مختصر الكتب
في سبيل إيثيقا فكرية
ثمة صلات بين المعايير الفكرية والمعايير الأخلاقية، وأرسطو كان يؤكد وجود وحدة فضائل، إذا حزنا إحداها ضمّنا البقية، ولكنه يعترف أيضا بوجود وحدة رذائل. ولو أقررنا بهذه الوحدة، فكيف يمكن أن توجد إيثيقا فكرية تخص معرفتنا وتتميز عن الإيثيقا التي تخصّ أفعالنا؟
في كتاب “رذائل المعرفة” يبين باسكال إنجل أستاذ الفلسفة بمعهد الدراسات في العلوم الاجتماعية أن الإيثيقا الفكرية تنبني على طبيعة الحكم واليقين، فهي تسمح بفهم ما لا يجوز في “الانتحال، والغشّ العلمي، وادعاء الكفاءة، وخلق وعدم التثبت من المصادر أو تجاهل ذكرها، ونشر الأخبار الزائفة، وبعث غرف علمية مزيّفة، أو استعمال مؤسسات علمية لأغراض دعوية”. بفضلها يمكن أن نعيب على بعض المثقفين غرورَهم وعدم شعورهم بالمسؤولية، وبعض الصحافيين بيعَ ذممهم، وبعض مؤسسات الميديا والمواقع الاجتماعية مغالطاتهم، كما نعاتب الكتّاب المحتالين، والمدرسين القاصرين، والطلبة الخاملين، والأكاديميين الفاسدين.
علاقة الترجمة بالقراءة والفكر
ما الترجمة؟ عن هذا السؤال الجوهري يجيب شارل لوبلان: قصتها. ولكي يروي لنا الترجمة كما تبدّت عبر العصور، يستحضر خمس حكايات معروفة هي “بورتريه دوريان غراي” لأوسكار وايلد، و”ملكة الثلوج” لأندرسن، و”صبيّ السّاحر” لغوته، و”اللحية الزرقاء” لشارل بيرو، و”هانسل وغريتل” للأخوين غريم، ليتوقف خمس مميزات في الترجمة، وخمس مراحل أيضا لفن الترجمة، من العصر القديم إلى الرومانسية، ويبين أن الترجمات تهرم، ولكن الأصل يحافظ على شبابه، وأن نظرة القارئ المترجم للنصّ هي التي تبني معناه، ومهما تعددت محاولات المترجم فالكلمة الفصل تبقى للمؤلف.
ويستعين بكل حكاية من تلك الحكايات في تصوير دور المترجم، فالأثر الأدبي هو قصر يمدّ الكاتب شكة المفاتيح، كما في “اللحية الزرقاء” للقارئ كي يفتح أبوابه، والمترجم يسعى في البحث عن المعنى كما يبحث هانسيل وغريتل عن طريق العودة. الجديد في كتاب “التاريخ الطبيعي للترجمة” أن القارئ هو الذي يتصدر المشهد.
سلطة الزمن
“الزمن والسلطة” عنوان ملف بمجلة “أكت” للبحوث في العلوم الاجتماعية، جاء فيه أنه لا وجود لعلاقة بالزمن خاصة بكل ثقافة، وأن الطّريقة التي نقارب بها الزمن متنوّعة داخل المجتمع الواحد، ولها تأثير على وضعيات أخرى، مدرسية ومهنية وسياسية. وتبين دراسة ميدانية كيف أن التفاوت المدرسي مرهون بتلك المقاربة، فكلما صعدنا في السلم التراتبي، ألفينا أن العلاقة بالزمن التي تقرّها العائلة يقابلها ارتفاع نسبة النجاح، حيث ثمة حرص أكبر على دقة المواعيد، والانتظام، والتخطيط، ما يخلق “مادة زمنية” حاسمة بالنسبة إلى المتعلمين.
بخلاف الفئات الاجتماعية الضعيفة التي تكون علاقتها بالزمن عفوية، فلا مواعيد محددة لتناول الوجبات، أو النوم أو المكوث أمام التلفاز. وكلها عادات مفيدة في الإطار المدرسي، وكذلك في الإطار المهني. ولذلك يحرص النشطاء الاجتماعيون على تدريب العمال والعاطلين على احترام مواعيد مضبوطة، وفق ما أسماه صامويل نوبرغ وبولين بلوم “الحكم عن طريق الزمن”.
الديمقراطية والعقل الإنساني الحر
يتفق الملاحظون على أن الديمقراطيات الغربية تمر بأزمة نمط اجتماعي وسياسي كان له موقع هام خلال “الأعوام الثلاثين المجيدة”، وهي أزمة متوقعة من نواح عديدة، وإن فاجأت من تنبؤوا بنهاية التاريخ وانتصار العالم المعولم وقيام ثورة ليبرالية. لمواجهة هذه الأزمة، تقترح كاترين أودار أستاذة الفلسفة السياسية والأخلاقية بلندن في كتاب “الديمقراطية والعقل” الرجوع إلى “مبادئ العدالة” للأميركي جون راولز (1921-2002) الذي أحدث ثورة في الفكر الاجتماعي والاقتصادي، فهو يعتقد أن المساواة والحرية لا تتعارضان كما يزعم عدد من الليبراليين والاشتراكيين، بل تتكاملان بشرط أن تعملا لفائدة المستضعفين حيث يقترح مسعى تعاقديا، على نمط العقد الاجتماعي لدى روسو، يسمح بتحويل مبادئ العدالة بمعزل عن فرض أيديولوجيا ما أو تصورات خاصة. وفي رأيه أن ذلك ممكن تطبيقه بفضل تجربة فكرة “الموقع الأصلي”، الذي يمكّن كل شخص من اكتشاف الوجهة التي يجد فيها مبدآ المساواة والحرية شرعيتهما، ويحظيا حتى في ظرف تعددي باتفاق حر يكون المصدر الوحيد لشرعية ديمقراطية. وهو ما عبر عنه كانط بـ”العقل الإنساني الحر” للدفاع عن الديمقراطية ومبدأي المساواة والحرية ضد أعدائهما.
النقد بوصفه أدبًا
عادة ما نفصل بين الأدب والنقد، بين الكاتب والمعلق. ولئن وجدت عدة دراسات في فن الروائي والمؤلف المسرحي والشاعر، فلا وجود لدراسات عن فن الناقد، وهو ما ينهض له الباحث الفرنسي فلوريان بينانيك في كتاب “شعرية النقد الأدبي”، للنظر إلى النقد كجنس أدبي. فإذا سلمنا بأن النقد هو جنس أدبي من بين أجناس كثيرة، فلا ضير في نحت نظرية تكون شعرية بمعنى نظرية عامة عن الأشكال، ونقدية كشرح لنص معين. وبذلك يمكن أن نستكشف طرق الكتابة وإعادة الكتابة الخاصة بخطاب نقدي، على أن يترك أمر تأكيد صوابها للآخرين، من هوميروس الذي شرحه زويل أو أريستارك إلى بروست وشرح بارت، ومن حواشي العصر القديم والوسيط إلى مقترحات عالم الكتب بجريدة لوموند، ومن المخطوطات اليونانية والبيزنطية والصينية إلى المواقع الاجتماعية، يتنقل الكاتب في مجال أهملته الشعرية.
الفلسفة لتعليم الكبار
الفلسفة لا تعلّم الناس حرفة معينة، ولكنها تسعى لتحويل حساسيتهم وطبعهم وطريقتهم في رؤية العالم أو في علاقتهم بالآخرين. فإذا كانت مهمتهما التكوين بدل الإخبار، فإنها تكتسي طابع تربية الكهول. كذلك يتصور الفيلسوف والمؤرخ وعالم فقه اللغة الفرنسي بيير هادو مفهوم الفلسفة كنمط عيش في كتاب نشر بعد وفاته عنوانه “الفلسفة كتربية للكهول”. وهادو إذ يستعيد كل الفلاسفة الذين عاشر نصوصهم وتجاربهم من سقراط وأفلاطون وإبكتيتوس وماركوس أوريليوس وأفلوطين إلى مونتاني وديكارت ونيتشه وميرلو بونتي، يقدم قراءة لتاريخ الفكر الإنساني لكي يساعدنا على إعادة توجيه حياتنا وتعلم طرائق التطلع إلى العالم بنظرة جديدة. والنصوص التي يقترحها تشهد على قدرته على مخاطبة الجمهور الجامعي وغير المتخصصين المولعين بالفلسفة بأسلوب يجمع إلى الفائدة متعة القراءة.
الجزائر عبر أجيال ثلاثة
“عائلتي الجزائرية” كتاب للصحافية الألمانية أليس شفارزر رئيسة تحرير مجلة “إيمّا” والناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة في ألمانيا، تروي فيه واقع الجزائر، هذا البلد المتنوع في تركيبته ولغاته، والذي يعيش بين التقاليد والحداثة، بين الخوف من عودة خطر الحركات الإسلامية والتوق إلى الديمقراطية، من خلال علاقة وطيدة ربطتها بعائلة جزائرية تتمثل فيها كل تلك السمات، وتعطي فيه الكلمة لأجيال ثلاثة: جيل القدامى الذين تأثروا بالمرحلة الكولونيالية وحرب التحرير والسبعينات التي جعلت من الجزائر قبلة ثوار العالم؛ وجيل الأطفال الذين عاشوا سنوات الرعب الإسلاموي والقمع السياسي؛ وجيل شباب اليوم الموزعين بين الكعب العالي والحجاب، بين أنستغرام ومخلفات اشتراكية بائسة. كتاب يمسح سبعين عاما من تاريخ الجزائر الحديث، يقدم مفاتيح قراءة لفهم ثراء وتشعب أكبر بلد في القارة الإفريقية.
الكذب كثيمة كونية
اختار مؤلفو “معجم بلا نهاية” هذه المرة ثيمة الكذب، تلك الرذيلة التي نجدها في كل مكان، والتي تتبدّى في أوجه عديدة، فقد يكون الكذب دنيئا، أو متخفيا بلبوس الورع والتقوى، وقد يكون رسميا، سخيّا، لامباليا، أو بريئا ومشروعا، وقد يكون أيضا ناتجا عن غير قصد. في هذا الكتاب، يستعرض المؤلفون عددا من النصوص المتنوّعة، كلاسيكية ومعاصرة، من خرافات وروايات ودراسات وشروح للكتاب المقدس وتأويلات عالمة أو متحذلقة. بعضها يتوقف طويلا عند مسألة الكذب وتنوع أساليبه وظروف تجليه، وبعضها الآخر اكتفى بطرفة أو نادرة تغنّي عن الإسهاب. وسواء أكان الكذب حاضرا في الكوميديا أو في التراجيديا، يظل الكذب في الأدب والفلسفة وفي الحياة ثيمة كونية، تشترك فيها كل الأمم على اختلاف معتقداتها وعرقياتها ولغاتها، قديما وحديثا.
المجتمعات البدائية والصورة المفبركة
ظهرت صورة المتوحش مع اكتشاف القارة الأميركية، وظلت تغذي المخيال الغربي طيلة قرون. في كتاب “مستكشفون وسياح ومتوحشون” يروي الرحالة جان طالون، رئيس تحرير مجلة “سمبليتشي” الإيطالية أغرب اللقاءات التي حصلت بين الرحالة والمستكشفين والإثنوغرافيين وبين الشعوب التي لم تعرف الحضارة والتمدن. لقاءات شابتها طرائف كثيرة وسوء فهم متبادل، منذ الغزو الإسباني للقارة الأميركية إلى تشارلز داروين، وصولا إلى السياحة المعاصرة التي يحرص أهلها على إظهار الشعوب التي يزعمون أنها حافظت على عاداتها وتقاليدها ولمظهرها ولهجاتها، ودفعها إلى تمثيل حياتها التقليدية أمام عدسات الكاميرا وآلات التصوير، ثم يتحدثون بعد ذلك عن حياة الشعوب البدائية في كتب ومجلات وأفلام وثائقية، والحال، يقول المؤلف إنّ ذلك كله بعيد عن الواقع، بل أشبه بالإخراج السينمائي، وأقرب إلى الصورة المفبركة.
المسلسلات منطلقا لتأمل فلسفي
المسلسلات الكبرى هي أكثر البرامج التي تحظى بأعلى نسبة من المشاهدة في التلفزيون، ونجاحها لا ينحصر فقط في جانبها الترفيهي، وإنما أيضا في معالجتها قضايا الوجود الكبرى، فـ”ربات البيت اليائسات” تطرح مشكلة السعادة، و”الهروب من السجن” مسألة الحرية، و”دكتور هاوس” تتناول مشكلة البحث عن الحقيقة، بينما تقود سلسلة “24 ساعة كرونو” إلى التساؤل ما إذا كان كل شيء مسموحا به لمقاومة الإرهابيين. في كتاب “فلاسفة وأبطال” يتساءل تيبو دو سان موريس لم لا نأخذ تلك المسلسلات مأخذ الجدّ ونشاهدها من زاوية أخرى، لنجعل منها نقطة انطلاق تأمّل فلسفي؟ وهو ما يقترحه في هذا الكتاب حيث خصص كل فصل لتحليل أحد المسلسلات، وطرح القضية الفلسفية التي تتناولها، وحمل القارئ على قراءة نص أو أكثر لفلاسفة قدامى ومحدثين، وكل ذلك بطريقة تربوية واضحة سعيا إلى الربط بين ثقافة الجماهير والفلسفة، عبر حوار متواصل بين أبطال تلك المسلسلات والمفاهيم الفلسفية.
المغاربية الكاليفورنية
“الحلم الأميركي الجديد” هو عمل إثنوغرافي مديني وضعته ماري بيير أولوا، الأستاذة المحاضرة بمعهد الدراسات العليا في علم الاجتماع، نقلا لتجربة قادتها عبر سان فرنسيسكو ولوس أنجلوس وسان دييغو ووادي السيليكون، واقتفت فيها وضع الشتات المغاربي الذي استقر بولاية كاليفورنيا. ومن خلال شهادات أصوات من مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية، بينت كيف يعيش المغاربيون الحلم الأميركي في الغرب الأقصى، بعيدا عن نظرات الاستعلاء والاحتقار والعنصرية التي خلفها الإرث الكولونيالي بين فرنسا وشمال أفريقيا. من خلال نحو مئة حوار وبحث ميداني في المساجد وقاعات الحفلات ومقرات الجمعيات وحدائق الأطفال والمهرجانات والمطاعم “الإثنية”، سعت الكاتبة إلى تسليط الضوء على بنية مغاربية كاليفورنية تخالف تلك التي يعيشها إخوتهم في فرنسا، لتبيّن مدى اندماجهم في النسيج المجتمعي الأميركي. والمفارقة أن ما يوحدهم هنا أيضا هو اللغة الفرنسية التي نشؤوا عليها فأغلبهم قدم إلى كاليفورنيا من مدن فرنسا وضواحيها هربا من البطالة والتهميش والعنصرية.
زمن العناية بالتفاصيل
جديد رومان برتران مدير الدراسات في معهد البحوث الدولية كتاب بعنوان “جزئية العالم” يبين فيه كيف أن الكلمات تعوزنا عند الحديث عن أبسط المشاهد، وكيف نعجز عن رسم صورة عن مدخل غابة، وحتى مرج، فضلا عن النباتات الغريبة كالعافث والقُصْوان والحوضيّة. وهو ما لم يكن كذلك زمن غوته وهمبولت، حين كان تاريخ العلوم الطبيعية يهتمّ بكل الكائنات، دون تحديد أو تمييز، ويسمح لنفسه بمزج العلم بالأدب للسمو برسم المنظر الطبيعي وجعله معرفة لا غنى عنها. في ذلك الوقت، كانت المجرات وحزاز الصخر، الطفل والفراشة تتجاور جنبا إلى جنب في سرد واحد. ليس لكون الإنسان قليل الأهمية، بل لكون كل شيء ذا أهمية لا تُحدّ. من رسومات ألفريد والاس إلى “نثشعر” proêmes فرنسيس بونج، ومن كتاب الحيوان لوليم سوينسون إلى سونيتات ريلكه يغري الكتاب بسماع الأنغام العذبة حيثما كانت، لمعرفة قديمة بالعالم، كانت تصنّف كل الكائنات حسب ألوانها وتركيبها، وتصوغ بأضوائها قواميس.