مدرسة الأنطاكي

الخميس 2016/09/01
لوحة: حسام بلان

في منتصف السبعينات، لم يكن يزعجنا، شقيقي وأنا، ذلك السفر اليومي من درب «مارشينوار» بحومة «باب الخميس» إلى مدرسة الانبعاث بعرصة الملاك. كانت «الانبعاث» منزلًا عصريا بمعايير تلك الأيام حوّله أصحابه إلى مدرسة للتعليم قبل الابتدائي. أمر ممتاز إذن أن يصير للحومة ملاذ تربوي عصري نستجير به من جهامة السي بلقايد وكُتّابه القرءاني العتيق بزنقة سيدي موسى الزحّاف، وهو الكُتّاب الذي حوّل التعليم إلى شأن بالغ الخشوع قبل أن يكبر تلامذته القدامى من أبناء الجوار ويحوّلوا مدرستهم الأولى تلك إلى مسجد بعدما غادر السي بلقايد مجلسه الجليل في قلب الكتّاب إلى دار البقاء. في مدرسة الانبعاث كانت الأجواء أكثر انطلاقا وأقل قتامة من كتاب السي بلقايد. فهناك اكتشفنا لأول مرة أن الدراسة تعني أيضًا فيما تعنيه ممارسة الرسم وترديد الأناشيد. لذا لم نكن نتردّد في رفع عقيرتنا مع نهاية كل حصة لنصدح بملء حناجرنا:

«مدرستي حلوة/مدرستي حلوة/مدرستي جنّة/فيها تربّينا». أمّا في عيد العرش حين كنا نحضر إلى فناء المدرسة بدرهم في الجيب وكأس فارغة من أجل الشاي، فقد كنا نتدرّب في الطريق إلى المدرسة على الأغنية الأثيرة لدى معلمنا السي أبو البنّاء:

«شمس العشي قد غرّبت واستغربت/عيني من الفورقا…».

بوصولنا لستّ سنوات، سن التسجيل في المدارس العمومية، عدنا إلى باب الخميس من جديد. وبالضبط إلى درب الحاج أمين المجاور لدرب مارشينوار حيث مدرسة الأنطاكي الابتدائية. كانت معروفة لدى العامة بمدرسة البرادعية بسبب وجودها في زنقة البرادعية ومجاورتها لصنّاع البرادع. لم أستسغ يومها أن يستولي البرادعية الذين يتنافسون في تتويج حمير المدينة وضواحيها بالبرادع على مدرسة نقصدها لتنوير عقولنا كي لا نظلّ حميرًا. هكذا، كنتُ أصرُّ على «الأنطاكي» تسميةً للمدرسة وعنوانًا لها. الأنطاكي الذي نصّبَتهُ حكمةٌ غامضةٌ شيخًا على المكان. فهناك في الجوار كان مستشفى الشيخ داود الأنطاكي المتخصّص في أمراض العيون والمعروف بسبيطار الخميس يُعَدّ أهمّ معالم حومتنا العتيدة ومفخرتها في كلّ مراكش والنواحي. وفي حيّز مستقطع من المستشفى الكبير، كانت تقبع مدرسة الأنطاكي للمكفوفين، بالإضافة إلى مدرستنا الصغيرة التي يريد هؤلاء البرادعية الأجلاف مصادرة اسمها العلمي المرموق.

مدرسة عمومية في بيت مراكشي عتيق. بيت فسيح من أربع غرف في الطابق الأرضي ومثلها في طابقه العلوي. غرف طويلة كما يقتضيه المعمار التقليدي القديم تحوّلت إلى أقسام طويلة مظلمة. طولٌ فادحٌ يُغري بتحوير هجائية ابن الرومي لصديقه عمرو لتصير:

«وجهكَ يا قِسمُ فيه طول/وفي وجه الكلاب طول».

اقتصار القسم على صفين طويلين من المقاعد كان يسهل كثيرا من مهمة المعلم. ففي الصفوف الأمامية يجلس المجتهدون الذين غالبا ما يكتفي المعلم بهم وبتجاوبهم. أما الصفوف الخلفية فهي منفى الكسالى الذين من حين إلى آخر يُفاجئنا المعلم وهو ينادي على أحدهم بعد ضبطه متورّطا في شقاوة ما ليمارس عليه عقوبة «الفلقة». يستلقي التلميذ على ظهره ويرفع رجلين حافيتين بعد أن يتمّ تثبيتهما جيدا بحبل مشدود إلى طرفي عصا غليظة يشدّها رفيقان قويان من جهابذة الكسل -في الغالب كان عشيق ولد «درب درقاوة» وأبو الخير ولد «عين إيطّي» يفيان بالغرض- لينهمر سوط المعلم مدرارًا على الرجلين الصغيرتين في مشهد تعذيب ألفناه كما لو كان جزءا من وسائل الإيضاح البيداغوجية التي لا غنى للحصة عنها. طبعا كان علينا تأطير علاقة ودية مع عشيق وأبو الخير لأنهما إذا ما أضمرا للواحد منّا شرًّا فإنهما بشدّ الفلقة وإحكامها جيّدا حول قدميه الطريتين يجعلان حفلة التعذيب تبدأ حتى قبل أن يهوي سوط المعلم. ورغم أن العناية الربانية حشرتني منذ القسم التحضيري في زمرة المجتهدين إلا أنني لم أنجُ من عقوبة الفلقة بسبب فائض الشقاوة. كنّا نجد متعة لا تضاهى في إطاحة دواة حبر من نريد الانتقام منه ليسيل الحبر على دفتر الزميل الذي يعاقَب فورًا على ذلك، في انتظار أن يتطوّع فاعل خير كاشفًا للمعلم اسم الفاعل الحقيقي ليجد هذا الأخير نفسه معلقًا برجلين مرفوعتين إلى أعلى فيما صراخُه يتعالى ليعمّ أرجاء المدرسة.

لم يكن في مدرستنا جرس. كلّ ما أذكره، أن تصفيقًا للمدير أو لأحد المعلمين في الفناء -الذي كنا نسمّيه تعسفًا ساحة- كان يكفي لننتفض في مقاعدنا مُحْدِثين تلك الجلبة الجميلة التي تبشّر بفترة الاستراحة أو بانتهاء الحصة. فترة الاستراحة كانت تعرف اكتظاظا للتلاميذ بتلك الساحة/الفناء حيث نمارس فوضانا الصغيرة تحت عيون المعلمين ونظراتهم الشزراء. لم نكن نهرب من نظراتهم إلا حين ننعطف باتجاه المراحيض. للذهاب إلى المراحيض كنّا نعبر بهوا مظلما يصيب بالرهبة. على جدران الممرّ المؤدي إلى المرحاض رُسِمت عينٌ تتوسّط كفًّا. كان يُشاع أنها تخرج من رسمها على الحائط لتنكّل بالأطفال. كم كانت هذه العين الشيطانية تثير في قلوبنا الصغيرة من الرعب. تبدأ البنات بالصّراخ والتصايح فيعدو الصغار إلى الخارج لا يلوون على شيء. وكم مرة كان علينا أن نستعطف الحارس لكي يفتح لنا باب المدرسة للذهاب إلى بيتنا في الدرب المجاور من أجل قضاء الحاجة بعيدًا عن هذا الممرّ الموحش ذي العين المتوحشة.

لكن مشهد الفزع الأكبر عشناه خلال ظهيرة قائظة من شهر مايو. الطقسُ كان حرًّا والفترَةُ استراحة. وكنا نركض في ذلك الفناء الضيق ونتناطح كالخرفان عندما صرخت المعلمة نعيمة صرخة هائلة قبل أن تقع مغشيًّا عليها. هبّ المعلمون إلى نجدتها وتحلّق حولها التلاميذ ليكتشف الجميع وجود ثعبان على مقربة من باب القسم. بدأ الصراخ والعويل والركض في كل اتجاه. الثعبان نفسه فقد عقله فزعًا من صراخنا ليزحف سريعًا دونما هدف واضح مثيرا حوله المزيد من الصراخ والتدافع. هنا برز إلى المشهد معلمنا السي الشروقي. كان إلى جانب حارس المدرسة بطلا ملحمة الفزع، إذ أفلحا في قتل الثعبان منهيين فصل الهلع ليتم حمل المعلمة نعيمة إلى مكتب المدير فيما عدنا نحن إلى أقسامنا وقد أهملنا تمامًا حكاية الانتباه إلى السبورة لنكتفي بتفقد أرجلنا الصغيرة حتى لا يلتفّ حولها ثعبان أو أفعى.

«مدرستي حلوة/مدرستي حلوة/مدرستي جنّة/فيها تربّينا».

الجنة ظلت حبيسة الخيال ولازمة النشيد، فكل شيء في مدرسة الأنطاكي كان يُحيل بالمقابل على النار وعذابها، من رسم العين في ممر المرحاض إلى ثعبان الساحة مرورًا بفلقة المعلم. كما أن كلّ معالم هذا البيت المراكشي المتهالك كانت تُحيل على العتاقة والقدم. إذ لم يتغيّر في هذه البناية شيء تقريبا مذ كان والدي تلميذا في ردهاتها في الخمسينات من القرن الماضي. كان مديرهم حينها الشيخ الفقيه عبدالسلام المسفيوي جبران. وكان السي قبّاب أحد المعلمين. السي قبّاب بقامته الفارعة ولحيته البيضاء وجلبابه الصوف ظلّ هناك في نفس المدرسة وفي نفس القاعة يُدرِّس نفس المستوى ربما ليصل ماضي والدي البعيد بحاضرنا الشاحب.

*** *** ***

كدأبي كل سنة، قضيتُ عطلة رأس السنة بالحمراء. وفي صباح مراكشي صاف ومشرق، كنت رفقة أخي بالسيارة عندما طلبتُ منه أن نعرج على «عرصة الملاك» وåباب الخميسò لنلاحق بعض ذكريات الصّبا هناك. دلفنا إلى قشيش، وركنّا السيارة قرب إعدادية عبد المومن. تذكرتُ فرحنا بتلك الأربعاء السعيدة التي كانت فيها مادة التربية البدنية أول حصة نفتتح بها الفترة الصباحية. كنا نذهب إلى الإعدادية لابسين ملابس الرياضة بعدما أقنعنا الأسرة بأن تغيير الملابس في مستودع الإعدادية مضيعة للوقت. كنا نريد أن نظهر للجيران أترابا وأمهات أننا لم نعد مجرد أطفال ندرس بالابتدائي. بل صرنا من تلاميذ الإعدادي الذين يحملون دفاتر كبيرة الحجم ويلعبون الرياضة في المدرسة ويشاركون من حين لآخر في الإضرابات التلاميذية التي كانت تندلع في شوارع المدينة بتواترٍ مطلعَ الثمانينات.

عرّجنا إلى باب الخميس. وهناك فاجأني السي عبد الله بقامته القصيرة ولحيته التي وخطها الشيب وراء كونتوار مكتبة السنّة. المكتبة التي كنّا نزدحم خلفها بلائحة الأدوات في بداية السنة. كان السي عبد الله يتحرك في مكتبته بهمّة نحلة كما لو أن العقود الثلاثة ونيف التي تفصله الآن عن لحظتنا البعيدة محضُ إشاعة. الفرن الذي كان تناوبُنا، شقيقي وأنا، على توصيل الخبز إليه على رؤوسنا الصغيرة بسيزيفية مضنية ما زال على حاله كما لو أن بوصلة الزمن توقّفت تمامًا في تلك الناحية. أذكر الآن فرحتنا بيوم الجمعة. ليس فقط لأنه كان يوم عطلة، بل بسبب الكسكس الرحيم الذي، ولو لم نكن مغرمين به، كان يُريحنا من عناء إيصال الخبز إلى الفرن. الحمّام الذي كان والدي يصطحبنا إليه بعد صلاة الفجر مباشرة، ظلّ أيضًا ولسنوات حصة تعذيبٍ صباحي لا أنسى مكابداتها. حدث معنا أكثر من مرة أن جلسنا في برد الشتاء المراكشي القارس منتظرين أن يفتح الحمّام أبوابه لنغتسل سريعا ونخرج كما لو أن الاستحمام طقس محرّم نختلسه في غفوة من الجميع. السقاية الفسيحة المتاخمة لدرب السقاية حيث كانت تسكن زميلتنا مريم العبديوي تحوّلت بكل بشاعة إلى موقف للسيارات. السقاية التي كنا نمرح فيها خلال ظهيرات مراكش القائظة كأفراس نهر صغيرة جفت من مائها لكي تفسح لصفائح الفولاذ في المجال. هذه السقاية ذات الطراز السعدي البديع يمكن أن تتحوّل سريعا إلى تراث إنساني في أيّ بلد يحترم عمرانه.

وصلنا إلى درب الحاج أمين حيث مدرستنا القديمة، لينتصب أمامنا سور أخفى الساحة الصغيرة التي كنا نصطفّ فيها أمام الباب منتظرين خروج الفوج الأول قبل ولوج الباحة الداخلية للمدرسة. لقد تمَّ تحويل الساحة التي أرّخت لحروبنا ومعاركنا الصغيرة إلى موقف لسيارات الفرنسي الذي اشترى البيت وعمد إلى ترميمه محوّلًا مدرستنا الكئيبة إلى «رياض» باذخ يقبض فيه على سحر الشرق وعبقه.

وقفنا أمام الباب الخشبي الهائل الذي انتصب سدّا منيعًا أمامنا وأمام سيل الحنين. ضغطتُ على الجرس ليخرج الحارس الجديد للمكان. شاب في الثلاثين يرتدي بلوزة زرقاء يباطِنُ أساريرَ الترحيب التي ارتسمت على محيّاه بعضُ التوجّس. يشتغل في الرياض منذ عشر سنوات ولا يعرف شيئا عن ماضيه الأكاديمي العريق. رويتُ له بعض فصول الحكاية واستأذنته في زيارة سريعة لمدرستي القديمة. كان رده بالنفي حازما. استدركتُ مقترحًا عليه إخبار المالك الفرنسي عساه يكون أكثر تفهّما لرغبتي الملحة في أن أطل للحظات فقط من باب هذه البناية على قعر طفولتي الغابرة. قال بأن صاحب البيت مشغول بضيوفه من السياح الفرنسيين الذي اختاروا قضاء رأس السنة بمراكش، وهم الآن يستعدّون لتناول وجبة الغداء، ولن يجرؤ على إزعاجهم. هكذا اعتذر منّا بأدب ثم أوصد الباب خلفه لنرجع أدراجنا تاركين الضيوف الفرنسيين يستمتعون بلحظتهم السياحية في هذه الجنّة الصغيرة. هل قلت جنّة؟ يبدو الأمر كذلك. فكّرتُ في أن مدرستي القديمة قد تحوّلت أخيرًا إلى جنّة. تمامًا كما في النشيد. جنّة حقيقية بلا فصول ولا معلمين. جنّة مفتوحة في وجه السياح. وحدها سياحة الذاكرة والوجدان لم تخطر على بال رضوان، هكذا سمّيتُ في البال الحارسَ الباسِمَ ذا «البلوزة» الزرقاء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.