي الذي بلورته بعد كل هذا الجولان التقويمي للقضايا التي تناولتها في كتابك: «في النقد الفلسفي المعاصر.. مصادره الغربية وتجليّاته العربية»؟
أفاية: لا يدّعي الكتاب تقديم «أواليّات للدرس النقدي الفلسفي»، وإنما يحاول، بطرق مختلفة، استحضار بعض عناصرها في فصوله المتفاوتة المنطلقات والاهتمامات. أنت تعرف أن النقد قد مثَّل، تاريخيًا، أساسًا مُكونًا لفكر الأنوار إلى جانب العقل؛ حيث تمَّ استثماره، في سياق الصراع بين القديم والجديد، وتحوّل فيها إلى محكمة، كما سمّاها كانط، أو إلى نقد مراقِب. ومنذ هذه اللحظة النظرية التأسيسية جعل الفكر الحديث والمعاصر من النقد نمطًا من الفكر، ومن السلوك، حيث اكتسب فيها صفة التخصص المنتج لمعرفة يقظة.
فالفكر النقدي يستمدّ جدارته، ويستحق تسميته كلما انتزع لذاته فضاءً مناسبًا في النتاج الفكري والنظري والثقافي؛ وذلك ما لا يمكن الوصول إليه من دون تفكير مُنتبه إلى العمل الفلسفي والفكري، باعتباره تفكيراً مجادلاً، مساجلاً، برهانياً، باحثاً عن المعنى. كما أن النقد ذاته قضية نقدية لدرجة أن البعض يرى أن تسمية النقد تسمية زائدة، لأنه مقترن بكل خطاب يفكر بالفعل.
ومعروف أن تاريخ النقد توزع بين النقد المعياري، والأكاديمي، والإيديولوجي، انطلاقًا من اعتبار النقد شرط إمكان تأسيسي لكل فكر عند كانط، مرورًا بالنقد الجسور للاقتصاد السياسي بهدف التغيير الاجتماعي عند ماركس، إلى الأشكال المختلفة للإخفاق الثوري التي اقتضت الاحتفاظ بما سماه تيودور أدورنو «بالجدل السلبي»، إلى آخر انفتاحات «ديريدا» التفكيكية.
يدعو الفكر النقدي إلى إطلاق حرية الفكر والمعتقد، وإخضاع كل المواضيع لميزان العقل، والقيام بنقد شامل للأشياء والمؤسسات، والأفكار والسياسات، والنظر إلى عملياته بوصفها حركة تاريخية شاملة تتعلّق بالطرق الملائمة لتحرير الإنسان، ولانخراطه الكلي في مشروع حياة جديدة انطلاقًا من مبادئ كبرى تتمثل في العقلانية، والحرية، والفردانية، والمساواة، والعدالة.
وتتمثل «أواليات» الفكر النقدي، إذا كان من اللازم استحضار بعض تجلياتها، في مساءلة البداهات، أو ما يبدو كذلك، و كشف مؤثرات «الدوكسا» Doxa السائدة، والكشف عن أطر التفكير والمناقشة التي تستهدف تعليب عقول الناشئة والناس، واستلاب الإرادات، والاعتداء على حرية الكائن، وإلهائه بمظاهر الأمور، وفضح إغراءات الاستهلاك، ومعاندة الإرادات التي تخضع الإنسان لما يستنفر الإدراك والانفعال.
في الغرب كما في الوطن العربي، وعلى الرغم من كل الاختلافات والتفاوتات المعروفة، يجري نقد تدريس الفلسفة في المعاهد والجامعات، وأنت تطرقت إلى مسألة النقد هذه أكثر من مرة، وعلى أكثر من مستوى؛ فكيف تلخص أبرز العوائق التي تحول دون تعلّم فلسفي ناجح، مغربياً وعربياً؟ وأساساً، هل نقبض، في رأيك، على فعل اكتساب التفلّسف الحقيقي، النابه والمتجاوز.. داخل أسوار المؤسّسات التعليمية؟
أفاية: عتبر جيل دولوز أن ما نبحث عنه في الفلسفة، هو صورة جديدة لفعل التفكير، ولنمط اشتغاله. فنحن كثيرًا ما نعيش على صورة ما للفكر. قد نملك قبل التفكير فكرة غامضة عما يعنيه فعل التفكير، أو ما يمكن أن يحمله من وسائل وأهداف. ومن المعلوم أن للفلسفة أساتذة، ومختصون، ومعلمون. لكن هل التخصص في الفلسفة مهنة، أو حتى مادة تعليمية جامعية؟ هذا سؤال متشعب ولا شك، لكن المرء مادام يحيا ويملك عقلاً، فهو قادر على الجمع بين هاتين الملكتين أو القدرتين: الحياة والعقل. غير أنه قد يقال إننا قد نجد أناسًا يعقلون من دون أن يتفلسفوا (كما هو شأن العلماء)، أو يحيون من دون أن يتفلسفوا (كما هو حال البلهاء والأغبياء، أو حتى من هو تحت وطأة شغف جارف..). أن ينتمي المرء إلى حقل الفلسفة، معناه أن يفكر في ما يعرف، وفي ما يعيش، وفي ما يريد. وفي هذا السياق لا يمكن للسياسة أو الفن أو الدين أن يعفي أو يمنع الإنسان من ذلك، بل إن هذه الحقول هي، بدورها، في حاجة إلى مساءلة.
في الحالة العربية، أو المغربية، يبدو أن كثيرًا من المشتغلين بالفلسفة يقرؤون، ويكتبون، ويناقشون قضايا وموضوعات لا علاقة لها بالفلسفة، بالضرورة. وباسمها ينشط فاعلون يدّعون الانتساب إليها لكنهم، في واقع الأمر، يسهمون في قتل الروح الفلسفية أكثر مما يعملون على تغذيتها والسموّ بها. لذلك يعيش الدرس الفلسفي، سواء كان جامعيًا أم ثانويًا، مجموعة ضغوط؛ منها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، ومنها ما هو مؤسسي، وما هو رهين بالسياق المادي، وبالمناخ الثقافي العام الذي يتفاعل معه سلبًا أو إيجابًا. وعلى الرغم من تدهور العملية التعليمية عامة، وتأجيل الأسئلة الوجودية الأساسية على مستوى الفكر، والحقل الفلسفي بوجه خاص، فإن هناك مخاضًا ثقافياً يتساوق مع مختلف أشكال الحرائق التي تشهدها العديد من البلدان العربية، ومع حديث سياسي عن «دولة مدنية»، و»مجتمع مدني» يقول بالحرية وبالمبادرة والمسؤولية. وفي كل الأحوال، هل يمكن القول بمجتمع منفتح من دون تعلُّم ملكة النقد، وممارستها والتصريح بها؟
المهم هو أن الحاجة إلى الفلسفة، هنا والآن، وعلى الرغم من كل العوائق، معناها الحاجة إلى التحرر من عوامل التخلف، وإلى التنوير، وإلى قول الحقيقة وعدم الخوف من الحرية. ومعناها كذلك التخلص من ميتافيزيقا النص والإنصات لتحوّلات الخطاب والواقع. إن التفلسف نقد للمسبقات والأوهام، وللإيديولوجيات. لذلك يعتبر التفلسف عملاً، بل وكفاحاً سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البلاهة، والتعصب والانغلاق، وحلفاؤه مختلف العلوم، وهدفه الحكمة والسعادة. هذا ما جعل آبيقور يعرّف الفلسفة بأنها «نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة».
يبدو أن كثيرًا من المشتغلين بالفلسفة يقرؤون، ويكتبون، ويناقشون قضايا وموضوعات لا علاقة لها بالفلسفة، بالضرورة. وباسمها ينشط فاعلون يدّعون الانتساب إليها
هل هناك فكر فلسفي مغربي حديث؟ وعلى أي أساس يمكن أن نقارب تلكم النتاجات التي تحمل عناوين وأسئلة فلسفية.. أنقاربها، مثلاً، في نتاج أفراد أم في بيان مصنّفات أم بالإمكان حصرها في نطاق موضوعات وقضايا بعينها؟
أفاية: إن المطّلع على تاريخ الأفكار في المغرب يعرف أن ما بين زمن ابن رشد والسياق التاريخي الذي دشن فيه محمد عزيز الحبابي كتاباته الفلسفية (1954) مسافات وفوارق كبرى. وتميّزت هذه الفترة الطويلة بحصار مستمر على العقل والتفكير، بسبب سطوة الدوائر التقليدية على تفكير المغاربة. كانت الفلسفة دائماً ضحيّة الخوف من التفكير ومن الحرية، فتعرضت للمنع والتحريم (ولا نعدم فتاوى وقرارات في تاريخنا في هذا الشأن)؛ الأمر الذي أنتج حالة من الانفصال عميقة في علاقة المغاربة بالفكر الفلسفي، بل و بالتفكير عموماً. ومعلوم أن إصدار محمد عزيز الحبابي كتابه: «من الكائن إلى الشخص.. دراسات في الشخصانية الواقعية» سنة 1954، يعتبر أول نصّ في الفلسفة يوقّعه «مثقف» مغربي شاب سيدشّن به وبكتابات أخرى، آفاقا فكرية ستسمح، طيلة الستة عقود الأخيرة، لمسارات فلسفية مغربية من إثبات جدارتها بالسؤال والنقد والتأليف. والقارئ للمتن الذي أنتجه المغاربة، منذ عملية الاستئناف هاته، سيلاحظ قدرة المشتغلين المغاربة في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانية على الإنصات إلى لغات، وأفكار، وانفتاحات فلاسفة العالم، وعلى استلهامها و»تبيئتها» داخل السياق المغربي الخاص. هكذا نعثر على إيمانويل مونيي وهنري برغسون في شخصانية الحبابي، وهيغل وماركس، وفيبر، وكروتشي والتاريخانية في مؤلفات العروي، وماركس، وفوكو، وبلانشي، وباشلار وألان دو ليبيرا في كتابات محمد عابد الجابري، وسارتر وبارت، ولاكان، وديريدا في أعمال عبد الكبير الخطيبي، وفرويد، وهايدغر، وألتوسير وهابرماس في نتاج محمد سبيلا، وفلاسفة الاختلاف الفرنسيين في نصوص عبد السلام بنعبد العالي، وماكيفيللي وفلاسفة الأنوار في كتابات كمال عبد اللطيف، والفلسفة التحليلية عند طه عبد الرحمن، ومنظّرّي الإبستيمولوجيا في نتاجات كل من سالم يفوت ومحمد وقيدي، إلى الحضور البارز لفلاسفة معاصرين من أمثال هابرماس، وأكسيل هونيت، وجون رولز، وشارل تايلور ونانسي فرايزر ومرجعيات فلسفية أخرى، عمل جيل بأكمله على الانشغال بمتونهم. وعلى الرغم من كل المعوّقات والتحدّيات الكبرى التي تفرضها التيارات المرتهنة للماضي وللتديّن السطحي، تعمل أنوية فلسفية في الجامعات، وفي فضاءات أخرى للتفكير والكتابة، على الاجتهاد في إعادة صوغ أسئلة الوجود، والسياسة، والجسد، والعمل، والقيم، والتراث، والحداثة، التي يطرحها المجتمع المغربي، والعربي، على نخبه.
من هم أعداء الفلسفة في المغرب؟
أفاية: أعداء الفلسفة في المغرب، وفي غيره من البلدان العربية، كُثر. ومعلوم أن المغرب، إلى جانب مصر، وسوريا، و تونس، والجزائر، والعراق، – وهي بلدان درّست الفلسفة في مؤسساتها- حرصت نخبته على الدفاع عن الفلسفة في سياق الدعوة إلى استنبات مقوّمات التفكير العصري والثقافة الحديثة؛ علماً بأن الدرس الفلسفي هاجر إلى المغرب وإلى بعض البلدان العربية، على سبيل المثال، حاملاً معه أزمته الداخلية، بما فيها حمولته الأيديولوجية، التي التصقت به منذ أن تمّ شحنه بـ»الإيديولوجيا الفرنسية» في أواسط القرن التاسع عشر. وحين انخرط البعض في تعريب الفلسفة، في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، بهدف إقصاء عناصر «الإيديولوجيا الفرنسية» و»تأميم» الخطاب الفلسفي، بإكسابه أبعاداً عربية وإسلامية، حصل تصادم إيديولوجي من نوع جديد؛ أعطيت الأهمية لتاريخ الفلسفة وللإيديولوجيا، من خلال صوغ دروس استطاعت تقريب عدد هائل من الشباب والطلبة من الهمّ الفلسفي؛ وفي هذا المجال لعب الأستاذ الجابري دوراً حاسماً، ولكن داخل سياق يُغيّب النص الفلسفي، ولا يستفزّ الروح الفلسفية.
الدرس الفلسفي هاجر إلى المغرب وإلى بعض البلدان العربية، على سبيل المثال، حاملاً معه أزمته الداخلية، بما فيها حمولته الأيديولوجية، التي التصقت به منذ أن تمّ شحنه بـ»الإيديولوجيا الفرنسية»
لم تكن تنظر السلطة السياسية إلى الفلسفة بعين الرضى، بل كانت في عهد ما سمي في المغرب بـ»سنوات الرصاص»، موضوع صراع شديد بين نزوعات المحافظة والتقليد في الدولة، التي كانت تتهيّب من الفلسفة كمجال ينتج السؤال والنقد، والمعارضة السياسية بالضرورة، وبين النخب التحديثية التي كانت ترى أن الفلسفة والعلوم الإنسانية حقول يتعيّن إدماجها في التفكير والبحث وفي المؤسسات لبناء مجتمع عصري حقًّا. وداخل معمعة هذا التجاذب، تمّ توظيف التيارات الإسلامية لمحاربة الفكر الفلسفي.
هل تلاحظ معي أن العديد من العرب الذين أشتغلوا، وبجدّية، في الحقل الفلسفي، وتفوقوا فيه، كانوا وما زالوا، لا يجرؤون على إعلان أنفسهم فلاسفة، بل يتركون التقويم التوصيفي للآخرين، اللهم إلاّ المصري عبد الرحمن بدوي، والذي كان يغضب إذا لم تناده بلقب: الفيلسوف.. وكذلك فيلسوف الشخصانية اللبناني قبله بعقود رينيه حبشي، ولا أعلم ما إذا كان كذلك نظيره المغربي، في الفضاء الفلسفي عينه، محمد عزيز الحبابي الذي تكّلمت عن رمزيته كدور قبل قليل.. ما تعليقك؟
أفاية: يبدو أن تفادي إطلاق تسمية فيلسوف على من يشتغل في حقل الفلسفة يعود، في ظنّي، إلى سببين اثنين؛ الأول يرتبط بثقل التراث والنزعات التقليدية على تاريخ الأفكار في الفكر العربي الإسلامي، وإلى معاداة الفلسفة منذ الغزالي إلى اليوم، والسبب الثاني يتعلّق بـ»المشروعية» الفكرية وبالموقع الاجتماعي للمشتغل بالفلسفة في «سوق ثقافية» تخاف السؤال والنقد؛ إذ غالباً ما يسيء أعداء الفلسفة إلى من يشتغل بها بنعتهم بـ»الإلحاد»، أو «الاستلاب الثقافي»، أو استجلاب «أفكار دخيلة»، أو أنها لا تنتمي، في كل الأحوال، لـ»أصالة» التراث العربي الإسلامي، لأنها جاءت في سياق «الغزو الثقافي»، الذي يتعيّن محاربته بكل الوسائل. ولربما لهذه الأسباب، أيضاً، يلتجئ العديد من «الفلاسفة» العرب إلى البحث في قضايا أقرب منها إلى ما يسميه هشام جعيط «فلسفة الثقافة»، من قبيل التراث، والهوية، والآخر، والتقدم، والسلطة، والتاريخ…إلخ، اللهم إلا استثناءات قليلة.
في ضوء التفلسف أو الفكر الفلسفي، أين تضع تجربة د. عبدالله العروي، خصوصاً وأنه وضع كتباً مهمة للغاية، عالج فيها مفاهيم فلسفية كلاسيكية وأخرى تتصل بالفلسفة، أكثر من اتصالها بمضمار آخر من مضامير الفكر (الحرية، الإيديولوجيا، الدولة، العقل…إلخ)، وكذلك تجربة عبد الكبير الخطيبي، صاحب «النقد المزدوج»، البالغ الفذاذة والعمق كمتفلسف وكعالم اجتماع وناقد.. علاوة على اللبناني ناصيف نصار، الذي رأى البعض في كتابه «طريق الاستقلال الفلسفي» منعطفاً وفاتحة لحقبة جديدة في تاريخ الفلسفة عند العرب بعد ابن خلدون ومحاولات عصر النهضة.. وتجربة أستاذنا التونسي الكبير هشام جعيط الذي ذكرته قبل قليل.. والمصري عثمان أمين؟
أفاية: إن هذا السؤال إشكالي و يصعب تناول أبعاده في جواب عليه، مراعاة إكراهات النشر في حوار صحافي. فأنا أعتبر أن المفكرين الذين أشرت إليهم قدموا اجتهادات يتعيّن، أخلاقيًا وفكريًا، الإقرار بأهميتها، في سياق الحرب الدائمة على العقل والتفكير في العالم العربي. فهم ينتمون، وباقتدار، إلى الفكر النقدي الإنساني؛ لأنهم بنوا صروحهم الفكرية في احتكاك مباشر بتاريخ الأفكار الفلسفية، والتاريخية، والسياسية الذي أنتجها الغرب، كما اطلعوا، في الوقت عينه، على التراث العربي، وعلى التاريخ الفكري الوطني الخاص بكل مفكّر. ولا نشعر بأي حرج لديهم حين يستلهمون هذا الفيلسوف أو المفكر الغربي أو ذاك. ابتداء من زكي نجيب محمود في علاقته بالوضعية المنطقية، أو حين يدعو عبد الله العروي إلى إدماج التاريخانية في الفكر العربي، وإقامة أسس الدولة العصرية، فإننا لا نجده يتردّد في استلهام ماركس الشاب، أو ماكس فيبر؛ أما الجابري وأركون اللذان تكوّنا على كلاسيكيات الفلسفة الحديثة والإسلامية استطاعا، كل واحد بأسلوبه المميز، «تبيئة» ترسانة من المفاهيم والنصوص الفلسفية، من كانط، مرورًا بهيغل، وماركس، وفوكو، وآخرين؛ كما نعثر على حضور كبير للوجودية والفينومينولوجية في النتاج الأخير لناصيف نصار؛ أما الخطيبي، وإن كان منشغلاً دوماً بقضايا الهامش والإبداع، فإنه يعلن، بوضوح، بأنه يفكر من خلال عنصر فلسفي مكبوت فينا منذ الفلسفة الإغريقية إلى الآن. ولذلك حاور وساجل كبار الفلاسفة والمفكرين من سارتر، وبارت إلى ديريدا.
غالباً ما يسيء أعداء الفلسفة إلى من يشتغل بها بنعتهم بـ»الإلحاد»، أو «الاستلاب الثقافي»، أو استجلاب «أفكار دخيلة»، أو أنها لا تنتمي، في كل الأحوال، لـ»أصالة» التراث
بعضهم تحدث عن الحياة بشكل فلسفي.. هل توافق على مثل هذا الطرح؟ وإذا كنت تستأنس به – أي هذا الطرح – فكيف تكون الحياة بشكل فلسفي؟
أفاية: إذا ما اتفقنا مع دولوز بأن الفلسفة هي صورة جديدة لفعل التفكير، فإن ذلك يفترض العيش على صورة ما للفكر. ولقد حاولت في الكتاب طرح سؤال عن معنى القول بإمكانية العيش «بطريقة فلسفية»، اليوم؟ إذ انطلاقًا من أي نوع من الفهم، أو أي قدر من الجهد، يمكن تحويل «حياة عادية» إلى حياة تهتدي بالنهج الفلسفي؟ وإذا سلمنا بأن العيش «فلسفياً» يفترض اختيار نمط حياة تتناغم أو تنسجم مع الفلسفة، أو مع فلسفة ما، فما هي هذه الفلسفة التي يمكنها أن تؤدي إلى محاولة ترتيب شؤون حياة تهتدي بمبادئها؟ وكيف يمكن، إذن، أن تمارس حياة مختلفة مُفكّر فيها انطلاقًا من الفلسفة وعلى هدي منها؟
لا جدال في أن هذا السؤال يفترض إبراز بعض المواصفات العامة التي، بقدر ما تستلهم روح الفلاسفة القدماء، تسترشد ببعض نصوص الفلاسفة المحدثين والمعاصرين؛ إذ يمكن أن تتقدم هذه الحياة، بلا شك، في سياق البحث الدائم عن تحسين شروطها وتجويدها بالقياس إلى ما يتغيّاه الفكر الحي، اليقظ، الذي يختزن ما يكفي من عناصر التشجيع على تقوية الإنسان، وجعله يسمو على أشكال الانحطاط، والاستلاب، والاستبلاد، والاستعباد، وذلك بالاستحضار المستمر والملح للإحساس بمتعة الوجود، وبجماليته،، وفضيلة استقبال الآخر، واستبعاد المسبقات، واستدعاء الفضول المعرفي، والرؤية النقدية إلى كل ما يتقدم باعتباره سلطة، واحتقار الدناءة والخسّة، واللاتسامح، والظلم، أي العمل على إعطاء شكل أكثر قرباً لما هو مفكّر فيه، والإلحاح على توافر قدر من الانسجام مع الذات والآخرين في الأفعال، وفي ما بين الأفكار والأفعال.
قد يبدو الأمر تجريدياً، أو مستحيلا بالنسبة إلى بنية ثقافية محافظة، تقليدية، أو سجينة نزوعات قاتلة تحارب أي احتفال بالحياة، ولكن المتسلح بشروط التفكّر اليقظ، والمتعلق بالحق في الحياة، يمكنه ترتيب وجوده بطرق لا تبتعد كثيراً عن مقتضيات النظر الفلسفي.
إذا كانت الفلسفة الحديثة تركّز على نظرية المعرفة أكثر من تركيزها على نظرية الوجود، فهل يعني ذلك أن أسئلة «الفلسفة أم العلوم» قد أفل نجمها وباتت نزيلة متحف تاريخ الأفكار؟
أفاية: حاولت في الكتاب إعادة طرح هذا السؤال باعتبار، كما تقول، أنه قد طرأت تحوّلات كبرى على تاريخ الفكر الإنساني، وحصلت قطائع في مختلف الحقول المعرفية، وسُحبت من الفلسفة الموضوعات التقليدية التي كانت توفر لها شروط أخذ الكلمة، وغدت، بالتدريج، بلا موضوع. فالقول إن الفلسفة هي تصور عام للكون والمجتمع والإنسان، لم يعد تحديداً مُقنعاً طالما أن هناك اهتمامات علمية جديدة تدرس مسائل الكون والمجتمع والإنسان.
ولكن كيف يمكن الحديث عن معرفة من دون موضوع، أو عن متخصص من دون هوية فكرية واضحة المعالم؟ هل الفيلسوف هو ذلك «القرد العارف بكل شيء»، كما كان يقول بروتاغوراس، أم أن الفلسفة هي «التخصص في العموميات»؟ وماذا بقي للفلسفة، إذن، بعدما انتزعت العلوم الدقيقة والإنسانية أهم القضايا التي كانت منشغلة بها؟ هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في ظل التحوّلات الجارفة الجارية على الصعيد الدولي؟ هل يحتمل منطق العولمة بانكساراتها وأزماتها، وحسابات النجاعة والمردودية الاقتصادية إمكانية إدخال هامش من التأمل والتفكير؟ وما هو دور الفلسفة في المجال الديمقراطي، وفي سياق بدأت تتفجر فيه مظاهر جديدة من العنف؟
كيف يمكن الحديث عن معرفة من دون موضوع، أو عن متخصص من دون هوية فكرية واضحة المعالم؟ هل الفيلسوف هو ذلك «القرد العارف بكل شيء»
ففي زمن الثورة المعلوماتية وهوس الربح والتسابق على المواقع، لتأمين أكثر معاني المصلحة سطحية وتوحشًا، هناك من يميل إلى القول إن للفلسفة دوراً لا جدال فيه لسببين اثنين: الأول يتمثل في أن التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية، لا حصر لها، من شأنها أن تسعفنا في فهم التحولات الجارية أمامنا. وتمثل الفلسفة، من هذا المنظور، مدرسة حقيقية للحرية وحقلاً لتنشيط العقل وشحذ الحس النقدي. وأما السبب الثاني، فإنه يعود إلى الطبيعة التربوية للفلسفة، ويمكن أن أضيف، كما تمّت الإشارة إلى ذلك دورها النافع في ترتيب شؤون العيش بطرق أكثر استجابة لانتظارات الإنسان في الحياة.
هل هناك فكر عربي معاصر؟
إلى أي حد يمكننا القول بوجود فكر عربي معاصر؟ وهل بالإمكان العمل على ظهور تيارات فكرية منطلقة من الفكر النقدي بالذات؟
أفاية: قد يكون من قبيل تحصيل الحاصل القول بوجود فكر عربي معاصر، كما أنه من العبث خوض مناقشة، مهما كانت طبيعتها، مع من ينكر وجوده. لقد أقام المفكرون العرب، منذ أواخر القرن التاسع عشر، صروحاً فكرية تستحق التقدير والاعتراف. فالتفكير في مجتمع متعوّد على الأجوبة الجاهزة وعلى الكسل الفكري، يبدو نشازاً؛ والحال أن مفكرين كبار أثروا الفكر العربي والثقافة في عمومها، وخاضوا من أجل ذلك معارك سياسية وسجالات فكرية في منتهى العمق والإبداعية، من فارس الشدياق، وشبلي شميل، وفرح أنطون، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى، وطه حسين، وأحمد أمين إلى أصحاب المشروعات الفكرية الكبرى؛ إذ ابتداء من الخمسينيات، عمل مفكرون وباحثون على إنتاج متون ترقى إلى مستويات محترمة في الاجتهاد النظري، والفكري. لكن يبدو أن مشكلة الفكر العربي مزدوجة، تتمثل، أولاً في محاصرته من طرف مختلف أشكال الاستبداد السياسي والدوغمائية المذهبية الأصولية، بما فيها التكفيرية، كما يعاني، ثانياً، من العوائق المجتمعية والثقافية التي تحول دون استنبات مقوماته وقيمه في العقول والمؤسسات.
وسيلاحظ الباحث في هذا الفكر من دون عناء كبير، خصوصاً إذا تسلح بما يلزم من شروط النزاهة الفكرية وبمقتضيات تقدير قيمة النظر والتأليف، أن هذا الفكر يستند إلى منطلقات نقدية في أغلب نصوصه، ولاسيما أن أغلب من أنتجه، إما يدعو إلى الإصلاح، أو إلى التغيير، وفي كل الأحوال يدعو، من دون مواربة، إلى تجاوز وضعية التأخر والانحطاط، والتخلّي عن منظومات الفكر الكابحة للتفكير والفعل، والانخراط في مسارات نهضوية، التي بها يمكن استعادة الاعتبار للوجود العربي.
هل نحتاج إلى بناء أدوات معرفية مختلفة عن تلك التي كان يستخدمها نظام الفهم السابق والمستمر بقوة، عربياً، حتى اليوم؟
أفاية: نحن في أمسّ الحاجة إلى بناء أدوات معرفية مختلفة. فبمقدار ما يحوز المتن العربي الذي أنتجه الفكر العربي الحديث والمعاصر قوة وراهنية، يصعب التعويل عليه في إنتاج مقتضيات فهم الحالة التراجيدية التي نشهد فصولها، اليوم. فالعالم تعرض، ويتعرّض لاهتزازت كبرى، يمكن الإشارة، على سبيل الاقتضاب، إلى خمسة معاينات يبدو أنه من دون استحضارها، بالشكل المطلوب، سنكون بعيدين عن الاقتراب من فهم ما يجري أمامنا، وغالبا على الرغم منّا. أول معاينة مرتبطة بالتحولات التي عرفتها، وما تزال تعرفها، العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة. نشهد حروباً جديدة غير متكافئة، خصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكانت الولايات المتحدة الأميركية أهم من فجّرها، وما تزال تصنعها من خلال مختلف «الأحلاف التي تشكلها لمحاربة «عدو» غالباً ما تعمل، أو تشارك، هي، في إنتاجه. تتمثل المعاينة الثانية في حركات العولمة الاقتصادية والتواصلية، على الرغم من التعثرات التي تشهدها بين الفينة والأخرى (الأزمة المالية في خريف 2008 وتداعياتها المستمرة إلى الآن). كل شيء يتعولم، لدرجة أن الدول لم تعد، وحدها، قادرة على احتكار «العنف الشرعي».
هل الفيلسوف هو ذلك «القرد العارف بكل شيء»، كما كان يقول بروتاغوراس، أم أن الفلسفة هي «التخصص في العموميات»؟ وماذا بقي للفلسفة
أما المعاينة الثالثة، فتتجلى في بروز أوجه جديدة للضحية، الفردية والجماعية. وكأن الكل أصبح يتقدم إلى المجال العام في هيئة ضحية يفترض الاعتراف بما تعرض له من اعتداء، أو ظلم، أو استبعاد.. الخ. صور الضحية اليوم، باسم هوية خاصة أو اختلاف خصوصي، أو تنوّع، لا يشبهه أحد، تستدعي تفكيراً جديداً في ظاهرة العنف، أو بالأحرى في الآليات الجديدة التي بدأ العنف يعبّر بها عن مضمونه الثقافي، والتالي التفكير في جدل الهوية، والدين، والسياسة والعلاقات الاجتماعية. ترتبط المعاينة الرابعة بالدور الاستراتيجي لوسائط الاتصال، وللموقع الاجتياحي للتلفزيون؛ إذ من وسيلة اتصال أصبح، شيئاً فشيئاً، سلاحاً حربياً يساعد على التموقع والتأثير، ويهدّد استقرار البلدان كما يلاحظ في الحالة العربية، وتحول إلى أداة غذّت التجليات الجديدة للسلطة تعبر عن ذاتها بواسطة الصور والأصوات. الأمر نفسه ينطبق، بطرق مغايرة، على الإنترنيت.
أما المعاينة الخامسة، فتتمثل في تداعيات الاهتزازات، و مختلف أشكال الحروب الأهلية التي تمخضت عن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العربية ضد الاستبداد وسياسات إذلال الكائن، وما تلى ذلك من فواجع وحرائق تستفزّ وجودنا يومياً.
تفرض هذه المعاينات والمعطيات كافة ذاتها على التفكير في كل مرة، لدرجة يجد المرء نفسه إزاءها أمام ضرورة استدعاء أنموذج مفهومي مغاير لتقديم فهم مناسب للظواهر التراجيدية الجارية على الأرض العربية التي لا يمكن مقاربتها أو ادعاء استيعابها، استناداً إلى مقولات بدايات القرن الماضي.
كيف تفسّر، وإجمالاً، انعدام التجانس بين النخب العربية، المفترض أن تنهض بدورها في هذه الظروف الحرجة والمصيرية التي تمر بها مجتمعاتنا العربية؟
أفاية: تجدر الإشارة إلى أن الاستبداد السياسي، في تحالفه الموضوعي، أو غير المعلن، مع الدوغمائيات المذهبية الدينية، سَحق وحاصر النخب الفكرية والإبداعية. لا يتمثل المشكل في «انعدام التجانس» بين النخب فقط، وإنما أيضاً في السياقات التي تتحرك داخلها هذه النخب. إن سطوة الاستبداد و التديّن السطحي، حشرا المثقفين في زوايا ضيقة جداً، فضلاً عن التبدّلات التي تحصل على نوعية اللغة، وأنماط التواصل، والخطاب، وطبيعة المتلقين، وهي عوامل لها تأثيرها على الثقافة والسياسة. ما دامت السلط العربية تخاف من الفكر، ومن الحرية، وتتحكّم في قنوات وفضاءات التواصل، فكيف يمكن للمثقف أن يقوم بأدواره التثقيفية والتنويرية؟ هذا مع العلم بأنني أعتبر أن نسبة لا بأس بها من المثقفين العرب، قاموا بما يمكن أن يقوموا به من مهام في الكتابة والإبداع. إنني لا أرى فائدة كبرى في جلد المثقف ومطالبته بوظائف لا يقدر عليها في زمن للعنف فيه الكلمة الأولى، وللتكفير مصدر تهديد دائم.
ومن المؤكد، مهما كانت قساوة ظروف التفكير والكتابة، على أن المفكر، أو المبدع مطالب بإنجاز ما يقدر عليه من تفكير وكتابة، وأن يعبّئ كل ما في وسعه لتقديم فهم مناسب لما يجري أمامنا من عبث عصي عن الوصف والتسمية، وأن يسهم في إخراج الفكر والناس من الحيرة التي وضعنا فيها الجميع، أنظمة، وجماعات قاتلة، ودول جوار، وقوى عظمى.
في بلادنا التي يتسلّط فيها الفوات الغيبي على الوعي الاجتماعي، باتت الرعية تتقبّل موتها الوجودي وتجعله أسلوباً في الحياة، وأصبح، حتى الفرد المختلف والمتمرد، نفساً هلامية ذائبة في كيان هلامي كلي.. ما تعليقك؟
أفاية: لاشك، كما يوحي بذلك سؤالك، في أننا كنا ننتظر «تحديثاً» للعقل العربي، وإذ بالتفكير السحري يستولي على عقول العامة، وحتى على النخب والخطباء وعلى الفاعلين الإيديولوجيين الجدد في العالم العربي. إننا نعيش، حقاً، فترة مرعبة، حيث أصبح فيها الموت أمراً معتاداً، وتحوّل القتل إلى صور تستهلك، كما تستهلك الموجودات التي لاحياة فيها؛ بل إننا نشهد على أفكار قاتلة تغتال العقل والوجدان والخيال. لا يتعلق الأمر بجماعات قاتلة، أو إرهابية، وإنما بانتشار أفكار تجعل من القتل شيئاً عادياً. إننا بإزاء تمثلات تقسم الجماعات البشرية انطلاقا من «هوية» متوهّمة تحفز على المواجهة، واللامبالاة، والاحتقار، والقتل. من هنا ضرورة استنطاق هذا الـ»النحن» العربي، وكشف ما هو صحي وما هو مرضي وتدميري فيه، لأن التأكيد المتوهم على هوية ثابتة، يعني ترك الآخرين في «خارج» غير محدد المعالم. إننا نشهد على ما يسميه «مارك كريبون»، وهو أحد الفلاسفة الفرنسيين الشباب، بـ»الموافقة القاتلة»؛ إذ بحكم الاستخفاف الذي بلغته البشرية والعرب بالكائن، وباللحم العربي، في العراق وفي سوريا، ولّد، لاشعورياً، نوعاً من الرضى أو التواطؤ أو المشاركة الجماعية في ما يجري، إما باسم «المقاومة والممانعة»، أو مواجهة «التغلغل الإيراني»، أو «الذود على الإسلام»، أو «محاربة الإرهاب»..إلخ.
يرى البعض أن اضطرابنا في معرفة الآخر يعكس اضطرابنا في معرفة الذات، فلا يمكن أن نعرف الآخر معرفة حقة إذا لم نعرف ذاتنا حق المعرفة..
أفاية: لقد تحالف الجميع على منع التفكير الجدّي في ذواتنا، وفي تاريخنا، وفي حاضرنا، وفي جسدنا، وفي حياتنا وفي موتنا. لقد عمل الاستبداد، العسكري والتيوقراطي، على اجتياح مساحات الإحساس والوعي، وتدخلت الدوغمائية المذهبية للتشويش على الأفكار والناس، ونجحت الصهيونية في تدمير كل مصادر القوة التي يمتلكها، أو كان من الممكن أن يمتلكها العرب، بوصفها عامل تهديد لوجود الدولة التي أقامتها، وتواطأت الدول الكبرى مع كل هذه القوى، بشكل مكشوف ومتغطرس، لأنها تفهم أن هذا التحالف الموضوعي، على الرغم من التنافر الظاهر على مكوناته، هو أفضل سيناريو لمنع أية نهضة عربية تهدّد التوازنات المطلوبة.
الاستبداد السياسي، في تحالفه الموضوعي، أو غير المعلن، مع الدوغمائيات المذهبية الدينية، سَحق وحاصر النخب الفكرية والإبداعية
إن سؤال معرفة الذات واضطرابها، أو نقص المعرفة بالآخر وانعكاسها على الذات، سؤال طرح منذ أكثر من خمسة عقود. وقد عمل عبد الله العروي على صوغه، بوضوح شديد، في «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (1967). ولقد سبق لي أن اعتبرت أن سؤال الهوية – أي تناول سؤال صعب المعالجة- وكأنه عمل بلاغي بامتياز. ذلك أن استدعاء ثنائيات من قبيل أنا/ آخر، شرق/غرب، ماضي/ حاضر، آصالة/ حداثة، هوية/ استلاب، يتمّ في معظم الخطابات العربية الإسلامية، وكأن العالم العربي لم يشهد الاختراق الاستعماري، ولا صدمة التقنية، ولم يطّلع على كتب أجنبية أو ترجمات، بل وكأن الماضي لا يكفّ يحضر، وكأننا منخرطون في معارك لا حدود لها ولا نهاية. وهي معارك انتقلت، بفعل ما يجري أمامنا من انتفاضات، وحروب أهلية جليّة ومقنعة، إلى معارك حقيقية استنفرت كل وسائل الحرب المادية والرمزية، في حين أن المرء يمكن أن يجد ذاته، أو قسطاً من ذاته، إذا ما تساءل عن تفاصيل جسده، أو فكّر في نظامه الغذائي والقرابي، أو في نصوصه ومصنّفاته. هذا فضلاً عن أن مسألة الهوية لا تستبطن أو تعاش بالطريقة نفسها ومن طرف كل الناس. وبمقدار ما أن سؤال الهوية حيوي، بل ومستفز أحياناً، يصبح في بعض الخطابات وكأنه مشكل مُزَيف. هناك صيغ تطغى عليها النبرة المأسوية في الحديث عن هذا الموضوع، وكأن الأمر يتعلّق بنقص أو خصاص في الذات، بل وبفخ جهنمي تتعرض له من كل جانب. مع ذلك، وإذا تجاوزنا هذه الأنماط من الخطاب «المهووس»، فإنه من البديهي أن الحديث عن هوية مكتملة ومحددة بشكل كلي حديث، لا مبرر له في الزمن المعاصر، ولاسيما فيما أصبحنا نشهده من مظاهر ومطالب هويّاتية بفعل العولمة الجارفة، وبسبب الارتجاجات التي تعيشها مجتمعات عربية عدة.
أجري الحوار في بيروت